الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/05/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : القبلة
ويؤيِّد ذلك : مراعاة هذه الأجزاء والشَّرائط في الصَّلاة في السَّفينة ، كما دلَّت عليه الرِّوايات التي تقدَّم بعضها ، ويأتي البعض الآخر في الأمر الثالث ، أي في صورة الاضطرار .
ثمَّ إنَّه مع قطع النظر عمَّا ذكرناه ، وسلّمنا بإطلاق الأخبار المتقدّمة أنّها شاملة لهذه الصُّورة ، إلَّا أنَّه يعارِضها ما دلَّ على عدم جواز الصَّلاة في السَّفينة اختياراً ، مثل حسنة حمَّاد بن عيسى المتقدِّمة .
والجمع العرفي بينها : هو حَمْل الحسنة على صورة عدم إمكان الصَّلاة تامَّة في السَّفينة .
ثمَّ إنَّه قد يُستدلّ للقول بالجواز مطلقاً - أي : حتَّى في صورة عدم استيفاء تمام الأجزاء والشَّرائط - بما رواه الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله في الهداية مرسِلاً (قال : سُئِل الصَّادق عليه السلام عن الرَّجل يكون في السَّفينة ، وتحضر الصَّلاة ، أيخرج إلى الشطِّ ؟ فقال : لا ، أترغب عن صلاة نوح ، فقال : صلِّ في السَّفينة قائماً ، فإن لم يتهيَّأ لك من قيامٍ فصلِّها قاعداً ، فإنَّ دارت السَّفينة فدر معها ، وتحرّ القِبلة جهدك ... )[1] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .
وقدِ استُدلَّ أيضاً بما في الفِقه الرَّضوي : (إذا كنت في السَّفينة ، وحضرت الصَّلاة ، فاستقبِل القِبلة ، وصلِّ إن أمكنك قائماً ، وإلَّا فاقعد إذا لم يتهيَّأ لك ، فصلِّ قاعداً ، وإن دارت السَّفينة فَدُرْ معها ، وتحرَّ القِبلة ... )[2] .
وفيه : ما عرفت من أنَّه لم يثبت كونه رواية عن الرِّضا عليه السلام ، بل لعلَّه فتاوى لابن بابويه رحمه الله .
مع أنَّه معارَض بالمرسَل المروي في الرَّضوي ، حيث قال رحمه الله - بعد الكلام السَّابق - : ( ورُوي أنَّه تخرج إذا أمكنك الخروج ... )[3] .
وهذه المرسلة أقوى من نفس الكتاب ، لأنَّها رواية وإن كانت مرسلةً ، أمَّا الكتاب فلم يثبتْ أنَّه رواية .
ولكنَّ الإنصاف : أنَّه لا يمكن إثبات مثل هذا الحكم المخالِف للأصل ، وإطلاقات أدلَّة التكليف ، بمثل هذه الأخبار الضعيفة ، مع معارضتها بحسنة حمَّاد المتقدِّمة .
وعليه ، فالأقوى ما عرفت منِ اختصاص الجواز على تقدير التمكُّن من الخروج بما إذا لم يستلزمِ الصَّلاة في السَّفينة الإخلال بشيء من الأجزاء والشَّرائط الاختياريَّة .
ولا فرق في الجواز بين أن تكون السَّفينة واقفةً ، أو سائرةً ، كما في الرَّاحلة ، والله العالم .
الأمر الثالث : إذا لم يتمكَّن من الأرض ، والصلاة عليها ، مع الإتيان بجميع الأجزاء والشَّرائط ، فلا ريب أنَّه يصلِّي في السَّفينة على أيِّ نحوٍ كانت ، لمكان الضَّرورة ، ويتحرَّى الإتيان بتلك الواجبات حسب الإمكان ، وذلك لِعدم سقوط الصَّلاة بحالٍ ، فصحتها حينئذٍ على طبق القاعدة .
ومع ذلك يدلُّ عليه بعض الرِّوايات :
منها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سألتُه عن صلاةِ الفريضةِ في السفينةِ ، وهو يجد الأرض ، يخرج إليها - غير أنَّه يخاف السَّبع أو اللصوص ، ويكون معه قوم لا يجتمع رأيهم على الخروج - ولا يضع وجهه إذا صلَّى ، أو يُومِئ إيماءً قاعداً أو قائماً ؟ فقال : إنِ استطاع أن يصلِّي قائماً فهو أفضل ، وإن لم يستطع صلَّى جالِساً ، وقال : لا عليه أَنْ لا يخرج ، فإنْ أبي عليه السلام سَأَله عن مِثْل هذه المسألة رَجُل ، فقال : أترغب عن صلاة نوحٍ ؟! )[4] .
ومنها : صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام (قال : سألتُه عن السَّفينة لم يقدر صاحبها على القِيام ، يصلِّي فيها وهو جالس يُومِئ ، أو يسجد ؟ قال : يقوم وإن حنى ظهره)[5] .
ومنها : صحيحة الحلبي - في حديث - (أنَّه سَأَل أبا عبد الله عليه السلام عن الصَّلاة في السَّفينة ، فقال : إن أمكنه القِيام فَلْيصلِّ قائماً ، وإلَّا فَلْيقعد ثمَّ يصلِّي)[6] .
ومنها : صحيحة معاوية بن عمَّار (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الصَّلاة في السَّفينة ، قال : تستقبِل القِبلة بوجهك ، ثمَّ تصلِّي كيف دارت تصلِّي قائماً ، فإنْ لم تستطع فجالساً يجمع الصَّلاة فيها إن أراد ، وَلْيصلِّي على القير والقفر ، ويسجد عليه )[7] .
ومنها : رواية سُليمان بن خالد (قال : سألتُه عن الصَّلاة في السَّفينة ، فقال : يصلِّي قائماً ، فإن لم يستطع القيام فَلْيجلس ويصلي وهو مستقبل القبلة ، فإن دارت السَّفينة فَلْيدر مع القِبلة إن قدر على ذلك ، فإنْ لم يقدر على ذلك فَلْيثبت على مقامه ، وليتحرَّ القِبلة بجهده ، وقال : يصلِّي النافلة مستقبل صدره السَّفينة وهو مستقبل القبلة إذا كبَّر ، ثم لا يضرّه حيث دارت)[8] ، وهي ضعيفة بالإضمار بمحمَّد بن سنان .
ومنها : صحيحة حمَّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام (أنَّه سأل عن الصَّلاة في السَّفينة ، فقال : يستقبل القِبلة فإذا دارت فاستطاع أن يتوجَّه إلى القِبلة فَلْيفعل , وإلَّا فَلْيصلِّ حيث توجَّهت به ، قال : فإنْ أمكنه القِيام فَلْيصلِّ قائماً ، وإلَّا فَلْيقعد ، ثمَّ ليصلّ )[9] .
قوله : (ولوِ اضطرَّ إلى الصَّلاة على الرَّاحلة أو السَّفينة ، وجب تحرِّي القِبلة ، فإنْ تعذَّر فالبعض ، فإنْ تعذَّر فبالتحريمة ، فإن تعذَّر سَقَط)[10]
تقدَّم الكلام في الأمر الثالث عن الصَّلاة في السَّفينة اضطراراً .
أمَّا الصَّلاة على الرَّاحلة اضطراراً - مع عدم استيفاء تمام الأجزاء والشَّرائط - : فلا خِلاف في جوازها ، إذ الصَّلاة لا تسقط بحالٍ ، فهي على طبق القاعدة .