الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/05/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : القبلة
قوله : (وفي الأرجوحة وجهان)
قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (ومن هذا يظهر عدم صحّة الصّلاة في الأرجوحة المعلّقة بالحِبال ، فإنَّها لا تعد عرفاً مكان القرار ، ويمكن الفرق بينهما بأنّ البعير المعقول معرّض لعدم الاستقرار ، بخلاف الأرجوحة ... )[1] .
وفي قواعد العلَّامة رحمه الله : (وفي صحَّة الفريضة على بعير معقول ، أو أرجوحة معلَّقة بالحِبال ، نظر ... )[2] .
أقول : حكم الصَّلاة في الأرجوحة هو حكمها على الرّاحلة طابق النعل بالنعل ، فإذا كانت الصَّلاة فيها مفوّتة لبعض ما يعتبر فيها ، كالإستقبال والقيام والركوع والسجود ، ونحوها ، فلا إشكال حينئذٍ بطلانها ، وإلَّا فتصحّ كما عرفت في الصَّلاة على الرّاحلة ، ويشير إلى الصّحَّة أيضاً ما سنذكره في الصَّلاة على الرفّ المعلّق .
قوله : (أمَّا الرفّ المعلّق بين حائطين ، أو نخلتين ، فجائز ، ما لم يضطرب المصلّي عليه)[3]
ويدلّ على الصّحَّة - مضافاً إلى ما عرفته في حكم الصَّلاة على الدّابة - : صحيحة عليّ بن جعفر المتقدِّمة عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل هل يصلح له أن يصلّي على الرفّ المعلَّق بين نخلتَيْن ؟ فقال : إن كان مستوياً يقدر على الصَّلاة فيه فلا بأس ... )[4] ، وهذه الرَّواية وإن كانت ضعيفة في كتاب قرب الإسناد بعبد الله بن الحسن ، فإنَّه مهمل ، إلَّا أنَّها صحيحة بطريق الشَّيخ رحمه الله ، والمراد بالمعلَّق بين نخلتين ، ما كان بالحِبال ، أو الأعمّ منه ، ومن المسمّر بالمسامير .
وعلى هذا لا إشكال في الصحة أصلاً ، لعدم الحركة .
قوله : (ولو احتمل قوم سريراً عليه مصل ، وأمن منهم الاضطراب والانحراف ، فالأقرب المنع)
وفي الذكرى ذهب إلى الصّحَّة ، قال : (ولوِ احتمل قوم سريراً عليه مصل ، فكالبعير المعقول ، بل أَوْلى بالصّحَّة هنا ، لأنَّه قد يُؤمن منهم أسباب الاختلال)[5] ، وهو الصحيح ، إذ لا موجب للبطلان .
وبالجملة ، حكمه حكم الصَّلاة على الرّاحلة بلا فرق بينهما .
ويؤيِّده : حسنة إبراهيم بن أبي محمود (أنَّه قال للرّضا عليه السلام : الرّجل يصلّي على السَّرير من ساج ، ويسجد على السَّاج ، قال : نعم)[6] ، وهي وإن لم تكن ظاهرة فيما نحن فيه ، إذ لم يفرض فيها حمل السَّرير من قوم ، إلَّا أنَّ الصَّلاة عليه ليس من القرار المعهود ، ومع ذلك فالصَّلاة عليه صحيحة .
ومثلها رواية محمد بن إبراهيم الحصيني (قال : سألتُه عن الرَّجل يصلِّي على السَّرير ، وهو يقدر على الأرض ، فكتب : لا بأس صلِّ فيه)[7] ، ولكنَّها ضعيفة ، بجهالة علي بن أحمد بن أشيم ، وعدم وثاقة محمَّد بن إبراهيم الحصيني ، وبالإضمار .
قوله : (وظاهر الأصحاب أنَّ الصَّلاة في السَّفينة مقيَّدة بالضَّرورة ، إلَّا أن تكون مشدودة)
يقع الكلام في ثلاثة أمور :
الأوَّل : في جواز الصَّلاة في السَّفينة اختياراً مع التمكُّن من استيفاء فرائضها من القِيام والاستقبال والرّكوع والسَّجود ، وغير ذلك ، سواء كانت واقفةً أو سائرةً .
الثاني : في جواز الصَّلاة فيها اختياراً حتَّى مع استلزامها الإخلال بالقيام أو الاستقبال ، وغيرها من الشَّرائط والأجزاء الاختياريَّة .
الثالث : في جواز الصَّلاة فيها حال الاضطرار ، بحيث لا يتمكّن من الأرض والصَّلاة عليها مع الإتيان بجميع الأجزاء والشَّرائط .
أمَّا الأمر الأوَّل : فقد ذهب إليه جماعة كثيرة من الأعلام ، منهم صاحب الجواهر والمحقِّق الهمداني والسَّيد محسن الحكيم والسَّيد أبو القاسم الخوئي رحمهم الله ، بل لعلَّه المشهور بين المتأخِّرين ، وهو الإنصاف .
وذكر المصنِّف رحمه الله هنا أنَّ ظاهر الأصحاب أنَّ الصَّلاة في السَّفينة مقيَّدة بالضَّرورة ، إلَّا أن تكون مشدودة .
وقال في الذكرى : (جوَّز الفاضل الصَّلاة في السَّفينة فرضاً ونَفْلاً مختاراً في ظاهر كلامه وإن كانت سايرةً ، وهو قول ابن بابويه وابن حمزة ، وكثير من الأصحاب جوّزوه ، ولم يذكروا الاختيار - إلى أن قال : - والأقرب المنع إلَّا لضرورة ، لأنَّ القرار ركن في القيام ، وحركة السَّفينة نمنع من ذلك ، ولأنَّ الصَّلاة فيها مستلزمة للحركات الكثيرة الخارجة عن الصلاة ... ) .
أقول : الأقوى جواز ذلك في السّفينة اختياراً إذا كان متمكناً من استيفاء فرائضها من القيام والاستقبال والرّكوع والسَّجود وغير ذلك ، وإن كانت سائرةً ، إذ الحركة التبعيّة الحاصلة من سير السفينة لا تضرّ أصلاً ، كما ذكرنا ذلك في الصَّلاة على الرّاحلة .
ويدلّ على ما ذكرنا جملة من الروايات :
منها : صحيحة جميل دراج (أنَّه قال لأبي عبد الله عليه السلام : تكون السَّفينة قريبةً من الجد (الجدر) فأخرج فأصلّي ، قال : صلّ فيها ، أمَّا ترضى بصلاة نوح عليه السلام )[8] ، والشَّيخ الصَّدوق رحمه الله وإن لم يذكر طريقه بالخصوص إلى جميل بن دراج ، إلَّا أنَّه ذكر طريقه إليه ، وإلى محمَّد بن حمران معاً ، وهذا يغني عن ذكر الطّريق إلى خصوص جميل .
وبالجملة ، فالرِّواية صحيحة .
ومنها : رواية يونس بن يعقوب (أنَّه سَأَل أبا عبد الله عليه السلام عن الصَّلاة في الفرات ، وما هو أصغر منه من الأنهار في السَّفينة ، فقال : إنْ صلَّيت فحسن ، وإن خرجت فحسن)[9] ، ولكنَّها ضعيفة ، لأنَّ في إسناد الصَّدوق رحمه الله إلى يونس بن يعقوب الحكم بن مسكين ، وهو غير موثَّق ، فالتعبير عنها بالموثَّقة في غير محلِّه .
ومنها : رواية المفضَّل بن صالح[10] ، وهي مثل الرَّواية السَّابقة ، ولكنَّها ضعيفة بالمفضَّل بن صالح أبي جميلة .
والتعبير عنها بالصحيحة في غير محلِّه أيضاً .
ومنها : رواية صالح بن الحكم (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الصَّلاة في السَّفينة ، فقال : إنَّ رجلاً سأل أبي عن الصَّلاة في السَّفينة ، فقال له : أترغب عن صلاة نوح عليه السلام ، فقلت له : آخذ معي مدرة ، أسجد عليها ؟ فقال : نعم )[11] ، وهي ضعيفة بصالح بن الحكم .
وظاهر السُّؤال فيها : إرادة الصَّلاة في حال الاختيار ، إذ لا موقع لتوهُّم المنع لدى الضَّرورة ، وكون صلاة نوح عليه السلام صادرة في حال الضَّرورة لا يُوهِن ظهور الرِّواية في إرادتها حال الاختيار ، لأنَّ صدورها في مقام الضَّرورة لا يقتضي كونها صلاة اضطراريَّة ، بل ظاهر تلك الأخبار كونها من حيث هي صلاةً كاملةً ، وإن صدرت في مقام الضَّرورة .
ثمَّ إنَّ ظاهر تلك الأخبار المتقدِّمة عدم الفرق بين ما لو كانت سائرة أو واقفة ، بل قد يُدَّعى أنَّ المتبادر من السُّؤال عن الصَّلاة في السَّفينة إنَّما هو إرادتها حال السَّير الذي فيه مظنَّة المنع .
هذا ، وقد يظهر من بعض الأخبار اختصاص الجواز بحال الضَّرورة :
منها : حسنة حمَّاد بن عيسى أو صحيحته (قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يُسْأل عن الصَّلاة في السَّفينة ، فيقول : إنِ استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا ، فإن لم تقدروا فصلّوا قياماً ، فإن لم تستطعيوا فصلُّوا قعوداً وتحرُّوا القِبلة)[12] ، وهي حسنة بطريق الشَّيخ والكُليني رحمهما الله ، وفي قرب الإسناد صحيحة ، لأنَّه رواها عن محمَّد بن عيسى والحسن بن ظريف ، وعليّ بن إسماعيل ، كلّهم عن حمَّاد بن عيسى ، ومحمَّد بن عيسى ، وإن كان مشتركاً ، وعليّ بن إسماعيل وإن كان مهملاً ، إلَّا أنَّ الحسن بن ظريف ثقة .
ومنها : مضمرة عليّ بن إبراهيم (قال : سألتُه عن الصَّلاة في السَّفينة ، قال : يصلِّي وهو جالس إذا لم يمكنه القيام في السَّفينة ، ولا يصلِّي في السَّفينة وهو يقدر على الشطّ ، وقال : يصلِّي في السَّفينة يحوِّل وجهه إلى القبلة ، ثمَّ يصلّي كيف ما دارت)[13] ، ولكنَّها ضعيفة بالإضمار ، وبالقاسم بن محمَّد الجوهري ، فإنَّه غير موثَّق ، وبابن أبي حمزة فإنَّه البطائني الضعيف .
ويمكن الجواب - مع قطع النّظر عن ضعف الرّواية الأخيرة - : بأنَّهما محمولتان على ما إذا لم يتمكَّن من استيفاء الصَّلاة بجميع أجزائها وشرائطها من القيام والاستقبال والركوع والسّجود ، وغير ذلك ، كما يشهد بذلك مضمونهما .
ويمكن حَمْل الأمر في حسنة حمَّاد على الاستحباب والنهي في مضمرة عليّ بن إبراهيم على الكراهة ، وإن كان حَمْل حسنة حمَّاد على الاستحباب لا يخلو من غرابة ، لأنَّ استحباب الخروج لا يتلائم مع الترغيب في الاقتداء بصلاة نوح عليه السلام.
وعليه ، فالأقرب حَمْلها على ما إذا لم يتمكّن من استيفاء الصَّلاة بجميع أجزائها ، وشرائطها ، كما عرفت .
الأمر الثاني : ذهب جماعة من المتأخّرين إلى جواز الصّلاة اختياراً في السَّفينة حتَّى مع استلزامها الإخلال بالقيام أو الاستقبال أو الرّكوع والسجود ، وغير ذلك من الأجزاء ، حُكي ذلك عن ظاهر المبسوط والنهاية والوسيلة ونهاية الأحكام والمدارك .
وفيه أوَّلاً : أنَّه يستبعد جدّاً ذهاب هؤلاء الأعلام إلى الجواز مطلقاً ، مع أنَّهم لم يصرّحوا بذلك ، وإنَّما أطلقوا القول بالجواز لعلّ مرادهم هو ما ذكرناه في الأمر الأوَّل ، فلا يكون هناك خِلاف حينئذٍ .
ثمَّ إنَّه على تقدير قولهم بذلك فقد يُستدلّ لهم بإطلاق الأخبار السَّابقة في الأمر الأوَّل مثل صحيحة جميل بن دراج ، ورواية المفضل بن صالح ، وغيرها ، ممَّا تقدَّم .
ولكنّ الإنصاف : أنَّه لا إطلاق لها يشمل هذه الصَّورة ، لأنَّ الظَّاهر منها أنَّ السُّؤال في تلك الرّوايات إنّما هو من حيثيّة الصّلاة في السّفينة ، وأنَّ الصَّلاة فيها باعتبار ملازمتها دائماً لحركة المصلّي التابعة لحركة السَّفينة ، هل مانع من صحتها أم لا ؟
وعليه ، فالجواب بنفي البأس عن الصَّلاة فيها إنَّما يقتضي الصّحَّة من هذه الجهة ، ولا يقتضي الصّحَّة من الجهات الأخر ، فلا إطلاق فيها يقتضي الجواز ، ولو مع عدم استيفاء سائر الأجزاء والشّرائط ، كالقِيام والاستقبال والركوع والسّجود ، ونحو ذلك .
ويؤيِّد ذلك : مراعاة هذه الأجزاء والشَّرائط في الصَّلاة في السَّفينة ، كما دلَّت عليه الرِّوايات التي تقدَّم بعضها ، ويأتي البعض الآخر .