< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

ولكنَّ الإنصاف : أنّ هذه الرّواية لا تعارض الأدلّة المتقدمة ، وذلك أولا لضعفها سندا بالإرسال ، وعدم وثاقة خراش.

وثانياً : يحتمل قويّاً أن يكون المقصود بالاجتهاد فيها الفتوى بالرأي المؤدّي إلى سقوط القبلة في مثل الفرض والاكتفاء بصلاة ، لا الاجتهاد في تشخيص القبلة حتّى تعارض الأدلّة المتقدّمة ، بقرينة قوله : (أطبقت السَّماء وأظلمت) فهما ظاهران في عدم وجود أمارة يظنّ منها القبلة.

وثالثاً : أنّ المشهور عن هذه الرّواية ، وإعراض المشهور وإن لم يكن حجّةً عندنا إلّا أنّه صالح للتأييد.

والخلاصة : أنَّ الأقوى في المقام هو تقديم الاجتهاد على وجوب الصّلاة على الأربع جهات.

قوله : (ولو خفيت عليه الأمارات ففيه : القولان)[1]

أي : التقليد ، والصّلاة إلى أربع جهات ، قال المصنّف رحمه الله في الذكرى : (ولو خفيت الأمارات على المجتهد للغيم وشبهه ، أو تعارضت عنده ، فتحيّر ، احتمل جواز التقليد أيضاً ، لعجزه عن تحصيل الجهة ، فهو كالعاجز عن الاجتهاد ، واختاره في المختلف ، والظّاهر وجوب الأربع ، لأنَّ القدرة على أصل الاجتهاد حاصلة ، والعارض سريع الزَّوال ... )[2] .

أقول : قد عرفت أنَّ التقليد الذي هو قبول قول غيره المستند إلى الاجتهاد هو نوع من الاجتهاد أيضاً ، لأنّ الظنّ الحاصل منه يصدق عليه التحري.

ودعوى أنَّ أدلَّة الاجتهاد منصرفة عن مثله غير مسموعة.

وعليه ، فمسألة ما لو خفيت عليه الأمارات هي نفسها مسألة ما لو فَقْد العلم ، والظنّ فحكمها واحد.

والمعروف بين الأعلام هو أنّه إذا كان الوقت واسعاً صلَّى الصَّلاة الواحدة إلى أربع جهات لكلّ جهة مرّة ، وفي الجواهر : (على المشهور بين الأصحاب ، نقلاً وتحصيلاً ، بين القدماء والمتأخّرين شهرة عظيمة ، بل في صريح الغنية وظاهر جامع المقاصد والتذكرة ، وموضع من الذكرى ، والمحكي عن المعتبر والمنتهى والغرية ، الاجتماع عليه ... )[3] .

وفي الحدائق : (نقل عن ابن أبي يعفور أنّه قال : (لو خفيت عليه القبلة لغيمٍ أو ريحٍ أو ظلمةٍ ، فلم يقدر على القبلة ، صلَّى حيث شاء ، مستقبل القِبلة ، وغير مستقبلها ، ولا إعادة عليه إذا علم - بعد ذهاب وقتها - أنّه صلَّى لغير القبلة - ثمّ قال : - وهو الظاهر من ابن بابويه ، ونفى عنه البُعد في المختلف ، ومال إليه في الذكرى ، واختاره جملة من محقِّقي متأخِّري المتأخِّرين ، وهو المختار لِمَا ستعرف من الأخبار)[4] .

واختاره أيضاً السَّيد محسن الحكيم رحمه الله ، والسَّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله ، وهو الإنصاف ، كما سيتضح لك.

وعن السَّيد ابن طاووس رحمه الله في أمان الأخطار : (الرجوع إلى القرعة) ، هذه هي الأقوال في المسألة.

وقدِ استُدلّ للمشهور بعدَّة أدلَّة :

منها : الإجماع المتقدِّم ، المؤيَّد بالشُّهرة العظيمة.

وفيه - كما ذكرنا في أكثر من مناسبة - : أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجة.

ومنها : رواية خراش المتقدِّمة[5] ، وقد عرفت أنَّها ضعيفة سنداً ، ودلالةً.

ومنها : مرسلة الكافي (قال : ورُوي أيضاً أنّه يصلِّي إلى أربع جوانب)[6] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .

ومنها : مرسلة الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله في الفقيه (قال: روي - فيمَنْ لا يهتدي إلى القبلة في مفازة - : أنّه يصلِّي إلى أربعة جوانب)[7] ، وهي أيضاً ضعيفة بالإرسال.

وفي الجواهر : (بل الظَّاهر كونهما - أي : مرسلة الكافي ، ومرسلة الفقيه - صحيحة عندهما ، خصوصاً الثاني منها - أي : مرسلة الفقيه - الذي لا يذْكُر في كتابه إلَّا ما هو حجة بينه وبين ربِّه.

ومن هنا استظهر بعض الأساطين منهما التخيير لروايتهما الروايتين ، وعلى كلِّ حال فلا ريب في حجيّة الجميع في المقام ، وأنّه لا يقدح الإرسال بعد الانجبار بما سمعت ... )[8] .

وفيه : أنّه لا يكفي كونهما صحيحين عندهما ، بل لا بدّ من ثبوت الصحّة عند غيرهما ، وهي غير ثابتة ، كما أنَّك عرفت في أكثر من مناسبة أنَّ عمل المشهور لا يجبر ضعف السَّند.

أضف إلى ذلك ، أنَّه لا تحرز الصّغرى ، إذ لعلّ الصّلاة إلى أربع جهات لأجل أنّ ذلك موافق لقاعدة الاحتياط ، لا لأجل النصوص المزبورة.

ومنها : وهو الدليل الأخير لهم قاعدة الاشتغال فإنّه لا يحصل القطع بالخروج عن عهدة التكليف بالصَّلاة المشروطة بالاستقبال إلَّا بالصَّلاة إلى أربع جهات.

وفيه : أنّ ذلك يتمّ لو لم يوجد دليل على الاكتفاء بالصَّلاة إلى الجهة الواحدة ، وهي موجود كما سيتضح لك.

والخُلاصة إلى هنا : أنّ ما ذُكِر للمشهور من الأدلَة ليس بتامّ.

وأمَّا القول الثاني - أي : كفاية صلاة واحدة - : فقدِ استُدلّ له بعدَّة أدلَّة :

منها : صحيحة زرارة ، ومحمّد بن مسلم المرويّة في الفقيه عن أبي جعفر عليه السلام (أنّه قال : يجزي المتحيِّر أبداً أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القِبلة )[9] .

وقد أشكل على هذه الصّحيحة تارةً من حيث السَّند ، وأخرى من جهة المتن.

أمَّا من حيث السَّند : فلِجهالة طريق الصَّدوق رحمه الله إلى زرارة ، ومحمَّد ، مجتمعين.

وفيه : أنّ نصّ الصّدوق رحمه الله على طريقه إلى زرارة ، وإلى محمَّد ، مع عدم تعرّضه لطريقه إليهما مجتمعين يقتضي أنّ طريقه إليهما مجتمعين هو طريقه إلى كلِّ منهما منفرداً.

نعم ، طريقه إلى محمّد بن مسلم ضعيف ، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة ، وأمّا طريقه إلى زرارة فهو صحيح ، وهذا كافٍ في المقام.

وأمّا من حيث المتن فمن جهة أنّ في بعض النسخ ذكر التحرّي بدل التحيّر.

وفيه : بعد كون النسخة الشايعة هي المتحير ، فلا يعتدّ بما في بعض النسخ ، لاسيّما مع عدم مناسبة المتن لما في بعض النسخ ، إذ التحرّي لا يتناسب مع قوله : (أينما توجّه) ، وإنّما يناسبه المتحيِّر.

ومنها : مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة (قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قِبلة المتحيّر ، فقال : يصلّي حيث يشاء)[10] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.

هذا ، وقد ذكرنا جماعة من الأعلام ، منهم السَّيد محسن الحكيم رحمه الله أنّ مرسل ابن أبي عمير كمسنده حجّة عند المشهور ، فإنّه لا يرسل إلّا عن ثقة.

وفيه : ما ذكرناه في علم الرجال أنّ أصل هذه الدعوى الشَّيخ الطوسي رحمه الله حيث ذكر في حقّ ابن أبي عمير ، وصفوان بياع السّابري والبزنطي ، أنّهم لا يروون ، ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

وذكرنا هناك أنّ هذا اجتهاد من الشّيخ رحمه الله لا يكون حجّةً على الآخرين ، وتفصيله في محلّه.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمَّار (أنَّه سأل الصَّادق عليه السلام عن الرّجل يقوم في الصَّلاة ، ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القِبلة ، يميناً أو شمالاً ، فقال له : قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلةً )[11] ، وفي نسخة الفقيه التي لم يذكرها صاحب الوسائل رحمه الله هكذا : (بعد قوله قبلة) ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيِّر ﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله[12] ، والشّاهد في هذا المقطع الذي لم يذكره صاحب الوسائل.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo