< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

قوله : (والمشهور استحباب التياسر لأهل العراق)[1]

هذا هو المعروف بين الأعلام ، ولكن عبَّر المصنِّف في الذكرى بأهل المشرق ، ولعلَّه يريد العراقيين منهم خصوصاً ، مع قوله بعد ذلك : (فرع ، إذا قلنا : بهذا التياسر ، فليس بمقدّر ، بل مرجعه إلى اجتهاد المصلِّي ، ومن ثَمَّ جعلنا المسألة من مسائل الاجتهاد ، ولا ريب في اختلاف ذلك بحسب اختلاف بلدان المشرق ، ولعلّ البالغ في المشرق إلى تخومه يسقط عنه هذا التياسر ، بل لا يجوز له ، للقطع بأنَّه يخرج عن العلامات المنصوصة لهم ، والخبران لا يدلَّان على غير أهل العراق ، لأنَّ المفضَّل كوفي ، وغالب الرواة عراقيون ) ، ويشير بالخبرين إلى ما سنذكرها دليلاً لاستحباب التياسر .

أقول : بنى جماعة من الأعلام استحباب التياسر إلى يسار المصلِّي من العراقيين على كون القبلة للبعيد الحرم ، لا الكعبة الشريفة ، إذ هذا هو المناسب للأخبار التي ذُكِرت دليلاً للاستحباب ، كرواية المفضَّل بن عمر (أنَّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه ، فقال : إنَّ الحجر الأسود لمَّا أُنزل من الجنَّة ، ووضع في موضعه ، جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور - نور الحجر الأسود - فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال كلَّه اثني عشر ميلاً ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدِّ القبلة لعلَّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف الإنسان ذات اليسار لم يكن خارجاً من حدِّ القبلة)[2] ، وهي ضعيفة ، لأنَّ في طريق الصَّدوق رحمه الله إلى المفضَّل بن عمر محمَّد بن سنان ، وهو ضعيف .

ورواه الشَّيخ رحمه الله بإسناده عن المفضَّل ، ولكنَّه ضعيف لجهالة طريق الشَّيخ رحمه الله إلى كتاب المفضَّل ، كما أنَّ الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله رواه أيضاً في العِلل بسندٍ فيه عدَّة من المجاهيل ، كما أنَّه رواه أبو الفضل شاذان بن جبرائيل في رسالة القبلة مرسلاً عن الصَّادق عليه السلام .

والخلاصة : أنَّ هذه الرِّواية بكلِّ طرقها ضعيفة .

ومنها : رواية عليّ بن محمد رفعه (قال : قيل لأبي عبد الله عليه السلام : لِمَ صار الرّجل ينحرف في الصّلاة إلى اليسار ، فقال : لأنَّ للكعبة ستة حدود ، أربعة منها على يسارك ، واثنان منها على يمينك ، فمن أجل ذلك وقع التحريف على اليسار)[3] ، وهي ضعيفة بالرفع .

وقال الشَّيخ رحمه الله في النهاية : (مَنْ توجَّه إلى القِبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة فعليه أن يتياسر قليلاً ، ليكون متوجهاً إلى الحرم ، بذلك جاء الأثر عنهم ﭺ)[4] .

لا يقال : إنَّ الروايتَيْن وإن كانتا ضعيفتي السَّند ، إلَّا أنَّ المشهور عمل بهما ، وعمل المشهور جابر لضعف السَّند .

فإنَّه يُقال - كما تقدَّم في أكثر من مناسبة - : إنَّ عملهم لا يجبر الضعف .

وعليه ، فالحكم بالاستحباب مبني على التسامح في أدلَّة السُّنن .

ثمَّ لا يخفى أنَّ استحباب التياسر بناءً على ثبوته لا يتوقّف على كون القِبلة للبعيد هي الحرم ، بل يمكن تحقّقه بناءً على كون القبلة للبعيد هي الكعبة الشريفة ، وإن كان ذلك مخالِفاً للروايتَيْن المتقدمتَيْن ، وذلك لأنّ المراد استحباب التياسر عن الجهة المدلول عليها بالعلامات التقريبيّة ، ولعلَّه لأنّه أكمل في المحاذاة المعتبرة التي قد مرّ تفسير الجهة بها .

ودعوى معلوميّة انعدام حصول المحاذاة في البعيد بأدنى انحراف .

يدفعها : أنّه كذلك في المحاذاة التحقيقيّة ، لا التقريبية .

هذا ، وقد استشكل المحقِّق نصير الملة والدين رحمه الله في المقام بأنّه لا يُتصور استحباب التياسر ،

فإنَّه يُقال : لمَّا حضر مجلس درس المحقِّق رحمه الله يوماً ، واتفق الكلام في هذه المسألة من أنّ التياسر أمر إضافي ، لا يتحقق إلَّا بالإضافة إلى صاحب اليسار متوجّهاً إلى جهة ، حيث قال : (فإنْ كانت تلك الجهة محصَّلة لزم التياسر عمَّا وجب التوجّه إليه ، وهو حرام ، لأنّه خِلاف مدلول الآية ، وإن لم تكن محصَّلة لزم عدم إمكان التياسر ، إذ تحقّقه موقوف على تحقُّق الجهة التي يتياسر عنها ، فكيف يتصور الاستحباب ؟ بل المتّجه حينئذٍ وجوب التياسر المحصِّل لها .

وحاصل الإشكال : أنَّ التياسر إمَّا إلى القِبلة ، فيكون واجباً مستحبّاً ، وإمَّا عنها فيكون حراماً .

وأجابه المحقِّق في الدرس بما مقتضاه الحال ، ثمَّ كتب في ذلك رسالة استحسنها المحقِّق الطوسي رحمه الله .

وحاصل الجواب : أنّ التياسر عن تلك الجِهة المحصلة - المقابلة لوجه المصلّي حال استعمال تلك العلامات المنصوصة لذلك - استظهار في مقابلة الحرم ، لأنّ قدر الحرم عن يمين الكعبة يسير ، وعن يسارها متِّسع كما دلَّت عليه الرّوايتان اللتان استند إليهما الأعلام في ذلك .

وفيه : ما عرفته من أنّ ذلك لا يتوقّف على كون القبلة للبعيد الحرم ، بل يمكن تصوّره وإن كانت القبلة له الكعبة الشّريفة .

وعليه ، فيكون التياسر عن القبلة إليها ، إذ يجوز اختصاص بعض جهات القبلة بمزيد الفضيلة على بعض ، أو لأجل حصول الاستظهار بسبب الانحراف إلى اليسار .

هذا ، وقد علّل التياسر العلّامة المجلسي رحمه الله في البحار بشيء آخر ، قال في مجلد الصَّلاة : (والذي يخطر بالبال أنّه يمكن أن يكون الأمر بالانحراف لأنّ محاريب الكوفة ، وسائر بلاد العراق ، أكثرها كانت منحرفة عن خطّ نصف النّهار كثيراً ، مع أنَّ الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضيّة ، كمسجد الكوفة ، فإنّ انحراف قبلته إلى اليمين أزيد ممَّا تقتضيه القواعد بعشرين درجةً تقريباً ، وكذا مسجد السَّهلة ، ومسجد يونس .

ولمَّا كان أكثر تلك المساجد مبنيّة في زمان عمر ، وسائر خلفاء الجور ، لم يمكنهم القدح فيها تقيةً ، فأمروا بالتياسر ، وعلّلوه بتلك الوجوه الخطابيّة لإسكاتهم ، وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور وأمرائهم ، وما ذكره أصحابنا من أنّ محراب المعصوم عليه السلام لا يجوز الانحراف عنه إنَّما يثبت إذا علم أنَّ الإمام عليه السلام بناه - ومعلوم أنّه لم يبنه - أو صلَّى فيه من غير انحراف ، وهو أيضاً غير ثابت ، بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه ، كما سيأتي ذكره ، مع أنَّ الظَّاهر من بعض الأخبار أنَّ هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين عليه السلام) .

ومهما يكن من شيء ، فقد عرفت عدم ثبوت استحباب التياسر ، والله العالم .

 

قوله : ((درس 35)

القادر على العلم بالقبلة ليس له الاجتهاد)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : ( لا يجوز الاجتهاد للقادر على العلم ، لأنَّه عدول عن اليقين ... ) لأنَّ المجتهد هنا عبارة عن العارف بأدلّة القبلة الموجبة للظنِّ بها من غير الأمارات الشرعيّة ، ومع إمكان تحصيل العلم بها ، أو ما هو بحكمه كالأمارة الشرعيّة ، فكيف يعمل بالظنّ الناشِئ من اجتهاده ؟ إذ الشُّغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني .

ثمَّ العلم بها يحصل بإخبار المعصوم عليه السلام ، وبصلاته التي يعلم خلوّها عن التقيّة ، بناء على ما عرفت سابقاً من منافاة الإمامة الخطأ في جهة القبلة .

ويُعلم أيضاً بنصبه عليه السلام محراباً ، ولذلك ذكر غير واحد من الأعلام ، بل ظاهرهم الاتّفاق عليه ، أنّ المحراب الذي نصبه المعصوم عليه السلام ، أو صلَّى فيه ، مما يفيد العلم بذلك ، لكن بشرط القطع بصلاته فيه من غير تيامن ، ولا تياسر ، وأنّه لا تقيّة .

نعم ، يصعب ثبوت محراب عندنا الآن كذلك ، إذ أقربها إلى ذلك محراب النبي (صلى الله عليه وآله) لكونه مأخوذاً يداً بيد ، مع أنّ المحكي عن الشيخ نجيب الدين رحمه الله أنّه قال : (وقع في محرابه (صلى الله عليه وآله) بالمدينة بعض تغيير) .

وأمَّا مسجد الكوفة فإنَّه وإن ذكر جماعة معلوميّة نصب أمير المؤمنين عليه السلام له ، وصلاة الحسن والحسين ﭺ فيه ، وأنّه لا يجوز الاجتهاد فيه يميناً ويساراً ، بل في المحكي عن آيات الأردبيلي رحمه الله أنَّ الأصحاب يقولون : إنَّ قبلة الكوفة يقينيّة ، كما أنّ المحكي عن مجمعه : نقل حكاية التواتر أيضاً .

ولكن ذكرنا سابقاً أنّ المجلسي رحمه الله قال : (الوجه في استحباب التياسر أو وجوبه لأهل العراق أنّ قبلة مسجد الكوفة متيامنة ، وبقية المساجد تابعة له ، والتقيّة منعت عن التصريح بذلك فورد الأمر بالتياسر لأهل العراق على ذلك بأحسن وجه .

والإنصاف : عدم وصوله إلينا بطريق قطعي ، بل أقصاه الطريق الظني باعتبار نقل جماعة من أجلاء الأصحاب .

ثمَّ إنَّه قد ذكرنا سابقاً : أنَّ الأمارة الشرعيَّة المفيد للظنّ بمنزلة العلم ، فيجوز التعويل عليها ، وإن أمكن تحصيل العلم ، إذ لا يشترط في جواز العمل بها عدم التمكُّن من العلم ،كما حُرِّر ذلك في علم الأصول .

نعم ، الذي يهوِّن الخطب في المقام : أنَّه لا يوجد في الرِّوايات ما يدلّ على استعلام القبلة إلّا روايتا الجدي ، وقد عرفت أنَّهما ضعيفتان سنداً .

أضف إلى ذلك : أنَّ هذه العلامة لا تطرد في جميع الأمكنة ، بل هي مختصّة بالعراق ، وما والاه ، ممّا تكون قبلته نقطة الجنوب أو ما يقرب منها ، وإلّا فقد يكون الجدي في يمين المصلّي ، أو يساره ، أو قبال وجهه حسب اختلاف مناطق البلاد من كونها في شرق مكة أو غربها أوجنوبها .

ثمَّ إنَّ الظَّاهر أنَّ هذه الأمارة الشرعيَّة من الأمارات التي تفيد القطع لا الظنّ ، باعتبار أنّ الجدي واقع في البلاد الشماليّة ، ففي البلدان التي تكون شمالي مكة التي تكون قبلتها نقطة الجنوب متى جعل الجدي فيها على الكيفيّة الخاصّة أفادت القطع بالاستقبال من غير حاجة إلى النصّ .

وعليه ، فلا تكون هذه الأمارة في طول العلم حتّى يُقال : إنّه لا يصحّ التعويل عليها ، إلَّا بعد فقد العلم .

والخلاصة : أنّه لو فرض وجود أمارة شرعيّة مفيدة للظنّ فهي بمنزلة العلم ، وفي عرضه ، لا في طوله ، والله العالم .

قوله : (والقادر على الاجتهاد ليس له التقليد إلّا مع خوف الوقت بالاجتهاد ، وقيل : يصلّي إلى أربع ، أو إلى ما يتحمّله الوقت)

قد عرفت أنَّ المراد بالاجتهاد هي معرفة أدلّة القِبلة من غير الأمارات الشرعّية بحيث يحصل له ظنّ منها .

والمراد من التقليد : هو قبول قول غيره المستند إلى الاجتهاد .

وينبغي أن ننبّه على أمر مهم ، ومن خلاله يتضح كثير من المسائل المذكورة في هذا المقام ، لأنّ هذه المسائل المذكورة في كلام الأعلام لا تخلو من تشويش واضطراب .

وحاصل هذا الأمر : هو أنّه لا توجد في تحصيل القبلة إلَّا مرتبتان :

الأولى : العلم ، وما يقوم مقامه ، كالأمارة الشرعيّة كالبينة ، أو خبر العدل أو الثقة المستند إخبارهم إلى الحسّ ، كما إذا شهدوا بأنّهم رأوا الجَدْي على صفة كذا مثلاً .

الثانية : الاجتهاد بالمعنى المتقدَّم ، أي معرفة أدلّة القبلة من غير الأمارات الشرعيَّة ، بحيث يحصل له ظنّ منها .

ومنه تعرف أنّ التقليد الذي هو قبول قول غيره المستند إلى الاجتهاد هو اجتهاد أيضاً ، وإن عبّر عنه بالتقليد ، لأنّه مع حصول الظنّ له من قول غيره يكون هو التحرّي المقدور له ، فيندرج في قوله عليه السلام الآتي (ويجزي التحرّي) .

وعليه ، فمع فقدان هاتين المرتبتين - أي : العلم وما يقوم مقامه من الأمارات الشرعية ، والظنّ الحاصل له من غير الأمارات الشرعية - يصلِّي إلى أربع جهات ، أو إلى جهة واحدة على الخلاف الآتي .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قول المصنِّف رحمه الله : (إنَّ القادر على الاجتهاد ليس له التقليد) يُراد منه أنّ الظنّ الحاصل له بعد التحرّي مقدَّم على الظنّ الحاصل له من غيره .

ولكنَّ الإنصاف - بعد صدق التحرّي على الظن الحاصل له من غيره - : أنّه لا فرق بينهما من حيث الحجيّة ، إذ كلّ منهما اجتهاد .

هذا ، والمعروف أنّه مع حصول الظنّ بالقبلة لا يصلّي إلى أربع جهات ، بل يصلّي إلى الجهة المظنونة أنّها القِبلة .

نعم ، قد يظهر من قول الشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط أنّه مع فَقْد الأمارات السماويّة لا يجوز العمل بالظنّ ، بل يصلّي إلى أربع جهات مع الإمكان ، ومع عدمه يصلّي إلى جهة واحدة ، ويرد عليهما أنّ ما ذكراه مخالِف لصحيح زرارة قال : (قال أبو جعفر عليه السلام : يجزي التحرّي أبداً إذا لم يُعلم أين وجه القبلة)[5] .

وموثَّق سُماعة (قال : سألتُه عن الصَّلاة بالليل والنَّهار إذا لم يرَ الشَّمس ، ولا القمر ، ولا النجوم ، قال : اجتهد رأيك ، وتعمد القبلة جهدك)[6] ، بناءً على ظهوره في الاجتهاد في القِبلة ، لا في الوقت ، ضرورة صدق التحري والاجتهاد على مطلق الظنّ .

وقد عرفت في أكثر من مناسبة أنّ مضمرات سُماعة مقبولة ، ولا يعارضهما رواية خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : قلتُ : جعلت فداك ! إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت علينا ، أوِ اظلمت ، فلم نعرف السَّماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه)[7] .

وجه المعارضة : أنّها دالّة على الصّلاة على أربع جهات ، حتّى مع التمكّن من الاجتهاد ، وتحصيل الظنّ.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo