< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

الأمر الثالث : ذكر الأعلام تعريفات كثيرة لجهة الكعبة ، وقبل أن نذكر هذه التعريفات ينبغي أن يعلم أنّ لفظ الجهة لم ترد في الرّوايات ، وإنّما ذكرها الأعلام ، ولو أنّهم عبروا بما في النصوص من أنّه يجب على كلّ أحد استقبال الكعبة ، وأنّه لا يقبل الله من أحد توجّهاً إلى غيرها ، وأنّها هي قبلة المسلمين لم يقع هذا الاختلاف بينهم ، علماً أنّ أغلب التعريفات للجهة إن لم يكن كلّها لم يسلم من الإشكال .

وَلْنبدأ بما ذكره المحقّق رحمه الله في المعتبر - باعتبار أنّه أقرب التعريفات المقبولة - قال : (إنّها السّمت الذي فيه الكعبة - ثمّ قال : - وهذا متّسع يوازي جهة كل مصلٍّ ، وبه عرفها في كشف اللثام - ثمّ قال : - ومحصّله السّمت الذي يحتمل كلّ جُزء منه اشتماله عليها ، ويقطع بعدم خروجها عن جميع أجزاءه).[1]

وقد استشكل عليه : (بأنّه لا مدخليّة للاحتمال والقطع المزبورين في تعريف الجهة ، ضرورة حصول معناها مع القطع بخروج نفس الكعبة عن بعض الخطوط ، كما في الصفّ المستطيل المّتصل بمجراب النبي (صلى الله عليه وآله ) ، بناءً على أنّه منصوب على الميزاب ، فإنّه لا ريب في حصول القطع بعدم كون الكعبة في خطوط مواقف المصلّين فيما يزيد على مقدار الميزاب إلى الآخر ، ومن المعلوم ضرورة صحّة صلاة الجميع ، وليس هو إلّا لحصول الاستقبال والمحاذاة للبعيد من حيث كونه بعيداً ؛ وقد تقدم عدم توقف الصدق فيها على اتصال الخطوط)[2] .

وقد عرّفها العلَّامة رحمه الله في التذكرة : (بأنّها ما يُظنّ أنّها الكعبة)[3] ، وعرّفها المصنّف رحمه الله في الذكرى : (بأنّها السّمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه)[4] ، وعرّفها الشّهيد الثاني رحمه الله في المسالك والروضة والروض : (بأنّها القدر الذي يجوز على كلّ جُزء منه كون الكعبة فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية) ، وقال المحقّق الثاني رحمه الله في جامع المقاصد : (والذي يختلج بخاطري أنّ جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة ، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه ، وهذا يختلف سِعةً وضيقاً باختلاف حال البعيد) .

والذي يرد على هذه التعريفات : أنّ الظن والاحتمال والقطع ممّا لا دخل لهم في مفهوم الجهة أصلاً ، بل ما هو جهة الكعبة جهتها ، سواء أظنّ ، أو احتمل ، أو قطع كون الكعبة فيه ، أم لا ، وما لا يكون جهة الكعبة ليس جهتها ، سواء أقطع أو ظنّ ، أوِ احتمل كون الكعبة فيه أم لا.

نعم ، الظنّ والاحتمال لهما دخالة في الجهة الظاهريّة التي تجوّز الصّلاة إليها ظاهراً ، لا في ما هو جهة الكعبة واقفاً.

هذا ، وذهب بعيداً في تعريف الجهة جماعة من الأعلام ، منهم صاحب المدارك رحمه الله تبعاً لأستاذه المحقّق الأردبيلي رحمه الله ووافقهم ، بل لعلّه زاد عليهم صاحب المناهل ، قال صاحب المدارك رحمه الله : ( ثمّ إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعيّة سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء بالتوجه إلى ما يصدق عرفاً أنّه جهة المسجد ، وناحيته ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : فولّوا وجوهكم شطره ، وقولهم عليهم السلام : (ما بين المشرق والمغرب قبلة ، وَضَعْ الجدي في قفاك وصلّ ، وخلو الأخبار ممّا زاد على ذلك ، مع شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة ، وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدّاً ، لأنّه علم دقيق كثير المقدمات والتكليف به لعامّة النّاس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد أهله غير جائز ، لأنّه لا يُعلم إسلامهم ، فضلاً عن عدالتهم ؛ وبالجملة ، فالتكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة)[5] .

وأمّا المحقّق الأردبيلي رحمه الله فقد حُكي عنه أنه (لا يعتبر التدقيق في أمر القبلة ، وأنّه أوسع من ذلك ، وما حاله إلّا كآمر السيد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية الذي لا ريب في تحقّق امتثال العبد بمجرد التوجّه إلى جهة تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها ، ممّا يختصّ بمعرفته أهل الهيئة المستبعد ، بل الممتنع تكليف عامة النّاس من النساء والرجال ، خصوصاً السّواد منهم بما عند أهل الهيئة الذي لا يعرفه إلّا الأوحدي منهم ، وفي اختلاف هذه العلامات التي نصبوها ، وخلو النصوص عن التصريح بشيء من ذلك سؤالاً وجواباً ، عدى ما ستعرفه ممّا ورد في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين وأخرى بجعله على اليمين ، ممّا هو مع اختلافه ، وضعف سنده ، وإرساله خاصّ بالعراقي مع شدّة الحاجة لمعرفة القبلة في أمور كثيرة ، خصوصاً في مثل الصّلاة التي هي عمود الأعمال ، وتركها كفر.

ولعلّ فسادها ولو بترك الاستقبال أيضاً كذلك ، وتوجّه أهل مسجد قِبا في أثناء الصّلاة لَمَّا بلغهم انحراف النبي (صلى الله عليه وآله) ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على العارف بأحكام هذه الملّة السهلة السمحة أكبر شاهد على شدّة التوسعة في أمر القبلة ، وعدم وجوب شيء ممّا ذكره هؤلاء المدقّقون ... ).

ويظهر من عبارة صاحب المدارك رحمه الله المتقدّمة جواز استقبال السّمت الواقع فيه الكعبة مطلقاً حتّى مع العلم بعدم مقابلة العين ، وهو في غاية الإشكال ، وأشكل من ذلك ما يلوح من استشهاده لإثبات التوسعة بقوله رحمه الله : (ما بين المشريق والمغرب قبلة) ، كما في صحيحة زرارة التي سنذكرها بعْدُ لك إن شاء الله تعالى.

وبالجملة ، يظهر من كلامه الميل أو القول بظاهر الصحيحة من كون ما بين المشرق والمغرب قبلة على الإطلاق ، وهذا بظاهره ممّا لا يمكن الالتزام به ، وإن بالغ في تقويته صاحب المناهل ، حيث قال - على ما حكي عنه - ( إذا كان الكعبة في جهة الجنوب أو الشّمال ، كان جميع ما بين الجنوب والشّمال قبلة بالنسبة إلى النائي - ثم قال : - ولا فرق حينئذٍ بين علمه بعدم استقبال الكعبة ، أو ظنّه ، أو لا ، ثمّ نسب ذلك إلى مجمع الفائدة والمدارك والذخيرة ، واستدلّ له بإطلاق الآية ، وصحيحة زرارة المتقدّمتَيْن ، وقوله تعالى : (أينما تولّوا فثمّ وجه الله) خرج منه ما خرج بالإجماع وأيّده بالسيرة المستمرة بين المسلمين من المسامحة في أمر القبلة فيما يعتبر فيه القبلة من أمورهم المهمة كالصّلاة والذبح ، ونحو ذلك ).

وزاد رحمه الله في الحدائق : (بأنّه ممّا يؤيّد ذلك أوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة عليهم السلام في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بانحراف القبلة مع استمرار الأعصار الأدوار من العلماء الأبرار على الصّلاة عندها ، ودفن الأموات ، ونحو ذلك ، وهو ظاهر في التوسعة ... )[6] .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo