الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/04/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : القبلة
والإنصاف : أنَّ هذه الرّواية دالّة على المطلب ، لأنّها وإن وردت في صلاة المسافر لكنّ ذيلها كاد أن يكون صريحاً في أنّ جواز النافلة في السفينة والمحمل أينما توجّهت الدابّة والسفينة نشأ من أنّ ذلك كلّه قِبلة للمتنفّل ، فلا مدخليّة لخصوصيّة المورد في ذلك ، إلّا أنّها ضعيفة السّند بالإرسال ، إمّا لأنّ العياشي لم يذكر السّند ، وإمّا لأنّ المستنسخ حذف أسانيد الحديث لأجل الاختصار متوهّماً أنّ ذلك فيه مصلحة ، ولكنّه بذلك أسقط التفسير عن الاعتبار .
ومنها : ما في تفسير العياشي أيضاً عن حريز (قال : قال أبو جعفر عليه السلام : أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة ، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم ... )[1] .
وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال ، كما عرفت مع معارضتها بمرسلة مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في قوله تعالى : (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله) : (أنّها ليست بمنسوخة ، وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السّفر)[2] ، ومرسلة الشّيخ رحمه الله في النهاية عن الصّادق عليه السلام في قوله تعالى : (فأينما تولّوا فثمّ وجه الله) ، قال : (هذا في النوافل خاصّة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلا بدّ فيها منِ استقبال القبلة)[3] ، وهما ضعيفتان بالإرسال .
وما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره ، قال : (وقوله : ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ، فإنّها نزلت في صلاة النافلة ، فصلّها حيث توجّهت إذا كنت في سفر ، وأمّا الفرايض فقوله : وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ، يعني الفرايض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة ... )[4] ، وهذا تفسير منه ، وليس برواية ، بل هو رأيه رحمه الله .
والخلاصة إلى هنا : أنّ الأقوى أنّه يُعتبر في حال الاستقرار استقبال القبلة في النافلة ، وأمّا في حال المشي أو الركوب فلا يُشترط الاستقبال ، وسيأتي الكلام عنه بالتفصيل - إن شاء الله تعالى - عند تعرض الماتن له قريباً ، والله العالم .
قوله : (وبالميت في أحواله)[5]
قال في المهذّب : ( ويختلف استقباله باختلاف حالاته ، ففي الاحتضار يكون مستلقياً ، وظاهر رأسه مستدبراً ، ووجهه وباطن قدميه مستقبلاً ، وفي حال الصّلاة يكون مستلقياّ أيضاً ، ورأسه إلى المغرب ، ومقدّم جنبه الأيمن مستقبلاً ، وفي حال دفنه يكون مضطجعاً رأسه إلى المغرب ، ووجهه وبطنه ومقاديم بدنه إلى القبلة ، ومستند هذا التفصيل نصوص الطائفة ، وعملهم عليه )[6] .
أقول : ما ذكره من كون رأسه في حال الصّلاة عليه ، وفي حال دفنه إلى المغرب ، إنّما هو إذا كانت القبلة في ذلك المكان في الجنوب ، كأهل الشام ، وأهل العراق ، وما شابه هذه البلدان .
أمَّا إذا كانت القبلة في الشّمال ، كما في المكان الذي يكون في جنوب مكّة فيجب الاستقبال بالميّت بأن يكون رأسه إلى المشرق ، ورجلاه إلى المغرب ، والمدار في استقباله أن يكون رأسه إلى يمين المصلّي حينما يستقبل القبلة ، ورجلاه إلى يساره ، وإذا أردت المزيد من ذلك فقد ذكرنا هذه المسائل بالتفصيل في مبحث الأموات فراجع ، فإنّه مهم .
قوله : (وعند الذبح إلا مع التعذر)
يجب الاستقبال بالمذبوح والمنحور عند الذبح والنحر في حال الاختيار ، باتفاق الأعلام .
ويدلّ عليه أيضاً الأخبار الكثيرة ، منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (قال : سألتُه عن الذّبيحة فقال : استقبل بذبيحتك القبلة)[7] ، والباء هنا للتعدية ، مثل قوله تعالى : (ذهب الله بنورهم) ، أي أذهب نورهم ، وليست الباء للمصاحبة ، أي استقبل مع ذبيحتك القبلة حتّى يجب استقبال الذابح أيضاً ، وتفصيل هذا الكلام في محلّه .
قوله : (ويستحبّ الاستقبال في الدعاء والقضاء ، بل مطلقاً إلّا في مواضع التحريم والكراهة)
المعروف بين الأعلام استحباب الاستقبال حال الدعاء وحال قراءة القرآن وحال القضاء ، أي المرافعة عند الحاكم ، بل في جميع الأحوال إلّا في مواضع التحريم والكراهة .
وقد يستدلّ للاستحباب مطلقاً إلّا ما استُثني من مواضع التحريم والكراهة : بما رواه الشيخ البهائي رحمه الله في مفتاح الفلاح قال : (ورُوي عن أئمتنا عليه السلام خير المجالس ما استقبل به القبلة)[8] ، ورواه المحقّق مرسلاً[9] ، والرّواية ضعيفة بالإرسال .
قوله : (والكعبة معتبرة للمشاهد ، ومن بحكمه ، فعلى المكي أن يشاهدها ، ولو كان بالصعود على السطح ما لم يتيقن مسامتتها ، وكذا من بالحرم إذا كان يراها بعلوه على الجبال والنائي يتوجه إلى الجهة ، لا إلى الحرم على الأقوى)
يقع الكلام في ثلاثة أمور :
الأول : في ماهية القبلة .
الثاني : هل القبلة هي الكعبة بعينها للقريب والبعيد ، أم أنّ الكعبة لِمَنْ كان في المسجد ، والمسجد لِمَنْ كان في الحرم ، والحرم لِمَنْ خرج عنه .
والثالث : ما المراد من جهة الكعبة ؟ إذ المنسوب إلى المتأخرين أنّ جهة الكعبة هي قبلة البعيد .
أمّا الأمر الأوّل : فالقبلة لغة - على ما ذكره جماعة من الأعلام - : هي الحالة التي عليها الإنسان حال استقباله الشيء ، ثمّ نقلت في العرف إلى ما يجب استقبال عينه ، أو جهته في الصّلاة ، وهو عند التحقيق المكان الواقع فيه البيت شرّفه الله الممتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، لا نفس البناء .
ولذا لو أزيلت البنية ، أو نقلت إلى مكان آخر - لا سمح الله - وجب استقبال ذلك ، ولم تضح الصّلاة إلى نفس البناء ، كما هو واضح .
والمعروف كما تقدّمت الإشارة إليه أنّ القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، وفي المنتهى : (لا نعرف فيه خلافاً بين أهل العلم ) ، وفي كشف اللثام : (أنّه إجماع من المسلمين ) .
أقول : قد يُستدلّ لذلك - مضافاً للتسالم بين المسلمين - ببعض الرّوايات :
منها : رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سأله رجل ، قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر ، فهل يجزي ذلك ، والكعبة تحتي ؟ قال : نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السّماء)[10] ، ولكنّها ضعيفة ، لأنّ إسناد الشّيخ إلى الطاطري فيه أحمد بن عمرو بن كيسبة ، وهو غير مذكور في الرجال .
وفيه أيضاً علي بن محمّد بن الزبير القرشي وهو غير موثّق بالخصوص ، ولكنّه من المعاريف عندنا ، فلا يضرّ من جهته .
والخلاصة : أنّ الرّواية ضعيفة فالتعبير عنها بالموثّقة في غير محلّه .
ومنها : مرسلة الشّيخ الصدوق رحمه الله في الفقيه (قال : قال الصّادق عليه السلام : أساس البيت من الأرض السابعة السفلي إلى الأرض السابعة العليا)[11] ، المراد السّماء السابعة العليا ، وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال .
ومنها : صحيحة خالد بن أبي إسماعيل (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : الرّجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، فقال : لا بأس)[12] ، ولا بأس بدلالتها على كون القبلة إلى عنان السماء .
الأمر الثاني : ذهبت جماعة كثيرة من الأعلام إلى أنّ القبلة هي عين الكعبة الشّريفة للمتمكّن من ذلك ولو بواسطة ما لا يشقّ تحمله من المقدمات ، كالصعود إلى مرتفع ونحوه ، وجهة لغير المتمكّن من البعيد عنها ، ونحوه ، منهم السّيد وابن الجنيد وأبي الصّلاح وابن إدريس والمحقق في المعتبر والنافع ، والعلّامة (قدس الله أسرارهم) ، بل ربّما نسب إلى الأكثر ، أو المشهور .
وبالمقابل حُكي عن الشّيخين ، وكثير من الأصحاب ، بل أكثرهم ، كما عن المصنّف رحمه الله في الذكرى ، بل عن مجمع البيان ، نسبته إلى الأصحاب ، وعن الخلاف : الإجماع عليه ، أنّ الكعبة قبلة لِمَنْ كان في المسجد ، والمسجد قبلة لِمَنْ كان في الحرم ، والحرم قبلة لِمَنْ كان خارجاً منه .