< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/03/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : في السّجود ومواضعه

ولكنّ الإشكال في الدَّلالة ، فإنّ ظاهر بعض اللغويين ، كصاحب مجمع البحرين أنّ الطَبَرِيّ متّخذ من الكتّان ، حيث قال في تفسيره : (ولعله كتّان منسوب إلى طبرستان) ، ولكن حُكِي عن المولى مراد (أنّه الحصير الذي يعمله أهل طبرستان) .

وعليه ، فتكون الرّواية مجملة لا يصحّ الاستدلال بها .

ومنها : رواية داود الصّرمي (قال : سألتُ أبا الحسن الثالث عليه السلام هل يجوز السّجود على القطن والكتّان من غير تقيّة ؟ فقال : جائز)[1] ، ولكنّها ضعيفة بعدم وثاقة داود الصرمي .

ومنها : رواية الحسين بن علي بن كيسان الصنعاني (قال : كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن السّجود على القطن والكتّان من غير تقيّة ، ولا ضرورة ، فكتب إليّ : ذلك جائز)[2] ، وهي أيضاً ضعيفة ، لأنّ الصنعاني مهمل .

ومنها : صحيحة منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا (قال : قلتُ لأبي جعفر عليه السلام : إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج ، أفنسجد عليه ؟ قال : لا ، ولكنِ اجعل بينك وبينه شيئاً قطناً ، أو كتَّاناً)[3] .

ولا يضرّها الإرسال ، لأنّنا نطمئنّ بوجود الثقة في قوله : (عن غير واحدٍ من أصحابنا) ، إذ هي تدلّ عرفاً على أكثر من ثلاثة من البعيد جدّاً عدم وجود ثقة فيهم .

قال المحقّق الهمداني رحمه الله : (وليس في قوله (إنّا نكون بأرض باردة ) شهادة بإرادته في مقام الضرورة ، إذ لا ملازمة عقلاً ، ولا عادة ، بين كونه في تلك الأراضي ، وعدم تمكّنه حال الصّلاة من تحصيل ما يصحّ السّجود عليه كي ينزّل عليه إطلاق الجواب) .

ولكنَّ الإنصاف : إنَّها دالّة على ذلك في حال الضّرورة لا الاختيار ، لظهورها في إرادة السُّؤال عن جواز السُّجود على الثلج ، حيث لا يكون أرض ليُسجد عليه ، لكون الثلج النازل من السّماء مستوعباً وجه الأرض ، وما عليها من النبات كثيراً ، بحيث لا يمكنه نبشه والسّجود على وجه الأرض .

ومهما يكن ، فقد جمع غير واحد من الأعلام بين الأخبار المجوّزة والأخبار المانعة بحمل الأخبار المانعة على الكراهة .

ولكنّ الإنصاف : هو حمل أخبار المجوِّزة على التقية ، إذ لا يمكن الجمع عرفاً بين الطائفتَيْن ، بل ينهما معارضة ، لأنّ أهل العرف يرون المناقضة بين نفي البأس عن السّجود على القطن والكتّان في الرّوايات المتقدّمة ، وبين الرّوايات المتقدّمة أيضاً المانعة من ذلك .

والجمع العرفي إنّما يصحّ فيما إذا كان أحد الدليلين ظاهراً في المنع والآخر نصّاً في الجواز ، أو أظهر منه ، فهنا يرفع اليد عن الظهور بالأظهر منه ، كما إذا ورد في الأخبار لا تفعل ، وورد أيضاً لا بأس بالإتيان به .

وأمّا إذا كان الدليلان متساويين في الظهور ، أو صريحين ، فهنا لا يصحّ الجمع العرفي ، كما في المقام ، فالمتعيّن حينئذٍ حَمْل أخبار المجوِّزة على التقيّة ، لموافقتها العامّة .

ولا ينافيها ما في الرّوايتين من السّؤال عن جوازه في غير التقيّة ، ولا ضرورة ، لأنّ الإمام عليه السلام يجيب على حسب ما يراه من المصلحة ، فقد تقتضي المصلحة الجواب على نحو التقيّة ، وإن كان السّائل يريد الجواب من غير تقيّة ، ولا ضرورة ، والله العالم .

وقد يجمع بين الأخبار بحمل أخبار الجواز على ما قبل النسج ، وأخبار المنع على ما بعده ، وربّما يشهد لهذا الجمع رواية تحف العقول عن الصّادق عليه السلام في حديثٍ (قال : وكلّ شيءٍ يكون غذاء الإنسان في مطعمه ، أو مشربه ، أو ملبسه ، فلا تجوز الصّلاة عليه ، ولا السُّجود إلّا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولاً ، فإذا صار غَزْلاً ، فلا تجوز الصّلاة عليه إلّا في حال الضّرورة)[4] ، ولكنّها ضعيفة الإرسال ، فلا تصلح شاهداً للجمع .

أضف إلى ذلك ، أنّه لا يمكن حَمْل أخبار المنع على ما بعد النسج ، وذلك لأنّ ما أكل ، أو لبس المستثني من نبات الأرض ، لا بدّ من صدق عنوان النبات عليه ، لكي يكون الاستثناء متصلا - كما هو الأصل فيه - ولا يتحقق ذلك إلَّا قبل معالجته بالنسج ، أو الطبخ ، وإلّا فبعد المعالجة لا يصدق عليه نبات الأرض ، وإنّما هو شيء متّخذ منه ، مع مباينته معه فعلاً ، فلا يكون الاستثناء متصلاً ، ومرجع ذلك إلى إرادة القابليّة ممّا أكل أو لُبِس ، والله العالم .

الأمر الثاني : لا خلاف بين الأعلام في عدم سقوط أصل السّجود بتعذّر ما يُسجد عليه في حال الاختيار ، ولا ينتقل إلى الإيماء ، بل يُسجد على ما لا يصحّ السّجود عليه اختياراً ، وهل يجب الترتيب على حسب ما ذكره المصنّف رحمه الله ، أم لا .

لا بدّ من استعراض الأخبار الواردة في المقام لكي يتضح الحال ، وهناك جملة من الأخبار :

منها : رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام (قال : قلتُ له : أكون في السّفر فتحضر الصّلاة ، وأخاف الرمضاء على وجهي ، كيف أصنع ؟ قال : تسجد على بعض ثوبك ، فقلت : ليس عليّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه ، ولا ذيله ، قال : أُسْجِد على ظهر كفّك ، فإنّها إحدى المساجد)[5] ، وهي ضعيفة بعليّ بن أبي حمزة البطائني الكذّاب الذي أجلس في قبره ، فضرب بمرزبة من حديد امتلأ منها قبره ناراً ، وبالقاسم بن محمّد الجوهري ، فإنّه غير موثق .

وأمّا القول بأنّ الأصحاب اعتمدوا عليها فيكون ذلك جابراً لضعف السّند ، ففيه ما عرفت .

وظاهر هذه الرّواية أنّ الثوب بدل اضطراري ، وأنّه متعين عند فقدان ما يصحّ السّجود عليه اختياراً .

هذا ، وذكر صاحب الجواهر رحمه الله أنّه (يمكن كون المراد منه الدّلالة على بعض أفراد ممّا يتوقّى بها عن حرّ الرّمضاء ، ويحصل معها استقرار الجبهة ، لا أنّ المراد وجوب خصوص الثوب على جهة البدليّة الاضطراريّة) .

ويرد عليه : أنّ حَمْل الرّواية على ذلك مخالف للظاهر ، فلا يُصار إليه ، بلا قرينة .

ومثلها روايته الأخرى المروية في الفقيه (أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يصلي في حرّ شديد فيخاف على جبهته من الأرض ، قال : يضع ثوبه تحت جبهته)[6] ، وهي ظاهرة أيضاً في تعيّن الثوب على نحو البدل الاضطراري ، ولكنّها ضعيفة أيضاً ، لأنّ في إسناد الشّيخ الصّدوق رحمه الله إلى أبي بصير علي بن أبي حمزة البطائني ، وقد عرفت أنّه ضعيف .

ومنها : روايته الثالثة (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : جعلتُ فداك ! الرَّجل يكون في السّفر فيُقطع عليه الطريق فيبقى عرياناً في سراويل ، ولا يجد ما يسجد عليه ، يخاف إنْ سَجَد على الرّمضاء أَحْرقت وجهه ، قال : يسجد على ظهر كفّه ، فإنّها أحد المساجد)[7] ، وهي دالّة على السّجود على ظهر الكفّ .

ولكنْ لا يظهر من الرّواية تعيّن السّجود على ظهر الكفّ مع وجود بعض البدائل الأخرى ، بل لعلّ الأمر بالسّجود على ظهر الكفّ لفَقْد الثوب في هذه الحالة ، كما هو ظاهر السؤال (فيبقى عرياناً في سراويل) .

ولكنّها ضعيفة بإبراهيم بن إسحاق الأحمري ، وأمّا محمّد بن علي ماجيلويه شيخ الصّدوق رحمه الله فهو من المعاريف الكاشف عن وثاقته .

ومنها : صحيحة القاسم بن الفضيل (قال : قلتُ للرّضا عليه السلام : جعلتُ فداك ! الرّجل يسجد على كُمِّه من أذى الحرّ ، والبرد ، قال : لا بأس به)[8] ، ولا يُستفاد من هذه الصحيحة إلّا نفي البأس عن السّجود على كمّ القميص ، ولا تدلّ على تعيّن الثوب .

أضف إلى ذلك : أنّه يُحتمل إرادة وضع شيءٍ ما يسجد عليه في كُمّه بقرينة إطلاق الثوب ، وترك الاستفصال فيه عن التمكّن عمَّا يسجد عليه الذي هو من النادر فرض تعذّره ، بل من المستبعد إمكان وقوفه على الأرض الحارّة ، ووضع يديه دون جبهته ، التي يحتاج إلى زمان أقصر من الوقوف بمراتب ، بل من المستبعد تعذّر تحصيل شيء من النبات ، أو تبريد شيء من الأرض ، ولو بوضع ماء ، أو بوضع شيء منها في ثوبه مع انتظاره مدّة ، ونحو ذلك .

ومنها : رواية عُيينة بيّاع القصب (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : أدخلُ المسجد في اليوم الشّديد الحر ، فأكره أنْ أصلّي على الحصى ، فأبسط ثوبي ، فأسجد عليه ، قال : نعم ، ليس به بأس)[9] ، ولكنّها ضعيفة لأنّ مثنى الحناط الموجود في السّند مردّد بين كونه ابن راشد الحناط المجهول ، أو غيره الممدوح .

وأمّا عُيينة بيّاع القصب أو عتيبة ، فهو ثقة ، لأنّهما واحد ، وظاهر هذه الرّواية عدم تعيّن الثوب ، إذ مفادها نفي البأس عنه فقط .

ويُحتمل أيضاً وضع ما يُسجد عليه على ثوبه ، بل لعلّه الظاهر بقرينة أنّه كان في البلاد ، ومن المستبعد بل المقطوع بخلافه عدم إمكان تحصيل شيءٍ يسجد عليه فيها من حجر بارد ، أو نبات ، لا أقلّ من أن يصلّي في موضع ذي ظلال ، أو على بُوريا ، أو حصير ، أو نحوهما .

اللهمَّ إلَّا أن يُقال : إنّ إطلاق نفي البأس عنه لوروده مورد الغالب من الصّلاة في مساجد العامّة ، فهو في مكان التقيّة ، فلا يمكنه السّجود عند بسط ثوبه على الأرض إلّا عليه .

وقد يُشكل أيضاً أنّ مجرد كراهيّة ذلك لا يصلح عذراً ، والله العالم .

ومنها : رواية أحمد بن عمر(سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الرّجل يُسجد على كُمّ قميصه من أذى الحر والبرد ، أو على ردائه ، إذا كان تحته مسح ، أو غيره ، ممّا لا يُسجد عليه ، فقال : لا بأس به )[10] ، وهي مثل سابقتها تدلّ على مجرد نفي البأس عنه ، ولكنّها ضعيفة ، لأنّ عبّاد بن سليمان مهمل ، ووجوده في كامل الزيارات لا ينفع ، لأنّه ليس من مشايخه المباشرين .

ومنها : رواية محمّد بن القاسم بن الفُضيل بن يسار (قال : كتبَ رجل إلى أبي الحسن عليه السلام هل يسجد الرّجل على الثوب يتقي به وجهه من الحرّ والبرد ، ومن الشيء يُكره السّجود عليه ، فقال : نعم ، لا بأس به)[11] ، وهي كسابقتها من حيث الدّلالة ، وأيضاً هي ضعيفة بعبّاد بن سُليمان المهمل .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo