< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/03/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : أحكام المساجد

 

قوله : (وتصير مسجداً بالوقف ، وبقوله جعلته مسجداً مع صلاة واحد فيه ، ولو نوى المسجدية وأذن بالصلاة فيه ، فصلى فظاهر الشيخ صيروته مسجداً)[1]

هل يُعتبر في تحقّق المسجديّة صيغةُ الوقف ، كأن يقول : وقفت ، وشبهها ، ولو بأنْ يقول : جعلتُه مسجداً ، ويأذن في الصّلاة فيه ، فيصلِّي فيه ولو واحداً ، أو يكفي النية وإن لم يتلفظ .

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (إنَّما تصير البقعة مسجداً بالوقف ، إمَّا بصيغة (وقفت) وشبهها ، وإمَّا بقوله : جعلتُه مسجداً ، ويأذن بالصّلاة فيه ، فإذا صلّى فيه واحد تمّ الوقف ، ولو قبضه الحاكم أو أذن في قبضه فالأقرب أنّه كذلك ، لأنّ له الولاية العامّة ؛ ولو صلّى فيه الواقف فالأقرب الاكتفاء بعد العقد ، ولو بناه بنية المسجد لم يصرْ مسجداً .[2]

نعم ، لو أَذِن للنّاس بالصّلاة فيه بنية المسجديّة ، ثمّ صلّوا ، أمكن صيرورته مسجداً ، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصّورة .

وقال الشّيخ رحمه الله في المبسوط (إذا بنى مسجداً خارج داره في ملكه ، فإن نوى به أن يكون مسجداً يصلّي فيه كلّ مَنْ أراد زال ملكه عنه ، وإن لم ينوِ ذلك فمُلْكه باقٍ عليه ، سواء صلّى فيه أو لم يصلِّ)[3] ، وظاهره الاكتفاء بالنيّة .

وأَوْلى منه إذا صلّى فيه ، وليس في كلامه دلالة على التلفّظ ، ولعلّه الأقرب ، وقال ابن إدريس رحمه الله : (إن وقفه ، ونوى القربة ، وصلّى فيه النّاس ، ودخلوه ، زال ملكه عنه) انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : ظاهر كلام المصنّف رحمه الله في الذكرى موافقة الشّيخ في المبسوط ، ولكنّه اعتبر فيه على الظاهر الصّلاة فيه ، ولو من الواقف ، لأنّه قال : (ولو بناه بنية المسجد لم يصرْ مسجداً ؛ نعم لو أذن للنّاس ... )[4] ، كما أنّ صاحب الحدائق رحمه الله استقرب ما ذكره الشّيخ رحمه الله في المبسوط .

هذا ، واختار صاحب الجواهر رحمه الله القول الأوَّل ، أي اشتراط الصيغة ، قال : (ويقوى في النّظر الأوّل ، للأصل ، وظهور إطباقهم في باب الوقف على الافتقار فيه إلى اللفظ ، بل حُكِي عن المبسوط نفسه هناك التصريح بأنّه لا بدّ من التلفّظ بالوقف في خصوص ما نحن فيه من غير تردّد ، ولا ذُكِر خلاف ، إلَّا من أبي حنيفة ، ولم يُعلم كون معظم المساجد في الإسلام بدون تلفظ ، ويكفينا في جواز الصّلاة فيها اشتهارها في المسجديّة ، ولا حاجة إلى الفحص عن كيفيّة الوقف ، كما في غيره من العقود من النكاح ، وغيره ... )[5] .

أقول : لا دليل على اعتبار الصّيغة في الوقف ، بل يكفي فيه المعاطاة ، فلو بنى المكان بنيّة كونه مسجداً ، وأذن بالصّلاة فيه ، وصلّى فيه ، ولو واحداً ، كفى في صيروته مسجداً .

ويشير إلى ذلك ما تقدّم من روايتي أبي عبيدة الدَّالتَيْن على جمعه الأحجار في الطريق بين المدينة ومكّة ليُبني مسجداً ، فإنّ الإمامَيْن عليهما السلام قد أقرَّاه على ذلك ، ولم يتعرض فيهما لحكاية الوقف في تحقّق المسجديّة .

ويشير إلى ذلك أيضاً ما تقدّم من صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في بناء مسجد الرّسول (صلى الله عليه وآله) ، حيث لم يتعرّض فيها لحكاية الوقف في أصل المسجد ، ولا في هذه الزّيادات في كلّ مرّة ، ولو كان ذلك شرطاً في المسجديّة لكان أَوْلى بالحكاية والنقل من تلك الأمور المذكورة فيها .

وممَّا ذكرنا يتضح لك عدم صحّة قول صاحب الجواهر رحمه الله من إطباقهم في باب الوقف على الافتقار فيه إلى اللفظ .

إن قلتَ : إذا كان يكفي في صحة الوقف المعاطاة ، والمعاطاة من العقود الجائزة ، فيلزم منه إمكان رجوع الواقف في العين الموقوفة ، مع أنّه لا يصحّ الرّجوع في الوقف ، وهذا يدلّ على أنّ الوقف يحتاج إلى صيغة ، ولا يكفي فيه مجرد المعاطاة .

قلت : هذا الإشكال في غير محلّه ، لأنّ المعاطاة من العقود اللازمة ، فيشملها قوله تعالى (أوفوا بالعقود) .

ثمّ إنّه ينبغي التنبيه على أمرَيْن :

الأوَّل : لا يُشترط قصد التقرّب في صحّة الوقف ، سواء كان في مطلق الوقف ، أم في خصوص المسجديّة .

نعم ، بناء على اعتبار القربة في صحّة الوقف يتّجه فساد الصّلاة في مساجد المخالفِين ، لعدم صحّة عباداتهم ، فتكون حينئذٍ ملكاً لأربابها .

اللهمَّ إلَّا أنْ يُقال : بصحّة الصلاة في مساجدهم ، لمكان الإعراض عن هذه البقعة ، ومع الإعراض يزول ملكهم عنها .

الأمر الثاني : لا يصحّ تخصيص المسجد بطائفةٍ خاصّة من المسلمين ، أو بقبيلةٍ دون قبيلة ، بل هو لجمع المسلمين .

وعليه ، فلو صرَّح المخالف بالوقف مسجداً على أهل مذهبه اتّجه الفساد ، وتقود البقعة حينئذٍ ملكاً لأصحابها ، إلّا إذا قلنا : بأنّه أعرض عنها ، والله العالم .

قوله : (ولو اتخذ في داره مسجدا لنفسه ، ولم يقفه ، ولا أذن بالصلاة فيه جاز له تغييره)

المعروف بين الأعلام أنّه يستحبُ للإنسان أن يتّخذ مكاناً في بيته للصّلاة فيه ، ويسمّى ذلك المكان مسجداً مجازاً .

وعليه ، فهو عبارة عن اتّخاذ جُزءٍ من البيت ، وإفراده للصّلاة ، والخَلْوة فيه للتوجه ، والإِقبال على العبادة ، وليس له حكم المسجد ، ولذا جاز تغييره ، وتبديله .

ولكن قد يظهر من المحكي عن مجمع البرهان أنّه يحصل له فيه ثواب المسجدية .

ولكنّه في غير محلّه ، ومن هنا صرّح المحقّق الثاني رحمه الله في جامع المقاصد أنّه لا يتعلّق به ثواب المسجد .

أقول : اتّفق الأعلام على عدم إجراء أحكام المسجديّة عليه ، فيجوز له توسيعه وتضييقه وتحويله وجعله كنيفاً ، ونحوه .

ثمّ إنّ الأخبار الواردة بذلك كثيرة :

منها : رواية حريز عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : اتّخِذْ مسجداً في بيتك ... )[6] ، وهي ضعيفة بعدم وثاقة المعلَّى بن محمَّد .

ومنها : رواية عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : كان عليّ عليه السلام قد اتّخذ بيتاً في داره ليس بالكبير ، ولا بالصّغير ، فكان إذا أراد أن يصلّي من آخر الليل أخذ معه صبيّاً لا يحتشم منه ، ثمّ يذهب إلى ذلك البيت فيصلِّي)[7] ، وهي ضعيفة أيضاً لعدم وثاقة محمّد بن خالد الطيالسي .

ومنها : موثّقة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : كان عليّ عليه السلام قد جعل بيتاً في داره - ليس بالصّغير ، ولا بالكبير - لصلاته ، وكان إذا كان الليل ذهب معه بصبي لا يبيت معه ، فيصلِّي معه)[8] .

ويُستفاد من هذه الموثّقة استحباب أن لا يكون في البيت وحده في الليل ، وإن كان في الصّلاة .

ثمّ إنّه قوله : (ولا يبيت معه) ، أي لم يكن في سائر الليل عنده ، لأنّه عليه السلام كان مع أزواجه ، وسراياه ، ولم يكن يناسب كونه نائماً معهن .

ومنها : معتبرة مَسْمع (قال : كتب إليَّ أبو عبد الله عليه السلام : إنِّي أحبّ لك أن تتخذ في دارك مسجداً في بعض بيوتك ، ثمّ تلبس ثوبين طُمْرين[9] غليظَيْن ، ثمّ تسأل الله أن يعتقك من النَّار ، وأنْ يُدْخِلك الجنَّةَ ، ولا تتكلّم بكلمةِ باطل ، ولا بكلمةِ بغيٍ)[10] .

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن المسجد يكون في الدَّارِ ، وفي البيتِ ، فيبدو لأهلِه أن يتوسَّعوا بطائفةٍ منه ، أو يحوِّلُوه عَنْ مكانِه ، فقالَ : لا بأسَ بهذا كلّه ... )[11] .

ومنها : صحيحة الحلبي (أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن مسجد يكون في الدار فيبدو لأهله أن يتوسّعوا بطائفة منه ، أو يحوّلوه عن مكانه ، فقال : لا بأس بذلك ... )[12] .

ومنها : رواية أبي الجارود (قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن المسجدِ يكونُ في البيتِ فيُريدُ أهلُ اليبتِ أنْ يتوسَّعوا بطائفةٍ منه ، أو يُحْوِّلُوه إلى غير مكانه ، قال : لا بأس بذلك ... )[13] ، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد .

ومنها : ما في آخر السَّرائر نقلاً من كتاب أحمد بن محمَّد بن أبي نصر صاحب الرّضا عليه السلام (قال : سألتُه عن رجلٍ كان له مسجد في بعض بيوته ، أو داره ، هل يصلح له أن يجعله كنيفاً ؟ قال : لا بأس)[14] ، وهي ضعيفة بالإرسال ، لأنّ ابن إدريس رحمه الله لم يذكر طريقه إلى كتاب البزنطي .

ورواه في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر مثله[15] ، وهو ضعيف أيضاً بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل .

قال العلّامة رحمه الله في التذكرة : (مَنْ كان له في داره مسجد قد جعله للصّلاة جاز له تغييره ، وتبديله ، وتضييقه ، وتوسيعه ، حسبما يكن أصلح له ، لأنّه لم يجعله عامّاً ، وإنّما قصد اختصاصه بنفسه وأهله ، ولرواية أبي الجارود ، وهل تلحقه أحكام المساجد من تحريم إدخال النجاسة إليه ، ومنع الجنب من استيطانه وغير ذلك ؟ الأقرب : المنع ، لنقض المعنى فيه)[16] .

قال العلّامة المجلسي رحمه الله في البحار بعد نقله : (وكلامه يُشعر بالتردّد مع الوقف كذلك أيضاً ، كما احتمله الوالد قدس سره)[17] .

أقول : ظاهر الرّوايات المتقدّمة هو اتّخاذ موضع في الدار للخلوة في الصّلاة فيه ، وبذلك أطلق عليه لفظ المسجد .

ولكن أجوبة الأئمة ﭺ بيَّنت أنه ليس بمسجد حقيقة ، ولا يترتب عليه شيء من أحكام المسجدية بالكلية ، وإنما هو موضع اتخذ لذلك ، والغرض منه التوجه للإقبال على العبادة ، ومتى أراد صاحبه تغييره غيره إلى ما يريد ، والله العالم بحقائق أحكامه.


[9] الطمر - بكسر الطاء - : جمع أطمار، الثوب الخلق.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo