الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/02/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : أحكام المساجد
ومنها : ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم ، وغيره عن أبيه عن خالد بن ماد عن الصّادق عليه السلام (قال : مكّة حرُم الله وحرُم رسوله ، وحرُم عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، الصّلاة فيها بمائة ألف صلاة ، والدّرهم فيها بمائة ألف درهم ، والمدينة حرُم الله وحرُم رسوله ، وحرُم عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، الصّلاة فيها بعشرة آلاف صلاة ، والدّرهم فيها بعشرة آلاف درهم ، والكوفة حرُم الله ، وحرُم رسوله ، وحرُم علي بن أبي طالب ، الصّلاة فيها بألف صلاة ، والدّرهم فيها بألف درهم)[1] ، والرواية حسنة .
قال صاحب الحدائق رحمه الله : (ما تضمنه حديث القلانسي من قوله عليه السلام مكّة حرم الله وحرم رسوله ... ) لعلّ الوجه فيه أن كون مكّة حرم الله - عزوجل - : أي محترمة ومعظّمة لأجله ، فلأنّها مقرّ بيته الحرام - إلى أن قال : - وأمّا كونه حرُم الرسول وأمير المؤمنين - صلوات الله عليهما - فإمَّا باعتبار كونها بلدهما الأصلية ، ومنشأهما ووطنهما ، وإمّا باعتبار أنّ ما كان لله عزّوجل فهو ثابت لهما بطريق النيابة - إلى أن قال : - وأمّا كون المدينة حرُم الله عزّوجل فمِن حيث سُكْنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها ، واتّخاذه لها دار هجرة ، فعظّمها لأجله - إلى أن قال : - وأمّا كونها حرم الرّسول وعليّ عليهما الصّلاة والسلام فلأنّها منشأهما ومقرّهما بعد الهجرة - إلى أن قال : - وأمّا الكوفة فبالتقريب المتقدّم)[2] .
ومنها : معتبرة السّكوني بطريق البرقي في المحاسن عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام (قال : صلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة ، وصلاة في مسجد في مسجد القبيلة خمس وعشرون ، وصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة ، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة )[3] .
وأمّا استحباب المكتوبة في المشاهد : فهو المعروف بين الأعلام ، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في كتاب المزار في الحجّ فراجع ، هذا كلّه في فَضْل صلاة المكتوبة في المساجد .
وأمّا النافلة : فالمشهور بين الأعلام أفضليّة صلاتها في البيت من المسجد ، بل في المعتبر والمنتهى نسبته إلى فتوى علمائنا ، مشعرين بدعوى الإجماع عليه ، و في المدارك : (وأمّا أنّ صلاة النافلة في المنزل أفضل من المسجد فهو قول أكثر الأصحاب ، لأنّ فِعْلها في السرّ أبلغ في الإخلاص ، وأبعد من وساوس الشّيطان ... )[4] .
أقول : قد استدلّ لذلك بعدّة أخبار :
منها : النبويّ المروي من طرق العامّة (أنّه (صلى الله عليه وآله) قال : أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة )[5] ، ولكنّه ضعيف جدّاً ، كما هو واضح .
ومنها : ما رواه محمّد بن الحسن في المجالس بإسناده عن أبي ذرٍّ - رضوان الله عليه - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيّته له قال - بعد ما ذكر فضل الصّلاة في المسجد الحرام أو مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) - : (وأفضل من هذا كلّه صلاة يصلّيها الرّجل في بيته ، حيث لا يراه إلّا الله عزّوجل يطلب بها وجه الله تعالى - إلى أن قال : - يا أبا ذر ! إنّ الصّلاة النافلة تفضّل في الستر على العلانيّة ، كفضل الفريضة على النافلة ... )[6] .
ولا ريب في أنّها في البيت أخفى منها في المسجد الذي هو محلّ تردّد المصلّين إليه .
ولكنّ هذه الرّواية ضعيفة لوجود بعض المجهولين والضعفاء في طريق الشّيخ رحمه الله إلى وصيّة النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ - رضوان الله عليه - .
هذا ، ولكنِ استَشكل فيه غير واحدٍ من المتأخّرين ، بل رجَّح خلافه ، ففي المدارك : (ورجَّح جدِّي - قدس سره - في بعض فوائده رجحان فِعْلها في المسجد أيضاً ، كالفريضة ، وهو حسن ، خصوصاً إذا أمن على نفسه الرياء ورجا اقتداء النّاس به ، ورغبتهم في الخير .... )[7]
أقول : يدل على ما ذكره الشّهيد الثاني وصاحب المدارك (قدس سرهما) ، وغيرهما من الأعلام ، بعض الأخبار :
منها : صحيحة معاوية بن وهب (قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول : وذكر صلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : كان يُؤتى بطهور فيخمر[8] عند رأسه - إلى أن يقول : - ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات - إلى أن يقول : - ثمّ يعود إلى فراشه ، فينام ما شاء الله - إلى أن يقول : - ثمّ يَسْتنّ ويتطهّر ، ويقوم إلى المسجد ، ويصلّي الأربع ركعات - إلى أن يقول : - ثمّ يَسْتنّ ويتطهر ، ويقوم إلى المسجد فيُوتر ، ويصلّي الركعتين ، ثمّ يخرج إلى الصّلاة)[9] ، ولا قائل بالفصل بين صلاة الليل وغيرها .
هذا وقد نقل صاحب المدارك رحمه الله الرّواية هكذا : (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يصلّي صلاة الليل في المسجد) ، وتبعه عليه جماعة كثيرة من الأعلام .
ولكنّك عرفت أنّ الرّواية لم ترد بهذا اللفظ ، والظّاهر أنّه رحمه الله نقلها بالمعنى .
ومنها : مرسلة ابن أبي عمير (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : إنّي لأكره الصّلاة في مساجدهم ، فقال : لا تكره ، فما من مسجد بني إلّا على قبر نبيّ ، أو وصيِّ نبي ، قتل فأصاب تلك البقعة رشة من دمه ، فأحبّ الله أن يُذكر فيها ، فأدِّ فيها الفريضة والنوافل ، واقضِ ما فاتك)[10] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سأله ابن أبي يعفور كم أصلّي ؟ فقال : صلّ ثمان ركعات عند زوال الشّمس ، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : الصّلاة في مسجدي كألفٍّ في غيره ، إلّا المسجد الحرام فإنّ الصّلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي)[11] ، بل يُستشعر من هذه الصحيحة أنّ النافلة كالفريضة في التضاعف في المسجد الحرام .
ومنها : رواية هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : قال لي : يا هارون ! لِمَ بينك وبين مسجد الكوفة - إلى أن قال : - وإنّ الصّلاة المكتوبة فيه لتعدّ بألف صلاة ، وإنّ النافلة فيه لتعدل بخمسمائة صلاة ... )[12] ، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد ، وجهالة محمّد بن عبد الله الخزّاز .
ومنها : رواية عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : جاءَ رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مسجد الكوفة - إلى أن قال : - وصلّ في هذا المسجد ، فإنّ الصّلاة المكتوبة فيه حجّة مبرورة ، والنافلة عمرة مبرورة ... )[13] ، وهي ضعيفة بجهالة يعقوب بن عبد الله من ولد أبي فاطمة ، وبإسماعيل بن زيد مولى عبد الله بن يحيى الكاهلي ، فإنّه مهمل ، إلى غيرها من الرّوايات .
وربّما يؤيّده زيادة على ما سمعت قصور أدلّة المشهور عن إفادة المطلوب ، إذ هي بين غير معتبر السّند ، وبين غير دالٍّ على المطلوب ، كالرّوايات الدّالة على استحباب التستّر بها ، إذ هي خارجة عن المطلب ، ضرورة كون البحث في رجحانها في المسجد وعدمه من حيث المسجديّة ، وغيرها ، مع قطع النظر عن الجهات الخارجية .
وعليه ، فلا إشكال أنّ فِعْل الصّلاة في المسجد من حيث هو أفضل من فِعْلها في البيت ، ولكن فعل النافلة سرّاً أفضل من الإتيان بها علانيةً ، فإنِ اجتمع العنوانان في موردٍ فهو نور على نور ، وإن تزاحما فهما كغيرهما من المستحبّات ، نظير ما لو دار الأمر بين أن يصلّي في المسجد مع تشتت البال ، وفي بيته مع الخلوص والإقبال والترجيح في مثل هذه الموارد يحتاج إلى لطفِ قريحة .
وبالجملة ، فإنّ من كشف الله تعالى بصيرته ، وعلم حُسْن سيرته ، وكان هو المؤيّد والمسدَّد له ، والهادي ، يوفِّقه لِمَا يحبّه ويرضاه له ، قال الله تعالى : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾[14] ، هذا كلّه في صلاة الرِّجال في المسجد .
وأمّا النّساء فسيأتي الكلام عنه - إن شاء الله تعالى - عند قول المصنّف الآتي : (ويستحبّ للنّساء الاختلاف إليها ، كالّرجال ، وإن كان البيت أفضل ... )[15] .
قوله : (ويستحبّ اتّخاذ المساجد)[16]
في المدارك : (أمّا استحباب اتّخاذ المساجد السّابق مسجديّته ؛ نعم استفادة استحباب بناء المساجد ، بمعنى إنشائها من الآية الشريفة ، إنّما هي بالفحوي ، ويدلّ على الاستحباب عدّة روايات ، منها حسنة أبي عبيدة الحذَّاء ، (قال : سمعتً أبا عبد الله عليه السلام يقول : مَنْ بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة ، قال أبو عبيدة : فمرّ بي أبو عبد الله عليه السلام في طريق مكّة ، وقد سوِّيتُ بأحجارٍ مسجداً ، فقلتُ له : جعلت فداك ! نرجو أن يكون هذا من ذاك ، قال : نعم))[17] .
ومنها : خبره الآخر عن أبي جعفر عليه السلام (أنّه قال : من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة ، قال أبو عبيدة : ومرّ بي وأنا بين مكّة والمدينة أضع الأحجار ، فقلت : هذا من ذاك ؟ قال : نعم)[18] ، ولكنّه ضعيف ، لأنّ الشّيخ الصّدوق رحمه الله لم يذكر طريقه في المشيخة إلى أبي عبيدة الحذَّاء ، فتكون الرّواية مرسلة .