< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكانُ المصلِّي

رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه علي بن جعفر مثله ، زاد (قلتُ : فإن لم يفعل وصلّى أيعيد صلاته ، أم ما عليه ؟ قال : لا يعيد صلاته وليس عليه شيء)[1] ، ورواه عليّ بن جعفر في كتابه مع الزيادة ، وهذه الزيادة وإن لم تثبت بطريق الحميري لأنّ عبد الله بن الحسن مهمل ، إلّا أنها ثابتة لوجودها في كتاب عليّ بن جعفر رحمه الله ، حيث إنّ صاحب الوسائل رحمه الله له طريق صحيح إليه .

لا يقال : إنّ هذه الرواية خارجة عن محل الكلام ، حيث إنّ المفروض فيها كون الحِمار واقفاً .

فإنّه يُقال : إنّ الحِمار الواقف قد يمشي ، ويمرّ بين يديه ، وهو في الصّلاة ، فالمقصود بالرّواية ليس إلّا بيان كفاية وضع شيء فيما بينهما حائلاً ، سواء بقي الحِمار على حالته ، أم أخذ في المشي .

قوله : (ويستحبّ الدنوّ من السّترة)[2]

قال المصنّف رحمه الله في الذكرى : (يستحبّ الدنوّ من السّترة ، لِما رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله) إذا صلّى أحدكم إلى سترة فَلْيدن منها لا يقطع الشّيطان صلاته[3] ، وقدّره ابن الجنيد رحمه الله بمربض الشّاة ، لِما صحّ من خبر سهل السّاعدي قال : كان بين مصلّى النبي (صلى الله عليه وآله) وبين الجدار ممر الشّاة[4] ، وبعض العامّة بثلاثة أذرع)[5] .

ويؤيِّد ما ذكره المصنّف رحمه الله : ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) ( قال : إذا قام أحدكم في الصّلاة إلى سترة فَلْيدنُ منها ، فإنّ الشّيطان يمرّ بينه وبينها ، وحد في ذلك كمَرْبض الثّور) [6] .

والإنصاف : أنّ هذه الرّوايات الثالث كلّها ضعيفة السّند .

أمّا الأولتان اللتان ذكرهما المصنّف رحمه الله في الذكرى فأمرهما واضح .

وأمّا رواية دعائم الإسلام : فبالإرسال .

ويفهم من كلام صاحب المدارك رحمه الله أنّه لا دليل على استحباب الدنو ، حيث قال : (ويستحبّ الدنو من السّترة بمربض عنز إلى مربض فرس ، قاله الأصحاب)[7] .

أقول : قد يستدلّ للقول بالاستحباب بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز ، وأكثر ما يكون مربط فرس) [8] .

قوله : (ودرء المارّة)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (يستحبّ دفع المارّ بين يديه ، لقوله (صلى الله عليه وآله) : لا يقطع الصّلاة بشيء ، فادرؤا ما استطعتم ... ) .

أقول : قد استدلّ لذلك بجملة من الرّوايات :

منها : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل يقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه ؟ فقال : لا يقطع صلاة المسلم شيء ، ولكن ادرأ ما استطعت) [9] .

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل هل يقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه ؟ فقال : لا يقطع صلاة المؤمن شيء ، ولكن ادرؤا ما استطعتم) [10] .

ومنها : موثّقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه ( أنّ عليّاً عليه السلام سُئِل عن الرّجل يصلّي ، فيمرّ بين يديه الرّجل والمرأة والكلب والحمار ، فقال : إنّ الصّلاة لا يقطعها شيء ، ولكن ادرؤا ما استطعتم ، هي أعظم من ذلك) [11] .

وقد فهم المصنّف رحمه الله هنا ، وفي الذكرى : من هذه النصوص استحباب دفع المار برمي شيء أو دفعه باليد ، ونحو ذلك ، مضافاً إلى استحباب السّترة ، وكذا فهم غيره من الأعلام.

ولكن قال صاحب الحدائق رحمه الله : (والظاهر عندي إنّما هو الدفع بجعل السّترة فهو كناية عن الأمر بالسّترة ، بمعنى ادفعوا ضرر مروره بالاستتار بالسّترة ، فإنها متى وضعت لم يمرّ بينها وبين المصلّي ... )[12] .

ووافقه صاحب الجواهر رحمه الله ، حيث قال في جملة من كلامه : (قلتُ : يمكن أن يُقال : إنّ المراد بالإدراء الكناية عن التستّر الذي هو المدافعة بالتي هي أحسن ، ضرورة ظهور النصوص ، بل صراحتها ، كما اعترف هو في أنّه مع السّترة لا يضرّه بعد مرور المارّ ، لكونه مستوراً ولو شرعاً ، كالتستّر بالعنزة ، ونحوها - إلى أن قال : - بل قد يؤيّد ذلك أنّ مرور المارّ إنّما هو في أرضٍ مباحة ، ونحوها ، ممّا يجوز له المرور فيه ، فلا يستحقّ الدفع والرمي بالحجر ، ونحوهما من أنواع الأذى المشهورة بين العامة العمياء ، حتى أنّه يحصل منهم بذلك بعض الأقوال المشابهة لأحوال الكلاب والخنازير عند مزاحمتها ... )[13] .

والإنصاف : أنّ ما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله وفاقاً لصاحب الحدائق رحمه الله وإن كان مستحسناً إلّا أنّه خلاف ظاهر الروايات ، فما فهمه المصنّف رحمه الله هو الأقرب .

ومهما يكن ، فلا يعارض هذه الأخبار خبر ابن أبي عمير المروي عن كتاب التوحيد : (قال : رأى سفيان الثوري أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام - وهو غلام - يصلّي ، والنّاس يمّرون بين يديه ، فقال له : إنّ النّاس يمرّون بين يديك وهم في الطواف ! فقال له : الذي أصلّي له أقرب من هؤلاء) [14] .

ومرفوعة عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن مسلم (قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال له : رأيتُ ابنك موسى يصلّي ، والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم ، وفيه ما فيه ! فقال أبو عبد الله عليه السلام : ادّعوا لي موسى فدعى ، فقال له : يا بني ! إنّ أبا حنيفة يذكر أنّك كنت صلّيت والنّاس يمرّون بين يديك ، فلم تنههم ؟ فقال : نعم ، يا أبه ! إنّ الذي كنت أصلّي له كان أقرب إليّ منهم ، يقول الله عزوجل : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، قال : فضمّه أبو عبد الله عليه السلام إلى نفسه ، ثمّ قال : يا بني ! بأبي أنت وأمي ، يا مستودع الأسرار) [15] .

وخبر سفيان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام (أنّه كان يصلّي ذات يوم إذ مرّ رجل قِدامه - وابنه موسى جالس - فلمّا انصرف قال له ابنه : يا أبه ! ما رأيت الرّجل مرّ قِدامك ؟ فقال : يا بني ! إنّ الذي أصلّي له أقرب إليّ من الذي مرّ قِدامي) [16] .

وخبر ضيف (سيف . منيف . خ ل ) مولى جعفر بن محمد عليه السلام عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليه السلام قال (كان الحسين بن علي عليه السلام يصلّي فمرّ بين يديه رجل فنهاه بعض جلسائه فلمّا انصرف من صلاته قال له : لمَ نهيت الرّجل ؟! فقال : يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطر فيما بينك وبين المحراب ! فقال : ويحك ! إنّ الله عزوجل أقرب إليّ من أنْ يخطر فيما بيني وبين (بينه خ ل) أحد) [17] .

وفيه أوّلاً : أنّ هذه الأخبار كلها ضعيفة السّند إلّا الرّواية الأُولى ، إذ الرّواية الثانية ضعيفة بالرفع ، والثالثة بسفيان بن خالد ، فإنّه مجهول ، والرّابعة بجهالة أكثر من شخص .

وثانياً : أنّها حكاية فِعْل لا تصلح معارضة للقول ، وما فيها من التعليل أُريد منه بحسب الظّاهر دفع توهّم كون المرور قاطعاً للصّلاة ، فكأنّهم كانوا يتوهّمون أنّ الصّلاة تذهب بحيال صاحبها إلى القبلة ، فيكون المرور موجباً لانقطاع بعضها عن بعض ، فأبطل الإمام عليه السلام هذا الوهم بقوله عليه السلام : (إنّ الذي اصلّي له أقرب إلي من هؤلاء) .

وثالثاً : يحتمل ورود جميعها كالخبر الأوّل في مكة المعظمة التي اغتفر فيها هذا الحكم لمكان الضّرورة ، كما يشهد بذلك صحيحة معاوية بن عمار (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : أقوم أصلّي بمكة والمرأة بين يدي جالسة ، أو مارّة ، فقال : لا بأس إنّما سمّيت بكّة ، لأنّه يبكّ فيها الرّجال والنّساء) [18] .

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المقصود بالدفع الذي حكمنا باستحبابه إنّما ما لا يترتب عليه مفسدة من ظلم ، أو إيذاء مؤمن ، ونحوه ، ضرورة أنّ المستحبّ لا يعارض الحرام .

قوله : (لا قتاله)

قال المصنّف رحمه الله في الذكرى : (لو احتاج في الدفع إلى القتال لم يجز ، ورواية أبي سعيد الخدري ، وغيره عن النبي (صلى الله عليه وآله) : فإنْ أبى فَلْيقاتله ، فإنّما هو شيطان[19] للتغليظ ، أو تُحمَل على دفاع مغلّظ لا يؤدّي إلى حرج (جرح خ ل) ، ولا ضرر) .

ولا يخفى أنّ هذه الرّواية التي ذكرها المصنّف رحمه الله من روايات العامّة التي لا يعتدّ بها أصلاً .

نعم ، روى في كتاب دعائم الإسلام عن عليّ عليه السلام (أنّه سُئل عن المرور بين يدي المصلّي ، فقال : لا يقطع الصّلاة شيء ، ولا تدع من يمرّ بين يديك) [20] ، والموجود في البحار بزيادة : (ولو قاتلته) .

ومهما يكن ، فالرّواية ضعيفة بالإرسال ، بالإضافة إلى أنّها محمولة على ما ذكره المصنّف رحمه الله في الذكرى من التغليظ ، والمبالغة في الدفع .

ثمّ إنّ الظّاهر كون المرور ونحوه حكمة في السّترة ، لا علة ، بحيث لا تستحبّ السّترة حيث يعلم عدم حضور أحد ، أو مروره .

وممّا يدلّ على كون المرور حكمة في السّتر ، لا علة : بعض الأخبار المتقدّمة ، والتي منها معتبرة السّكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا صلّى أحدكم بأرضِ فلاةٍ فَلْيجعل بين يديه مثل مؤخّرة الرّجل ، فإنْ لم يجد فحجراً ، فإن لم يجد فسهماً ، فإن لم يجد فليخطّ في الأرض بين يديه) [21] ، والذي يصلّي بأرض فلاة يطمأنّ عادة بعدم مرور أحد .

قوله : (وسترة للمأموم)

قال المصنّف رحمه الله في الذكرى : (سترة الإمام سترة لِمَنْ خلفه ، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يأمر المؤتمّين بستره(4) ، ولأنّ ظهر كلّ واحد منهم سترة لصاحبه) .

أقول : الرّواية النبوية لم ترد من طرقنا ، وإنّما وردت من طرق العامّة ، فلا اعتبار بها .

وأمّا تعليله بأنّ ظهر كلّ واحد منهم سترة لصاحبه ، فلو تمّ فإنّما يتمّ في الصفّ الثاني ، وما بعده ، وأمّا الصفّ الأوّل فيبقى مشمولاً لعموم أدلّة السّترة ، والله العالم .


[3] تيسير الوصول، ج2، ص258 عن أبي داود.
[4] صحيح مسلم، ج4، ص225.
[19] صحيح البخاري، ج1، ص102.
[21] صحيح البخاري، ج1، ص101.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo