الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/01/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : مكانُ المصلِّي
قوله : (وقرى النمل)[1]
وهو المعبّر عنه بمساكن النّمل ، وفسَّرها بعض اللُغويين بالمأوى ، وعن القاموس : (أنّ القُرى هي مجمع ترابها) .
ومهما يكن ، فإنّ المعروف بين الأعلام كراهة الصّلاة في قُرى النمل ، وفي الجواهر : (إجماعاً في الغُنية ... )[2] .
يدلّ على ذلك مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة[3] ، حيث ورد فيها (وقُرى النمل) ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .
وقد استدلّ أيضاً برواية عبد الله بن عطا - في حديث - (أنّه سارَ مع أبي جعفر عليه السلام حتّى إذا بلغا موضعاً قال له : الصّلاة - جعلت فداك ! - قال : هذا وادي النّمل ، لا يصلّى فيه ، حتّى إذا بلغا موضعاً آخر قال له : مثل ذلك ، فقال : هذا أرض مالحة ، لا يصلّى فيها)[4] ، ولكنّها ضعيفة ، لأنّ الحكم بن محمّد بن القاسم الموجود في السند مهمل .
هذا ، ونقل العلّامة المجلسي رحمه الله في البحار : (أنّ في بعض النُسخ (نصلّي) في الموضعين بالنون ، وفي بعضها بالتاء )[5] .
ثمّ قال : (فعلى الأوّل ظاهرة في اختصاص الحكم بهم عليه السلام ... ) .
أقول : المعروف بين المحدِّثين أنّه بالياء .
والذي يهوِّن الخطب : أنّ الرّواية ضعيفة ، ورواها العيَّاشي رحمه الله في تفسيره عن عبد الله بن عطاء (قال : ركبت مع أبي جعفر عليه السلام فسرنا حتّى زالت الشّمس وبلغنا مكاناً ، قلت : هذا المكان الأحمر ، فقال : ليس يُصلّى هاهنا ، هذه أودية النّمال ، وليس يُصلّى فيها ، قال : فمضينا إلى أرضٍ بيضاءَ ، فقال : هذه سبِخة ، وليس يُصلّى بالسّباخ ، قال : فمضينا إلى أرض حصباء ، قال : هنا ننزل ، ونزلت ... )[6] ، وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال ، لأنّ العياشي رحمه الله لم يذكر طريقه إلى عبد الله بن عطاء .
وعليه ، فالرّوايات الواردة في المقام ضعيفة السّند لا يمكن الحكم بالكراهة من خلالها ، فالقول بها مبني على التسامح في أمر الكراهة .
ثمّ إنّ ظاهر رواية عبد الله بن العطاء كراهة الصّلاة في وادي النّمل وإن لم تكن هناك قراها وجحورها ، وقد علّل الشّيخ الصّدوق رحمه الله الكراهة في وادي النّمل بأنّها لا تخلو من التأذّي بالنّمل ، واشتغاله بذلك .
وفيه : أنّ أقصى ما يمكن قوله في ذلك أنّها حكمة لا علّة ، كما لا يخفى .
قوله : (ومجرى الماء)
هذا هو المعروف بين الأعلام .
ويدل عليه : مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة ، حيث ورد فيها : (ومجرى الماء) ، ولكنّك عرفت أنّها ضعيفة .
وقد يستدلّ أيضاً بخبر المناهي : (ونهى أنْ يُصلّى الرّجل في المقابر والطرق والأرحية[7] ، والأودية ... )[8] ، وقد عرفت سابقاً أنّه ضعيف جدّاً .
والأودية : جمع واد ، وهو على ما في مجمع البحرين : (الموضع الذي يسيل منه الماء بكثرة)[9] ، وقد يظهر من رواية أبي هاشم الجعفري صدق الصّلاة في الوادي مع كونه في سفينةً ، ونحوها (قال : كنتُ مع أبي الحسن عليه السلام في السّفينة في دجلة فحضرت الصّلاة ، فقلت : جُعلتُ فداك ! نصلّي في جماعةٍ ، قال : لا يُصلّى في بطنِ وادٍ جماعةً )[10] ، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد .
وأمّا أبو هاشم الجعفري : فقد عرَّفه النجاشي رحمه الله بقوله : (داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبو هاشم الجعفري رحمه الله كان عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام ، شريف القدر ثقة ، روى أبوه عن أبي عبد الله عليه السلام)[11] .
أقول : يحتمل أن تكون الصّلاة في الأودية - بناءً على ثبوت الكراهة - في حدّ ذاتها مكروهاً مستقلّاً ، لا من حيث كونها مجرى الماء الكثير ، أي المسيل ، فإنّهما على ما يظهر من بعض مفهومان متباينان ، قد يتصادقان في بعض الموارد .
قوله : (والسّبخة)
بفتح الباء واحدة : السّباخ ، وهو ما يعلوها ، كالملح ، وإذا كانت نعتاً للأرض ، كقولك : الأرض السبخة ، فهي بكسر الباء ، كذا نقل عن الخليل في كتاب العين .
ومهما يكن ، فالمشهور بين الأعلام الكراهة .
ويدلّ على الحكم المذكور جملة من الأخبار بلغت حدّ الاستفاضة :
منها : مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة .
ومنها : رواية عبد الله بن عطا المتقدّمة أيضاً ، والتي رواها العياشي رحمه الله أيضاً ، وقد عرفت أنّ هذه الرّوايات كلّها ضِعاف .
ومنها : موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سألتُه عن الصّلاة في السّبخة لِمَ تَكْرهه ؟ قال : لأنّ الجبهة لا تقع مستوية ، فقلت : إن كان فيها أرض مستوية ، فقال : لا بأس)[12] .
ومنها : رواية معلّى بن خنيس (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن السّبخة أيصلّي الرّجل فيها ؟ فقال: إنّما تكره الصّلاة فيها من أجل أنها لا يستمكن الرّجل يضع وجهه كما يريد ، قلت : أرأيت إنْ هو وضع وجهه متمكناً ؟ فقال : حسن)[13] ، وهي ضعيفة بالمعلّى بن خُنيس .
ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه (قال : سألتُه عن الصّلاة في الأرض السّبخة أيصلّي فيها ؟ قال : لا ، إلّا أن يكون فيها نبت ، إلّا أن يخاف فوت الصّلاة ، فيصلّي)[14] .
ومنها : صحيحة معمّر بن خلاد عن أبي الحسن عليه السلام - في حديث - (قال : لا تسجد في السّبخة)[15] .
ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - (قال : كرِه الصّلاة في السّبخة ، إلّا أن يكون مكاناً لَيْناً تقع عليه الجبهة مستويةً)[16] .
ومنها : موثّقة داود بن الحُصَين بن السّري (قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام لِمَ حرّم الله الصلاة في السّبخة ؟ قال : لأنّ الجبهة لا تتمكّن عليها)[17] ، وكذا غيرها من الرّوايات .
ثمّ لا يخفى عليك أن مقتضى كثيرٍ من الأخبار المتقدّمة اختصاص المنع بما إذا لم يتمكّن من وضع الجبهة على الأرض ، فيحرم الصّلاة فيها حينئذٍ ، لأنّه لا يتمكّن من وضعها على الأرض مستقرّة ، بحيث يتحقّق به أقلّ ما يجزئ في السُّجود .
ولكنّ حمل تلك الأخبار على الحرمة - لعدم تمكّنه من وضع الجبهة على الأرض مستقرّةً - في غاية البعد ، بل ينبغي الجزم بخلافه ، إذ لا تكاد تُوجد أرض لا يتمكّن المصلّي من أن يضع جبهته ، على وجهٍ يحصل به مسمَّى الوضع المعتبر في السُّجود ، ولو بتعديلِ موضعِ سجودِه قبل أن يسْجد عليها ، فكيف يجوز حينئذٍ إطلاق المنع عنها في بعض تلك الأخبار ؟! .
وتعليلها في الأخبار بهذه العلّة غير المطّردة ، بل نادرة التحقّق ، إنْ أُريد بها ما ذكِر - من عدم التمكّن من وضعها ، على وجه يتحقّق معه صدق مسمى الوضع - فالمقصود بالتعليل الواقع في الأخبار بحسب الظاهر بيان حكمة الحكم الواجب رفعها لخفّة الكراهة ، أو رفعها من أساسها ، وهي عدم استواء الأرض وخشونتها ، المانعة من التمكّن التامّ من وضع جبهته على حسب إرادته على الوجه الكامل .
وممّا يشهد بأنّ المراد من الأخبار الناهية عن الصّلاة في الأرض ليس إلّا الكراهة موثّقة سماعة النافية للبأس عنه (قال : سألتُه عن الصّلاة في السّباخ ، فقال : لا بأس)[18] .
وقد عرفت أنّ مضمرات سماعة مقبولة ، وهذه الموثّقة لا تنافي القول بالكراهة ، لأنّ نفي البأس محمول على بيان الرخصة غير المنافي للكراهة ، والله العالم .
قوله : (والثلج)
المعروف بين الأعلام كراهة الصّلاة في أرض الثّلْج ، بمعنى أن تكون الصّلاة على الثّلْج مع كون السُّجود على شيءٍ آخر يصحّ السُّجود عليه .
وقدِ استُدلّ للحكم المذكور بعدّة رواياتٍ :
منها : مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة ، وقد عرفت أنّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : موثّقة عمّار - في حديث - (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الرّجل يصلّي على الثَّلْج ، قال : لا ، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه ، وصلّى عليه)[19] .
ومنها : ما في مشكاة الأنوار للطبرسي رحمه الله عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام ، فقال له : أصلحك الله ! إنّا نتِّجر إلى هذه الجِبال ، فنأتي أمكنة لا نستطيع أن نصلّي إلّا على الثّلْج ، قال : ألَا تكون مثل فلان - يعني رجلاً عنده - يرضى بالدون ، ولا يطلق التجارة إلى أرض لا يستطيع أن يصلّي إلّا على الثّلْج)[20] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .
ثمّ إنّه قد يُقال : إنّ الظّاهر أنّ النهي عن الصّلاة على الثّلْج في تلك الأخبار محمول على التحريم ، لأنّ الثّلْج ليس بأرضٍ حتّى يجوز السُّجود عليه مع وجود الأرض ، وتكون موثّقة عمّار دالّة على أنّ السُّجود على الثوب عند تعذّر الأرض مقدّم على السُّجود على الثّلْج .
وقد يؤيِّد حمل تلك الأخبار على التحريم - حيث لا يصحّ السُّجود على الثّلْج اختياراً - بعض الروايات :
منها : صحيحة معمّر بن خلاد (قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن السُّجود على ثَلْج ، فقال : لا تسْجد في السّبخة ، ولا على الثَّلْج)[21] .
ومنها : رواية داود الصرمي (قال : سألتُ أبا الحسن عليه السلام ، قلت : إنّي أخرج في هذه الوجه ربّما لم يكن موضع أصلّي فيه من الثّلْج ، قال: إن أمكنك أن لا تسجد على الثّلْج فلا تسجد عليه ، وإن لم يمكنك فسوِّه واسجد عليه)[22] ، ولكنّها ضعيفة ، لعدم وثاقة داود الصرمي .
ومنها : معتبرة منصور بن حازم عن غير واحدٍ من أصحابنا (قال : قلتُ لأبي جعفر عليه السلام : إنّا نكون بأرضٍ باردةٍ يكون فيها الثّلْج ، أفنسجد عليه ؟ قال : لا ، ولكن اجعل بينك وبينه شيئا ، قطناً ، أو كتاباً)[23] .
لا يقال : إنّ الرّواية ضعيفة بالإرسال .
فإنّه يُقال : إنّ هذا الإرسال غير مضرٍّ بصحّة الرّواية ، لأنّنا نطمئنّ بوجود الثقة في قوله : (غير واحد من أصحابنا) .