الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
36/12/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : مكان المصلَّي
بل قد يُستفاد من صحيح ابن محبوب عن الرضا × كون الحكم مفروغاً منه ، قال : سألت أبا الحسن × عن الجصّ يُوقد عليها بالعذرة ، وعظام الموتى ، ثمّ يجصّص به المسجد ، أيسجد عليه ؟ فكتب × إليَّ بخطه : أنّ الماء والنّار قد طهّراه[1] ، حيث يفهم منه أنّه لولا أنّ الماء والنار قد طهّراه لم يجز السجود عليه.
وأمّا ما أشار إليه العلّامة المجلسي & في البحار من ظهور بعض الأخبار في عدم اشتراط طهارة موضع الجبهة ، كصحيحة علي بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر × عن البيت والدار لا تصيبهما الشّمس ، ويصيبهما البول ، ويغتسل فيهما من الجنابة أيُصلي فيهما إذا جفّا ؟ قال : نعم[2] .
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر × قال : سألته عن الشّاذكونة تكون عليها الجنابة ، أيصلّى عليها في المحمل ؟ قال : لا بأس بالصلاة عليها[3] .
وكذا غيرهما من الأخبار ، فهو معارَض بغيره من الأخبار ممّا ظاهره المنع ، كصحيحة زرارة قال : سألت أبا جعفر × عن البول يكون على السطح ، أو في المكان الذي يصلّي فيه ، فقال : إذا جفّفته الشّمس فصلّ عليه ، فهو طاهر[4] ، وهو ظاهر في المنع إذا لم تجفّفه الشّمس .
وموثّقة ابن أبي بكير قال : سألت أبا عبد الله × عن الشاذكونة يصيبها الاحتلام ، أيصلّي عليها ؟ فقال : لا[5] ، مع أنّه يمكن الجمع بينهما بوجوه .
والأقرب : أنّ تُحمل روايات المنع على المنع عن السجود خاصّة ، والرّوايات المجوّزة على غير محلّ السجود بقرينة التسالم ، أو الإجماع المحكي بالتواتر ، وبقرينة صحيحة ابن محبوب أيضاً المتقدمة ، والله العالم .
الأمر الثاني : المعروف بين الأعلام : أنّه لا يشترط الطهارة فيما عدى موضع الجبهة ممّا يصلَّى عليه ، وقد حكي عن أبي الصّلاح أنّه اعتبر طهارة موضع المساجد السبعة ، وعن السّيد المرتضى & أنّه اشترط طهارة مكان المصلّي مطلقاً.[6]
وقدِ استُدل لمذهب المشهور بعدّة من الرّوايات :
منها : صحيحة عليّ بن جعفر[7] ، وصحيحة زرارة[8] المتقدّمتان .
ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر الثانية عن أخيه موسى بن جعفر × قال : سألته عن البواري تبل قصبها بماء قذر ، أيصلّى عليه ؟ قال : إذا يبست فلا بأس[9] .
ومنها : موثّقة عمار السّاباطي قال : سألت أبا عبد الله × عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر ، هل تجوز الصّلاة عليها ؟ فقال : إذا جفّت فلا بأس بالصّلاة عليها[10] ، بناءً على إرادة اليبوسة والجفاف بغير الشّمس ، وإلّا فتكون طاهرة .
ومنها : صحيحة علي بن جعفر الثالثة عن أخيه موسى بن جعفر × - في حديث - قال : سألته عن البواري يصيبها البول ، هل تصلح الصّلاة عليها إذا جفّت من غير أن تُغسل ؟ قال : نعم لا بأس[11] ، إن أُريد من الجفاف فيه بغير الشّمس.
ومنها : رواية محمّد بن أبي عمير قال : قلتُ لأبي عبد الله × أصلّي على الشّاذكونة ، وقد أصابتها الجنابة ؟ فقال : لا بأس[12] ، ولكنّها ضعيفة بصالح النيلي الذي هو صالح بن الحكم النيلي ، وقد ضعّفه النجاشي ، قال في محكي الوافي : الشاذكونة بالفارسية : الفراش الذي ينام عليه .
وكذا غيرها من الرّوايات ، وهذه الرّوايات ، وإن كانت بإطلاقها تشمل موضع السجود ، إلّا أنّه لا بد من تقييدها بغيره لمّا ذكرناه في الأمر الأوّل ، فلا حاجة للإعادة .
وأمّا القول المحكي عن أبي الصّلاح فيمكن أن يُستدل له بالنبوي جنّبوا مساجدكم النجاسة[13] .
وفيه أوّلاً : أنّه ضعيف بالإرسال .
وثانياً : يحتمل جدّاً أن يكون المراد بالمساجد الأماكن المعدّة للصّلاة المسمّاة بالمسجد ، لا مواضع السّجود.[14]
ثمّ لو فرضنا إرادة هذا المعنى ، إلّا أنّ المتبادر منه مواضع الجِباه دون سائر المواضع .
وربما يستدلّ له أيضاً بصحيحة بن محبوب المتقدّمة عن الرضا × حيث إنّه كتب إليه يسأله عن الجصّ يُوقد عليه بالعذرة ، وعظام الموتى ، يجصص به المسجد ، أيسجد عليه ؟ فكتب إليه أنّ الماء والنّار قد طهّراه[15] .
وفيه : أنّه لا إطلاق فيه ، والقدر المتيقّن فيه خصوص موضع الجبهة .
وأما القول المحكي عن السّيد المرتضى & فقد استُدلّ له بالنهي عن الصّلاة في المجزرة ، وهي المواضع التي تُذبح فيها الأنعام والمزبلة والحمامات ، وهي مواطن النجاسة ، فتكون الطهارة معتبرة .
وأجيب عن ذلك : بأنّه يجوز أن يكون النهي عن هذه المواضع من جهة الاستقذرات والاستخباث الدّالة على مهانة نفس من يستقرّ بها ، فلا يلزم التعدية إلى غيرها.[16]
وبالجملة ، فالنهي عن ذلك نهي تنزيهي ، فلا يلزم التحريم .
ثمّ لو سلّم دلالتها على اعتبر الطهارة ، فتدلّ عليها بالجملة ، ولعلّه بلحاظ كونها شرطاً بالنسبة إلى موضع الجبهة ، لا مطلقاً .
نعم الأفضل الاستدلال له بروايتَيْن :
الأُولى : موثّقة ابن بكير قال : سألتُ أبا عبد الله × عن الشاذكونة يصبها الاحتلام ، أيصلّي عليها ؟ فقال : لا[17] .
الثانية : موثّقة عمار السّاباطي عن أبي عبد الله × - في حديث - قال : سُئِل عن الموضع القذر يكون في البيت ، أو غيره ، فلا تصيبه الشّمس ، ولكنّه قد يبس الموضع القذر ، قال : لا يصلّي عليه ، وأَعْلِم موضعه حتّى تغسله ...[18] .
هذا وقد حمل جماعة من الأعلام هاتين الموثّقتين على الكراهة .
ولكنّ الأقرب : حملها على إرادة المنع بالنظر إلى موضع الجبهة فقط ، وذلك جمعاً بينهما ، والأخبار الكثيرة المعتبرة الصريحة الدّلالة على الجواز .
بقي في المقام أمور :
الأوّل : قد عرفت أنّ الصحيح ما هو المشهور من عدمِ اشتراط طهارة ما عدى موضع الجبهة ، إلّا أنّ هذا فيما إذا لم تكن النجاسة متعدّية إلى ثوبه وبدنه ، وإلّا فهي مانعة من هذه الجهة ، إلّا إذا كانت النجاسة معفوّا عنها ، كالدم الأقل من الدرهم .[19]
ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا يوجد في الأدلّة ما يدلّ على أنّ شرط عدم السّراية هو في المكان من حيث هو ، لا من حيث سراية النجاسة إلى الثوب والبدن .
بل الإنصاف : أنّ المنساق من جميع الأدلّة أنّه مع السّراية يلزم تفويت شرط الثوب والبدن ، لا أنّ عدم السّراية من شرائط المكان حتّى يُقال : إنّه لا عفو هنا عمّا دون الدّرهم ، لاختصاص أدلّة العفو باللباس والبدن.
ومن هنا كان المتّجه فيما نقول باشتراط الطّهارة فيه من المكان لمحّل الجبهة عدم العفو فيه عمّا يعفى عنه في اللباس.
هذا ، وقد حُكي عن فخر المحقّقين & أنّه قال : الإجماع منّا واقع على اشتراط خلوّ المكان من نجاسة متعديّة ، وإن كانت معفوّاً عنها في الثوب ، والبدن ، وكلامه في أنّه شرط في المكان من حيث هو ، لا من حيث سراية النجاسة إلى الثوب والبدن ، ولكنّه ضعيف لما عرفت.[20]