الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
34/07/26
بسم الله الرحمن الرحیم
الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ حكم الصلاة مع النجاسة وأحكام الآنية
قال المصنف: ( والأقرب تحريم المُكْحُلة منهما ، وظرف الغالية ، أما المِيْل فلا )
قال صاحب الحدائق: ( الظاهر دخول مثل المُكْحُلَةِ ، وظرف الغالية في الإناء ...) ، وفي "المدارك" ( وفي جواز اتِّخاذ المُكْحُلَةِ ، وظرف الغالية ، من ذلك تردُّد ، منشؤه الشكّ في إطلاق اسم الإناء حقيقة عليه ... )
أقول:
أمَّا المِيْل: فلا إشكال أنَّه من قبيل الآلات ، فلا يتعلق به حكم الأواني .
وأمَّا المُكْحُلَة وظرف الغالية: فمع الشكِّ في صِدق الآنية عليهما يكون مقتضى الأصل هو البراءة ، لأنَّ الشبهة المفهوميَّة مرجعها إلى الشبهة الحكميَّة ، وفي موارد الشهبة الحكميَّة التحريميَّة يكون مقتضى الأصل هو البراءة .
ثمَّ إنَّه ينبغي الكلام في تحديد الإناء والآنية ، حتَّى نستطيع من خلاله تشخيص مصاديقها .
أقول: المرجع في تحديد المفهوم هنا هو العرف ، لأنَّ أكثر أهل اللغة لم يفسِّروا معنى الإناء والآنية ، بل قالوا في تفسيره : إنَّه معروف ، ولم يزيدوا على ذلك .
نعم ، عرَّفه الفيومي في "مصباحه": بالوعاء ، قال: ( الإناء والآنية كالوعاء ، والأوعية ، لفظاً ومعنًى ) .
ولا يخفى عليك أنَّه تعريف بالأعمِّ ، مثل السَّعدانة: نبت ، بدليل أنَّه يصدق على الخُرْج والصُّندوق : أنَّه وعاء ، ولا يصدق عليه: الآنية ، وقد ورد عن أمير المؤمنين ع في "نهج البلاغة" أنَّه قال لِكُميل بن زياد رضوان الله تعالى عليه: ( أنَّ هذه القلوب أوعية ، فَخَيْرها أَوْعَاها ) ، ولا يصح أن يقال : إنَّ هذه القلوب آواني .
وعرَّفه في "مرآة الأنوار" : بالظرف ، وأيضاً هو تفسير بالأعمِّ ، فإنَّ قِرابَ السيف : ظرف ، بلا إشكال ، مع عدم صحَّة إطلاق الآنية عليه .
وبالجملة : فإنَّ مراجعة أهل اللغة لا يفيدنا شيء لِأمرَيْن :
الأوَّل: أنَّ أكثرهم قال : إنَّه معروف ، وسكت .
الثاني: أنَّ أهل اللغة بشكل عامٍّ لا يذكرون المعاني الحقيقيَّة للألفاظ ، وإنَّما يقولون استُعمل هذا اللفظ في المعنى الكَذائي ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز .
نعم ، بعض أهل اللغة قد يتعرَّض للحقيقة والمجاز ، كالزمخشري في كتابه "أساس البلاغة" .
ثمَّ إنَّ القاعدة ، وإن كانت تقتضي الرجوع إلى العرف في تحديد المفهوم ، إلَّا أنَّ الإشكال هنا أنَّ العرف اليوم لا يستعمل لفظ الإناء ، بل هو مهجور عندهم ، فالرجوع إليه أيضاً لا يفيد ، كالرجوع إلى أهل اللغة .
وعليه ، فالقاعدة تقتضي حينئذٍ الاقتصار على القدر المتيقَّن في المفهوم المجمل ، والرجوع في الباقي إلى أصل البراءة ، لأنَّ الشبهة المفهوميَّة مرجعها إلى الشبهة الحكميَّة ، وبما أنَّ الشبهة هنا حكميَّة تحريميَّة فيُقتَصر في الحكم بالحرمة على المتيقَّن أنَّه إناء وآنية ، ونرجع في الباقي إلى البراءة فيها ، والقدر المتيقَّن - ممَّا يصدق عليه الإناء والآنية - هو الظروف المعدَّة للأكل والشرب لدى الحاجة إليها ، وإن لم تكن بالفعل معدَّة له ، بل مصنوعة لغرض آخر ، وما سوى ذلك إمَّا معلوم العدم ، أو مشتبه الحال ، وحكمهما واضح ، والله العالم .
قال المصنف: ( ولا يحرم المأكول والمشروب في الإناء المحرَّم )
قال المصنِّف في "الذكرى": ( لا يحرم المأكول والمشروب وإن حرم الاستعمال ، لعدم تناول النهي المستعمل ، ويخرج عن المعصية بوضعه في غير الإناء ، أو بتوبته ثمَّ أكله ، وعن المفيد تحريمه ، ويلوح من كلام أبي الصلاح ... ) .
يقصد المصنِّف: أنَّ المأكول والمشروب الموجود في آنية الذهب والفضَّة لا يصبح محرمَ الأكلِ بالذات مثل الميتة ، والدم ، والحم الخنزير .
ونسب إلى الشيخ المفيد أنَّه يصبح محرماً بالذات ، كما أنَّه يلوح ذلك من كلام أبي الصلاح ، ولكنَّ صاحب الحدائق قال: ( يمكن توجيه كلام المفيد بأن يُقال: إنَّ النهي أوَّلا وبالذات ، وإن كان عن تناول المأكول والمشروب ، لكن يرجع ثانياً وبالعرض إلى المأكول ، بأن يُقال : إنَّ هذا المأكول يكون حراماً حتَّى أكله على هذه الكيفية - إلى أن يقول : - فهذا الطعام أو الشراب الذي في الآنية , إن كان حلالًا في حدِّ ذاته يجوز أكله ، بأيِّ نحوٍ كان ، إلَّا أنَّه بوضعه في هذه الآنية ، وأكله فيها ، عرض له التحريم ، نظير تحريم أخذ الحقِّ الشرعي بحكم حاكم الجور ، وأنَّه سحت ...) .
أقول :
اِعلم أوَّلًا: أنَّ الحرمة إنَّما تتعلَّق بالفعل ، ولا معنى لتعلُّقها بالعين .
نعم ، قد يكون الشيء محرَّماً بالذات ، أي لعنوانه الأولي ، مثل الدم والخنزير والميتة ونحوها ، فإنَّ المحرَّم هو أكلها بعنوانها الأولي ، وقد يحرم الشيء بالعنوان الثانوي ، مثل الحيوان الجلال ، والموطوء بوطئ الإنسان ، فإنَّ الغَنَم محلَّل الأكل بالعنوان الأولي ، ولكن يُحرم أكله إذا صار موطوءاً بوطئ الإنسان ، وكذا إذا صار جلَّالًا .
والظاهر أنَّ مقصود الشيخ المفيد: أنَّ المأكول والمشروب الموجود في الآنية يحرم أكله وشربه بعروض عنوان ثانوي عليهما ، وهو كونهما في آنية الذهب والفضة ، وليس مقصوده أنَّهما يحرمان بالعنوان الأولى ، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير حتَّى نحتاج إلى توجيه كلامه ، بل هو أجلّ من أن يحمل كلامه على الحرمة الذاتيَّة .