الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
34/05/27
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ المعفو عنه
هذا ، وقدِ استدل القائل بوجوب الإزالة مطلقاً بدليلَيْن ومؤيِّد :
أمَّا الدليلان فهما :
أوَّلًا: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور المتقدِّمة ، لأنَّ الحكم فيها مفروض في نقط الدم الذي هو عبارة عن الدم المتفرِّق .
ولكنَّك عرفت الجواب سابقاً فلا حاجة للإعادة .
ثانيهما: حسنة ابن مسلم المتقدِّمة ، حيث إنَّ الحكم فيها معلَّق على مقدار الدرهم ، وهو أعمّ من المجتمع والمتفرِّق ، وقريب منها حسنة إسماعيل الجعفي المتقدِّمة أيضاً .
وفيه: أنَّ العام فيهما مخصَّص بصحيحة ابن أبي يعفور المتقدِّمة .
وأمَّا المؤيِّد: فهو ما عن صاحب الجواهر ، من استبعاد الفرق في القدر المخصوص بين الاجتماع وعدمه ، كاستبعاد القول بصحة الصلاة ، بناء على القول الأوَّل - أي عدم وجوب الإزالة - وإنِ استغرق الدم الثوب إذا فرض نقصان كلّ مجتمع عن الدرهم ، وفصله عن مثله بقدر جُزءٍ غير منقسم ، مع القول : ببطلانها من إصابة درهم واحد مجتمع .
وفيه: أنَّه لا قيمة لهذا الاستبعاد ، مع وجود الدليل على ما ذكرناه .
والخلاصة إلى هنا: أنَّ القول الأوَّل - أي عدم وجوب الإزالة - هو الأقوى .
وأمَّا مَن ذهب إلى عدم وجوب الإزالة إلَّا مع التفاحش فقد يُستدلّ له: بالاستبعاد المذكور قبل قليل ، وبأنَّه لا يبعد دعوى انصراف الإطلاق عمَّا لو تفاحش الدم نظراً إلى ندرة فرض بلوغ ما يصيب الثوب من دم الرعاف شبه النضح .
وفيه:
أمَّا الاستبعاد: فقد عرفت ما فيه .
وأما دعوى الإنصراف فعلى مدَّعيها .
وهل ندرة الوجود توجب الانصراف ؟ : كلّا ، وألف كلّا .
وقد يستدلُّ أيضاً بما في "دعائم الإسلام" عن الباقر والصادق ع ( أنهما ما لاقى الدم يصيب الثوب يغسل كما تغسل النجاسات ، ورخَّصا (عليهما السلام) في النضح اليسير منه ، ومن سائر النجاسات ، مثل دم البراغيث ، وأشباهه ، قال : فإذا تفاحش غُسِل )
[1]
وفيه
أوَّلًا: أنَّه ضعيف بالإرسال .
وثانياً: أنَّ التفاحش مجمل .
قال المحقِّق في "المعتبر": ( ليس للتفاحش تقدير شرعي ، وقدِ اختلف قول الفقهاء فيه ، فبعض قدَّره بالشبر ، وبعض بما يفحش في القلب ، وقدَّره أبو حنيفة بربع الثوب ، والوجه أنَّ المرجع فيه إلى العادة ، لأنَّها كالأمارة الدَّالة على المراد باللفظ ، إذا لم يكن له تقدير ..)
قال صاحب المدارك: ( وهو جيِّد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص ) .
ذكرنا في أكثر من مناسبة: أنَّ المرجع في تحديد المفهوم هو العرف إذا لم يكن له تحديد من الشارع ، وفي الفرض - مع عدم الوضوح عند العرف - يتعيَّن الرجوع فيه إلى ما يقتضيه الأصل العملي ، والله العالم .
قال المصنف: ( وقدَّره الحسَن بسعة الدينار ، وابن الجنيد بعقد الإبهام الأعلى )
اِعلم أنَّ المناط هو سعة الدرهم ، لا وزنه ، وهذا متَّفق عليه بين جميع الأعلام ، مضافاً إلى أنَّ وزن الدم في البدن ، أو الثوب ، متعسِّر جدّاً ، فكيف يُعتبر أن يكون وزنه أقلّ من وزن الدرهم ؟! .
وعليه ، فإذا كان المراد سعة الدرهم ، لا وزنه يقع الكلام حينئذٍ في أمرين :
الأوَّل: من الدرهم .
الثاني: في تحديد سعته .
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمشهور بين الأعلام أنَّه الدرهم الوافي الذي هو درهم وثُلُث ، يعني ثمانية دوانيق ، والدانق ثماني حبَّات من الشعير الوسط ، باعتبار أنَّ الدرهم الذي استقرَّ عليه أمر الإسلام ستة دوانيق ، وهو ثلثه ، يصبح ثمانية .
قال المصنِّف في "الذكرى": ( عفي عن الدم في الثوب ، والبدن ، عمَّا نقص عن سعة الدرهم الوافي ، وهو البغْلي - بإسكان العين - وهو منسوب إلى رأس البغل ، ضرَبه للثاني في ولايته بسِكَّةٍ كسرويَّة ، ووزنه ثمانية دوانيق ، والبغليَّة كانت تسمَّى قبل الإسلام : الكسرويّة ، فحدَث لها هذا الاسم في الإسلام ، والوزن بحاله ، وجرت المعاملة مع الطبريَّة ، وهي أربعة دوانيق ، فلمَّا كان زمن عبد الملك جمع بينهما ، وأخذ الدرهم منهما ، واستقرَّ أمر الإسلام على ستة دوانيق ، وهذه التسمية ذكرها ابن دُرَيد ، وقيل : منسوب إلى بغل - قرية بالجامعين - كان يوجد بها دراهم يقرب سعتها من أخمص الراحة ، لتقدم الدراهم على الإسلام ، قلنا : لا ريب في تقدُّمها ، وإنَّما التسمية حادثة ، فالرجوع إلى المنقول أولى ) ، أي المنقول عن ابن دريد .
وبالجملة: فالمراد بالدراهم هو الوافي ، وهو البغلي أيضاً ، وهما شيء واحد ، وقد ضبطه المصنِّف ، وبعض الأعلام : بإسكان العين وتخفيف اللام ، وضبطه جماعة من الأعلام : بفتح الباء والعين المعجمة ، وتشديد اللام .
وممَّا يؤيَّد كون الوافي والبغلي شيئاً واحداً ما ذكره المحقِّق في "المعتبر" حيث قال: ( والدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث وسمِّي البغلي نسبة إلى قرية بالجامعين ... ) .
وقد عرفت أيضاً عبارة "الذكرى" التي جعلت الدرهم الوافي والبغلي شيئاً واحداً .
ثمَّ إنَّه ما الدليل على حمل الدرهم المذكور في النصوص على الوافي والبغلي مع اختلاف والدراهم ؟ .
ومن هنا قيل: يحمل على الشائع في زمنهما ، وهو ما استقرَّ عليه أمر الإسلام ، باعتبار أنَّ الشياع قرينة .
اللهم إلَّا أن يقال: إنَّ الدليل على كون المراد منه هو الوافي والبَغْلي هو الإجماع ، إلَّا أنَّه لا يخفى عليك أنَّ هذا الإجماع يصلح للتأييد ، لا للدليل .
مهما يكن ، فإنَّ الدراهم المتعارفة في زمان الصادقَيْن ع - سواء كانت وافية بغليَّة ، أم غيرها - كانت مختلفة من حيث السعة والضيق .
والسرُّ فيه: أنَّ الدراهم في ذاك الوقت كانت تضرب بالآلات اليدويَّة ، ومن المعلوم أنَّ الآلات اليدويَّة لا انضباط لها ، لتكون الدراهم على ميزان واحد .
وعليه ، حتى لو قلنا : بأنَّ الدراهم المتعارفة في ذاك الوقت هي الوافية البغليَّة ، إلَّا أنَّها مختلفة من حيث السعة والضيق .
الأمر الثاني: في بيان سعته .
اِختلف الأعلام في ذلك ، ففي كلام ابن إدريس ما يقرب سعته من أخمص الراحة ، وعن ابن الجنيد: ( أنَّ سعته كعقد الإبهام الأعلى ) ، ونقل المحقِّق في "المعتبر" عن ابن أبي عقيل أنَّه ( ما كان بسعة الدينار ) ثم قال: ( والكلّ متقارب ) .
ولا يخفى: أنَّ التحديد المنقول عن ابن إدريس هو الأشهر ، وحدَّده بعضهم بعقد الوسطى ، وحدده آخر بعقد السبابة ، ولم يعرف قائلهما .
والمعروف: أنَّ التحديد في كلام ابن إدريس إنما هو للدرهم الوافي البغلي ، وأمَّا التحديدات الباقية فليست تحديداً للدرهم الوافي البغلي ، وإنَّما هي تحديد للدرهم المعفوّ عن مقداره .
ومهما يكن ، فإنَّ كلّ هذه التحديدات لا مستند لها إلَّا تحديد ابن إدريس للدرهم الوافي ، حيث شاهد الدرهم البغلي تقرب سعته من سعة أخمص الراحة .
[1] - المستدرك باب15 من أبواب النجاسات ح2