الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
34/04/23
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ انقلاب العصير خلا
لا زال الكلام في الاستدلال على نجاسة العصير اذا غلى ومن جملة الأدلة الأخبار المتضمنة لنزاع آدم ونوح ع مع إبليس عليه اللعنة والعذاب ، كما عن "التنقيح" : الاستدلال بها على النجاسة .
وهذه الأخبار كثيرة ، أذكر منها خبراً واحداً - ومن أراد المزيد فَلْيُراجِع الوسائل -:
روى سعيد بن يسار عن أبي عبد الله ع قال: ( إنَّ إبليس نازع نوحاً في الكرم ، فأتاه جبرئيل ، فقال له : إنَّ له حقّاً ، فأعطاه الثُلُث ، فلم يرضَ إبليس ، ثمَّ أعطاه النصف ، فلم يرضَ ، فطرح عليه جبرئيل ناراً ، فأحرقت الثُلُثين ، وبقي الثُلُث ، فقال : ما أحرقتِ النَّار فهو نصيبه ، وما بقي فهو لك - يا نوح حلال )
[1]
وهي موثَّقة ، ولكن هذه الموثَّقة ، وغيرها ، من الروايات الواردة في هذا المضمون ، لا تدلّ على النجاسة أصلًا ، وإنَّما مفادها الحرمة التكليفيَّة فقط .
ومنها: وهو العمدة صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: ( سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه ع عَنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ ، يَأْتِينِي بِالْبُخْتُجِ ، ويَقُولُ: قَدْ طُبِخَ عَلَى الثُّلُثِ ، وأَنَا أَعْرف أَنَّه يَشْرَبُه عَلَى النِّصْفِ ، أفَأَشْرَبُه بِقَوْلِه ، وهُوَ يَشْرَبُه عَلَى النِّصْفِ ، فَقَالَ : لَا تَشْرَبْه ، قُلْتُ : فَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، مِمَّنْ لَا نَعْرِفُه يَشْرَبُه عَلَى الثُّلُثِ ، ولَا يَسْتَحِلُّه عَلَى النِّصْفِ ، يُخْبِرُنَا أَنَّ عِنْدَه بُخْتُجاً عَلَى الثُّلُثِ ، قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاه ، وبَقِيَ ثُلُثُه ، يُشْرَبُ مِنْه ؟ قَالَ : نَعَمْ )
[2]
.
هذا على نسخة "الكافي" ، وبعض نسخ "التهذيب" ، وفي بعض النسخ للتهذيب - بعد قوله: "وهو يشربه على النصف" -: "قال : خمر ، لا تشربه" ، بزيادة لفظة خمر ، وفيه محلّ الشاهد ، حيث جعل الْبُخْتُج الذي هو العصير المطبوخ خمراً .
وفيه
أوَّلًا: أنَّ نسخة "الكافي" ، وبعض النسخ "التهذيب" الخالية عن ذكر الخمر ، معارِضة لبعض النُسَخ في "التهذيب" ، ومقتضى القاعدة :" أصالة عدم الغفلة في الزيادة " مقدمة عند العقلاء على "أصالة عدم الغفلة في النقيصة" .
ونتيجتها : تقديم نسخة "التهذيب" المشتملة على كلمة الخمر ، إلَّا أنَّ المعلوم أنَّ "الكافي" أضبط بكثير من "التهذيب" ، لما ذكرناه في أكثر من مناسبة ، من أنَّ كثيراً من أخباره : لا تخلو من زيادة ، أو نقصان ، أو تحريف ، أو علَّة في المتن ، أو السند ، أو فيهما معاً .
ومن هنا ، تطمئنُّ النفس بعدم وجود لفظة الخمر في الحديث .
أضف إلى ذلك: أنَّ اختلاف رواية الشيخ في "التهذيب" تدخل في مسألة اشتباه الحجَّة باللاحجَّة ، لأنَّه لا ندري أنَّ الراوي الثقة نقل هذه النسخة ، أو تلك ، وهو موجب لسقوط الرواية عن الاعتبار فيتعيَّن الأخذ حينئذٍ بنسخة "الكافي" .، هذا أوَّلًا.
وثانياً: قيل: إنَّه لم يثبت أنَّ الْبُخْتُج هو العصير العنبي المطبوخ ، بل يحتمل احتمالًا قويّاً أن يكون المراد منه عصير مطبوخ على كيفيَّة خاصَّة ، وهي التي تسمَّى بالرب ، كما عن الهمداني.
وعليه ، فيمكن أن يكون هذا القسم منه مسكراً ، فغاية ما تقتضيه هذه الموثَّقة تنزيل خصوص هذا القسم من العصير منزلة الخمر بجامع إسكارهما .
وفيه: أنَّه لا يصحّ تفسير الْبُخْتُج بالقسم المسكر من العصير المطبوخ ، لأنَّ الإمام في ذيل الموثَّقة حكم بجواز شربه .
ولو كان مسكراً لَمَا حكم الإمام ع بجواز شربه عند إخبار من يعتبر قوله : بذهاب الثُلُثين ، لأنَّ ذهابهما ، وإن كان مطهِّراً للعصير - لو قلنا: بنجاسته ، أو محلِّلًا له - إلَّا أنَّه لا يكون مطهِّراً للمسكر أبداً ، لأنَّه محكوم بنجاسته - بناء على القول بالنجاسة - وحرمة شربه ، ذهب ثلثاه ، أم لم يذهبا .
ومنه تعلم أنَّ الْبُخْتُج ليس بمعنى القسم المسكر من العصير العنبي .
وثالثاً: لو سلَّمنا اشتمال الرواية على كلمة الخمر ، وسلَّمنا أنَّ المسكر ترتفع حرمته ، ونجاسته ، لو قلنا بها بذهاب الثُلُثين ، إلَّا أنَّ التنزيل هنا إنَّما هو بالجملة ، وليس المراد أنَّه بمنزلة الخمر في جميع الآثار حتَّى بالنسبة للنجاسة ، بل القدر المتيقن من التنزيل إنَّما هو في الحرمة .
وإن شئت فقل: إنَّه ليس في مقام البيان حتَّى يُؤخذ بإطلاقه .
والخلاصة: أنَّ الأقوى في المقام هو القول بالطهارة ، والله العالم ، فلسنا بحاجة بعد ذلك إلى إتعاب النفس عن تحقيق معنى الاشتداد المتوقِّف عليه النجاسة ، على رأي بعض .
نعم ، بعض من ذهب إلى النجاسة اكتفى بمجرد الغليان ، كما أنَّك عرفت أنَّ بعضهم فسَّر الاشتداد بمجرد الغليان .
وأمَّا الكلام عن طهارته بذهاب الثُلُثين ، وبانقلابه خلًّا ، فلا إشكال في ذلك ، بناء على نجاسته بالغليان .
ولكنَّك عرفت : أنَّ الغليان موجب لحرمته فقط ، ولا يوجب تنجّسه وعليه ، فيكون ذهاب الثُلُثين ، أو انقلابه خلًّا موجباً لحليته .
[1] - الوسائل باب2 من أبواب الأشربة المحرمة 5
[2] - الوسائل باب7 من أبواب الأشربة المحرمة 4