الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
34/02/25
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ النجاسات العشرة\ عدد الغسلات بعد زوال العين
كان الكلام في دليل من قال باعتبار المرتَيْن وقلنا بوجود دليلين الأول الأخبار وذكرنا الرواية الأولى
الثانية: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال: ( ذَكَر المنيّ ، وشدَّده ، وجعله أشدّ من البول ، ثمَّ قال : إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ، ثمَّ صليت فيه ، ثمَّ رأيته بعد فلا إعادة عليك ، وكذلك البول )
[1]
.
وجه الاستدلال: هو أنَّ المنيّ إذا كان أشدّ من البول فمعنى ذلك أنَّه أَولى بالتعدُّد من البول ، وبه يثبت المطلوب .
وفيه: أنَّ من المحتمل قريباً أن يكون المراد من الأشدّيَّة : هو من حيث احتياجه إلى الفرك والحتّ ، بخلاف البول فإنَّه يزول بسهولة .
ويحتمل أيضاً أن يكون ردّاً لِمَا عن بعض العامّة ، حيث ذهب هذا البعض إلى القول بطهارة المنيّ ، فيكون المراد من الأشدّيَّة أنَّه آكد في التطهير من البول ، وليس ناظراً إلى كيفيَّة التطهير .
الثالثة: حسنة الحسين بن أبي العلاء المتقدِّمة ، حيث علّلت الغسلتَيْن من البول بأنَّ الأوَّل للإزالة ، والثاني للإنقاء ، فإنَّ كان الأمر كذلك في البول فغيره أيضاً يجري فيه ذلك .
وفيه: ما تقدَّم : أنّ هذه الزيادة لم تثبت ، بل كلّ النسخ خالية عن هذا التعليل .
الدليل الثاني: الاستصحاب ، أي بعد الغسلة الأُولى نشكّ في بقاء النجاسة ، فنستصحب بقاءها .
وفيه
أوَّلًا: أنَّه لا مسرح للأصول العملية مع وجود الإطلاق المتقدِّم ، فإنَّ الأمارة حاكمة على الأصل العملي .
وثانياً: أنَّه منِ استصحاب الحكم الكلي ، وقد عرفت ما فيه ، لأنَّ استصحاب النجاسة بعد الغسلة الأُولى معارَض باستصحاب عدم جعل النجاسة زائداً على المقدار المتيقن ، وهو نجاسته قبل غسله .
والخلاصة إلى هنا: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من كفاية المرَّة هو الصحيح ، ويكفي في المرَّة الغسلة المزيلة للعين ، لإطلاق الأمر بالغسل الصادق على الغسلة المزيلة .
فما ذهب إليه المحقِّق في "المعتبر" : من أنَّه يكفي المرَّة بعد إزالة العين في غير محلِّه ، بل تكفي المرَّة المزيلة للعين والله العالم .
وممَّا ذكرنا يتضح حكم المتنجِّس بالمتنجِّس ، فإنَّه أَولى بكفاية المرَّة .
نعم ، يبقى الكلام في حكم المتنجِّس بالمتنجِّس بالبول ، لأنَّ المتنجِّس بالبول قلنا : لا بدَّ من الغسل المرتَيْن ، فهل المتنجِّس بالمتنجِّس به حكمه كذلك ، أم لا ؟ .
قد يُقال: بكفاية المرَّة استناداً إلى ما رواه المصنِّف في "الذكرى" ، وغيره ، عن العَيص بن القاسم قال: ( سألته عن رجل أصابته قطرة من طَشْتٍ فيه وضوء ، فقال : إن كان من بول ، أو قذر ، فيَغسِل ما أصابه )
[2]
ورواه المحقِّق في "المعتبر" عن العيص بن القاسم مثله .
ومقتضى إطلاقها كفاية الغسلة الواحدة في المتنجِّس بالماء المتنجِّس بالبول ، أو بغيره من النجاسات ،
ولكنَّ الإشكال في هذه الرواية من جهتَيْن :
الأُولى: من جهة الإضمار ، قال السيد أبو القاسم الخوئي: ( أنَّ جلالة شأن العيص مانعة عن احتمال رجوعه في الأحكام الشرعية إلى غير الإمام ، فالإضمار في حقِّه غير مضرّ ) .
أقول: هذه الدعوى غير بعيدة ، فإنَّه لم يروِ عن غير المعصوم ، إلَّا رواية واحدة عن يوسف بن إبراهيم أبي داود
الثانية: أنَّها مرسلة ، وأجاب السيد الخوئي عن هذا الإشكال: ( بأنَّ ظاهر قول الشهيد ، أو المحقِّق: قال : العيص ، أو روى ، أو ما هو بمضمونها ، أنَّه إخبار حسيّ لأنَّه ينقلها عن نفس الرجل ، وكلما دار أمر الخبر بين أن يكون إخباراً حسيّاً ، أو إخباراً حدسيّاً ، حُمِل على الحسِّ ، على ما بيناه في محلِّه ، وبما أنَّ الشهيد لم يكن معاصراً للرجل فلا مناص من حمل قوله : هذا على أنَّه وجدها في كتاب قطعيّ الانتساب إلى العيص ، وحيث إنَّه ثقة عَدْل فيُعتَمد على نقله وروايته ...) .
أقول: يرد عليه أنَّه لو كان الأمر كذلك فلِمَ لا تأخذ برواية الشيخ الصدوق ، حينما يقول : روى الصادق ، أو الباقر ، أو أحد المعصومين ع ، وتعتبرها مرسلة ، مع أنَّه يُحتمل الحسيَّة أيضاً ، وكلما دار الأمر بين الحسيّ والحدسيّ حُمِل على الحسيّ ، وبما أنَّ الصدوق لم يكن معاصراً للإمام ع فلا مناص من حمل قوله : هذا على أنَّه له طريق صحيح ، أو مقطوع الاعتبار ، إلى الإمام ع .
فالإنصاف: أنَّ الرواية مرسلة .
وأمَّا احتمال الحسّ في الخبر وإن كان وارداً ، بل مظنوناً قويّاً ، إلَّا أنَّه لم يذكر لنا الطريق إلى الراوي ، ولعل الشهيد أو المحقِّق لهما رأي خاص في التوثيق والتعديل ، ونحوهما ، ولعلهما اعتمدا على بعض القرائن لو وصلت إلينا لم نعتمد عليها .
والخلاصة إلى هنا أنَّ الإنصاف: هو كفاية الغسلة الواحدة ، لا لأجل رواية العيص ، بل لأنَّ صحيحة ابن مسلم السابقة الدّالة على اعتبار المرتَيْن موردها ملاقاة نفس البول ، ولا تشمل ملاقي المتنجِّس بالبول ، ولا يبقى عندنا إلَّا استصحاب النجاسة بعد الغسلة الأُولى ، وقد عرفت أنَّه من استصحاب الحكم الكلي غير الجاري ، والله العالم بحقائق أحكامه .
[1] - الوسائل باب16 من أبواب النجاسات ح2
[2] - الوسائل باب9 من أبواب الماء المضاف ح14