< قائمة الدروس

درس فلسفة الأصول - الأستاذ رشاد

34/12/29

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: نظريّة الخطابات القانونية ـ مقترحاتنا في تحسين تقرير النّظريّة وتنسيقها في قوالبها القشيبة/20.
نُبذة: تنصّ نظريّة الإبتناء على أنّ: المعرفة الدينيّة هي نتاج عملية تأثير ـ تعاطي متناوب ـ متواصل بين الأطراف الخمسة للقضايا الدّينيّة، کرسالات إلهية؛ و ترتكز هذه النظرية على الأسُس الأربعة التالية:
الأساس الأوّل: عملانيّة تكوّن المعرفة الدينيّة، ومرحليَّتها، وكون المعرفة الدينيّة حصيلة لتلک.
الأساس الثّاني: ثنائيّة (صواب أو عدم صواب) الآليّات الدّخيلة في عمليّة تكوّن المعرفة الدينيّة؛ و بالنّتيجة، خلوص المعرفة الدينيّة أو شوبها.
الأساس الثّالث: رساليّة الدّين، و إشتماله على الأطراف الخمسة الدّخيلة في فهم تلک الرّسالة.
الأساس الرابع: إبتناء الکشف و التطبيق الصائب و الجامع للدّين على الکشف و التطبيق الصائب و الجامع للأصول و الأطراف الخمسة و الحؤول دون نفوذ العوامل السّقيمة و المُحَرِّفة.
ويُعتبر الأساس الثالث للنظريّة ـ و الذي يشمل شرح تطبيقات الأصول الخمسة الداخلة في فهم الرسالة السماوية ـ أهمّ ركن في نظرية الابتناء. يحاول صاحب النظرية في هذه المقالة شرح الأصول الخمسة للرسالة الدينية و أشكال التأثير و مدياته بين هذه الأصول، و كذلك إيضاح ـ في الحدّ الميسور ـ دور هذه الأصول و العناصر في تكوّن وتطوّر المعرفة الدينية، و ازدهارها و انحطاطها، واتّساعها و تضييقها، و تصحيحها و ترصينها.
بما أنّ التّقرير الرّابع هو من فروع نظريتنا المسمّاة بـ«نظريّة الإبتناء»(وهي عبارة عن إبتناء تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها على التأثير ـ التعاطي المتناوب - المستمر للأصول الخمسة لعمليّة الرّسالة الدّينيّة) فيتبع عن أسلوبها ومباديها طرّاً، فقبل الخوض في هذا التقرير، ينبغي أن نبيّن تلک النّظريّة علی الإجمال تمهيداً لبيان هذا التّقرير، فنقول:
المعرفة الدينية هي «حصيلة المحاولات المستدلة للکشف عن مقولات الدّين وتعاليمه». أو، بعبارة أوضح «إنّها المنظومة المعرفية المتولّدة عن تطبيق منهجية معتبرة أو مستدلّة للکشف عن القضايا الدينية».
وفلسفة المعرفة الدينية (کعلم حديث) هي «العلم الفلسفي الذي يتيح الدراسة المبتنية علی النظرة من منظار «الفو ـ العقلاني» بشأن المعرفة الدينية وقضاياها الموضوعيّة ». ومن جملة المسؤوليات المهمّة لهذا العلم شرح عملية تكوّن المعرفة الدينية وضبط آلياتها، وتکاملها وتطوّرها.
شهدت نظريّة «عملية تكوّن المعرفة»ـ بما فيها الصحيحة والسقيمة- وطريقة حصولها وتبلورها، تاريخاً طويلاً حافلاً بالنظريات التي طرحها فلاسفة ينتمون إلى مذاهب شتى، بيد أنّنا لم نشهد ظهور نظريات علمية محدّدة ومنسجمة على صعيد عملية المعرفة الدينية خاصّة وصيرورتها والآليات التي تضبطها، وإن کان باستطاعتنا الوقوف على عدد من الآراء بين ثنايا نظريات بعض أصحاب الرأي والمعرفة بشأن موضوع المعرفة الدينية.
إلاّ أنّ هؤلاء، مع ذلک، لم يتناولوا مطلقاً عملية المعرفة الدينية وآليات ظهورها بشکل واضح ومقصود. وفي هذا المجال، ومن بين الغربيين ظهر الهرمنوطيقيون، الذين راحوا يطرقون أبواب تبلور المعرفة وتأثير طائفة من العوامل المعرفية وغير المعرفية على مسار تفسير النص، (انظر: پالمر، 1998)، ولکن من دون أن يخوضوا في تفسير عملية تكوّن المعرفة الدينية. وبدورها اعتنت نظرية القبض والبسط، وهي نظرية هرمنوطيقية، بمسألة «تطوّر المعرفة الدينية» لا تفسير تكوّن المعرفة. (انظر: سروش، 1998).
صحيح أنّ الرسالة الأصلية والذاتية لنظرية الإبتناء تتلخّص في «تفسير عملية تكوّن المعرفة الدينية والآليات الخاصّة بها، ولکن من خلال التقرير الکامل لهذه العملية وآلية تحوّلها سوف تظهر لدينا لمحات من تعدّد المعرفة الدينية وتکاملها أو تنزّلها، مضافاً إلى ترشّح الکثير من أجوبة الأسئلة المطروحة أعلاه.
وفيما يلي عرض موجز للنظرية:
«المعرفة الدينية بالمعني الأعمّْ، عندنا عبارة عن نتاج عملية التأثير ـ التعاطي المتناوب- المستمر للأصول الخمسة، في إطار رسالة إلهية».
في حال إحراز رؤية صائبة وجامعة عن هذه الأصول، والتطبيق السليم والدقيق لها، والحؤول دون تدخّل المتغيّرات السقيمة والعوامل المُحَرِّفة يمکن، بشکل عام، الکشف الصائب والجامع للدين والتطبيق العصري والمنتج له في عقول البشر وحياتهم. وتأسيساً على نظرية الابتناء ـ والتي بالإضافة إلى دورها في شرح تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها- يمکن أن تشکّل إطاراً نظرياً مناسباً لوضع أو تأسيس منظومة منهجية تکون «واقعية» و«جامعة» و«تامّة» و«أصيلة» و«معتبرة» و«معاصرة» و«منتجة» و«مستحدثة» و«متکاملة».
الأسس الأربعة للنظرية
تتألّف نظرية الإبتناء من أربعة أسس نشرحها کما يلي:
الأساس الأول: إنّ تكوّن المعرفة الدينية عبارة عن عملية متمرحلة، والمعرفة الدينية هي حصيلة تلک العملية.
الأساس الثاني: تنطوي الآليات التي تتألف منها عملية تكوّن المعرفة الدينية على طبيعة ثنائية (لجهة الصحّة والسقم)، وبالنتيجة، إمکان صواب المعرفة الدينية أو عدمها.
الأساس الثالث: رساليّة الدين، واشتماله على الأصول الخمسة المؤثّرة في فهم تلک الرسالة.
الأساس الرابع: ابتناء الکشف والتطبيق الصائب والجامع للدين على الکشف والتطبيق الصائب والجامع للأصول الخمسة.
إنّ نظرية العقول هي نظرية تتناول شرح مسار نشأة المعرفة ومنظومتها والآليات الخاصّة بها.
(ابن سينا، بدون تاريخ: 2، الفصول 10، 11، 12، 13 و14؛ صدر الدين الشيرازي، بدون تاريخ: 475 ـ 452). ونظرية المُثُل أيضاً تسعى إلى شرح عملية تكوّن المعرفة (صدر الدين الشيرازي، بدون تاريخ: 1، 344 ـ 340 و356). وکذلک الحال مع نظرية المعرفة لـ«کانط» فهي شرح آخر لعملية نشوء معرفة الإنسان (انظر: هارتناک، 1997). فعندما تؤمن جميع هذه النظريات بأنّ المعرفة عبارة عن عملية متمرحلة، فهي، لا شکّ، تنظر إليها على أنّها نتاج لتلک العملية. يؤکّد الأساس الأول في نظرية الابتناء أيضاً على هذه الحقيقة، وطبقاً له، فإنّ المعرفة الدينية کذلک، على غرار المعرفة المطلقة، غير مستثناة من هذه القاعدة. وفيما يلي نشرح بإيجاز الأسس الأربعة للنظرية:
الأساس الأوّل
يقول هذا الأساس:«إنّ معرفة الإنسان عبارة عن حصيلة تفرزها عملية التأثير ـ التعاطي ـ بين عوامل عديدة «معرفية» و«لامعرفية»، و«مناسبة» و«غير مناسبة» و«إرادية» و«لاإرادية»، وإنّ الفهم والمعرفة هما غير الترجمة والتلقّي. وبدورها تتبع المعرفة الدينية، والتي هي شعبة من المعرفة، هذه القاعدة.
ينبني هذا الأساس، لا بل نظرية الابتناء برمّتها، بلحاظ ابستمولوجي على نظرية المعرفة، نعبّر عنه بـ«وحدة مثلثة الأضلاع في بناء المعرفة». من هذا المنطلق، نبيّن هنا سريعاً النظرية المذکورة:
1. إنّ المعرفة التامّة واللامتناهية هي من اختصاص الذات التامّة اللامتناهية، وبمقتضى کون سائر الموجودات محدودة ومشروطة، - بما فيها الإنسان- فإنّ جميع محتويات هذه الموجودات، ومن جملتها المعارف، محدودة ومشروطة.
(من المعلوم أنّ المحدودية والمشروطية لا تقترنان، بالضرورة، بالخطأ).
2. علاوة على الخصال النوعية الذاتية المؤثّرة على مستوى المعرفة البشرية وسعتها، فإنّ أفراد النوع البشري يمتلکون خصائص شخصية سلبية وإيجابية متنوعة، وهي بنحو أو بآخر تؤثّر في عملية تكوّن معرفته.
3. إنّ القضايا التي تشکّل موضوع المعرفة لا تنطوي جميعها على نفس الجوهر والمواصفات، ومن هنا، فإنّ عناصر موضوع الذات/العارفة تتباين فيما بينها في نمط تعلّق المعرفة وکيفيتها وحدودها وحيثيّتها، وفي قابلية التعرّف أو عدمه، وسرعة الفهم أوبطئه.
4. بالإضافة إلى رکني العارف والمعارف أو المعلومة، وهما من العوامل الرئيسية والأساسية في عملية تكوّن المعرفة (وإن کان الأول فعالاً والثاني منفعلاً)، هناک رکن ثالث يسمّى «المعارف التکميلية» والتي تنقسم بدورها إلى قسمين هما: «الآليات للمعرفة»والمعدّات لها و«الموانع» حيث يلعبان دوراً إيجابياً أو سلبياً في عملية تکوين المعرفة. لذا، فإنّ تكوّن المعرفة تحصل في خضم عملية التأثير ـ التعاطي بين الأضلاع الثلاثة ـ بوصفها عوامل وعناصر مؤثّرة في هذه التكوّن .
5. في ضوء الافتراضات المتعدّدة التي تظهر کنتيجة للترکيبات المحتملة والقابلة للتحقيق بين مقومات وعناصر کل من الأضلاع الثلاثة للوحدة فيما بينها، فإنّ حصيلة عملية تكوّن المعرفة يمکن أن تنتهي إلى واحدة من الأوضاع الأربعة التالية:
أ. الابتعاد عن الواقع: ويتمثّل ذلک في الوقوع في ورطة الانحراف، والابتعاد عن الوضع الابتدائي الأول (الجهل البسيط) الذي کان يعيشه العارف. ذلک أنّه عندما تتحقّق حالة اللاواقع (أي الواقع الکاذب) بدلاً من الواقع، فإنّ الإنسان ينأى عن الجهل البسيط ويصبح أکثر ابتعاداً عن الواقع ليسقط في الجهل المرکّب.
ب. الاحتجاب عن الواقع: البقاء في حالة الجهل البسيط الأوّل.
ج. الاقتراب من الواقع: ونعني به الحصول على المعلومات المشوّهة والناقصة عن الواقع (حصول العلم المجمل)، وإن کان الواقع، کما هو على حقيقته، بعيد المنال.
د. التعرّف على الواقع: حصول المعرفة بالواقع کما هو (حصول العلم المفصّل المصيب).
بالإمکان رسم الأضلاع والعناصر المؤثّرة والمطروحة في نظرية «الترکيبة الثلاثية في بناء المعرفة» کما في المخطّط البياني أدناه:
والآن، نعود ثانية إلى شرح الأساس الأول لنظرية الإبتناء.
کانت المعرفة الدينية متاحة لمسلمي صدر الإسلام عبر عملية بسيطة وعلى النحو التالي:
أ. إحراز فهم عام بشأن الأساس والمعاد وبصورة فطرية ـ عقلية (أو بتأثير تراکمات تعاليم الأنبياء السابقين)؛
ب. فهم ضرورة الدعوة (بمقتضى وجود تلقٍّ واضح عن خصائص الأساس الواجب) والشعور بالحاجة إلى الطريق والمرشد (بمقتضى معرفة الذات/العارفة ومعرفة الإنسان على نحو إجمالي)؛
ج. معايشة دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعلم بحصول الإعجاز والتقييم العقلي ـ الفطري للمدّعى ودعوة النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛
د. تلقّي التعاليم والمفاهيم الإسلامية في إطار الآيات النازلة والسنّة الصادرة؛
ه‌. تبلور المعرفة الدينية عند المسلمين (المنظومة المعرفية الدينية الإسلامية الأولى).
وکما نلاحظ فإنّ تبلور المعرفة الدينية الإجمالية والبسيطة عند المسلمين في عصر صدر الإسلام (وبشهادة النقاط آنفة الذکر)، کان في إطار تأثير ـ تعاطي مبادئ «معرفة المصدر» (النقطة أ) و«معرفة الدين» (النقطة أ) و«علم المعرفة» (البنود أ، ج، د) و«معرفة المخاطَب» (النقطة ب). ولا شکّ أنّ أساس «معرفة البيئة» أيضاً له تأثير في بلورة المعرفة الدينية بما يتناسب مع ميزان وطبيعة الحالات المتلقاة من الحقول المعرفية في الخريطة الهندسية للإسلام.
بعد تبلور المعرفة الدينية البسيطة والمجملة المشار إليها، وتأسيساً عليها وکذلک في إطار التأثير ـ التعاطي المتناوب- المستمر للعوامل الدخيلة، والإحالة إلى عملية متواصلة نابضة ومنتجة، ظلّت المعرفة الدينية الإسلامية عرضة للتكوّن والتکامل والنمو وأحياناً للتصحيح والترصين، وکذلک، بفعل الدور المفرط للمتغيّرات غير الصائبة الدخيلة أو عدم القدرة على الإدارة الصحيحة لأدوار العوامل الصائبة الدخيلة (واختلال توازنها وتناسب تدخّلها وتأثيراتها)، شهدت المعرفة الدينية أحياناً (وفي بعض الأمم) انحداراً وتحريفاً وإسفافاً وإعوجاجاً، فظهرت، على هذا النحو، المنظومات المعرفية والمذاهب المختلفة.
إنّنا، ومن خلال تشخيص وسبر سابقة المنظومات المعرفية الدينية (المتمثّلة في المذاهب والفرق الإسلامية) يمکننا أن نکتشف سعة وعمق المعرفة الدينية أو انحدارها وانحرافها عند کلّ منها، وإبراز دور کل عامل من العوامل في تبلور هذه المنظومات بشکل متزامن «مقارن» وبصورة «متعاقبة» (مرحلية وعبر تتالي تاريخي للمعرفة الدينية).
الأساس الثاني للنظرية
إن العوامل والعناصر الدخيلة في عملية تكوّن المعرفة الدينية كثيرة ومتنوّعة، ويمكن تقسيمها من زوايا عديدة وتصنيفها من جهات مختلفة، منها:
1- وفقاً لنمط «التركيبة الثلاثية» (كما أشير إلى ذلك في المخطط رقم 1). فتنضوي تحت هذين الركنين جميع العناصر الذاتية وشبه الذاتية المتّصلة بالقائم بعملية المعرفة (العارف) من جهة والمعلومة أو ما تمّ استكشافه ومعرفته من جهة ثانية، وأما العناصر العرضية المستندة إلى أحدهما أو أنّها ماوراء الطرفين المذكورين (التي لا يمكن إسنادها إلى الركنين الآنفين)، فتندرج في إطار «المعارف التكميلية»، على الرغم من إمکان تصنيف المعارف التكميلية إلى فئتين منفصلتين ومستقلّتين عن بعضهما البعض تحت عنوانيْ «المعدّات» و«المعوّقات»، وذلك بحسب الدور الإيجابي والسلبي الذي تضطلع به. وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم العوامل إلى أربعة طوائف؛ باعتبار أنّ بعضها ذات وجهين، بمعنى أنّها تعتبر «معدّة» بوجه من الوجوه وفي إحدى الحالات، وتُحسب «معوّقاً» من وجه آخر وفي حالة أخرى؛ إلا أنّنا ندرجها جميعاً في خانة «المعارف التكميلية» من حيث إنّ كلا الطائفتين تقومان بدور هامشي وجانبي.
2- التقسيم طبقاً للأصول الخمسة يمكن أن يعدّ نطاقاً لتصنيف العوامل الدخيلة، وإن كانت آليات تحصيل المعرفة الدينية تنطبق على تقسيم التركيبة الثلاثية بلحاظ مفاد الأساس الثالث للنظرية (رسالية الدين وشموله للأصول الخمسة المؤثّرة في فهم الرسالة الإلهية)؛ وبهذا اللحاظ تقسَّم العوامل الدخيلة في تكوّن المعرفة إلى خمسة طوائف.
3- العوامل الركنية أو الأصلية وغير الركنية أو الفرعية: إنّنا نطلق اسم العامل الركني أو الأصلي على المتغيّرات التي تؤدّي دوراً إيجابياً ومصيرياً في تكوّن المعرفة وتبلورها، نحو الدوالّ الداخلية المحسوبة من السمات الذاتية للعارف أو القائم بعملية المعرفة، وكذلك الوحي والسنّة اللذان يلعبان دوراً معرفياً واسعاً لا يمكن استبداله والاستعاضة عنه. ونطلق اسم العامل غير الركني أو الفرعي على المتغيّرات ذات الدور الجانبي في عملية المعرفة، من قبيل أنواع «البيئات والظروف».
4- العوامل المعرفية وغير المعرفية: نحن نطلق على المتغيّرات الإدراكية والعلمية والمنهجية عوامل معرفية، بينما نسمي المتغيرات الأخلاقية والفطرية والبيئية عوامل غير معرفية.
5- العوامل الأنفسية والآفاقية: هذا التقسيم أيضاً- كالقسم الرابع- يدور مدار العارف والمحيط بالمعرفة (يرتبط بالإنسان بوصفه الذات/الفاعل). فإنّنا سنسمّي جميع أنواع المتغيّرات الداخلية بالعوامل الأنفسية، وجميع أشكال المتغيّرات الخارجية بالعوامل الآفاقية.
6- العوامل الخفيّة اللاإرادية، والبيّنة الإرادية (وهذا التقسيم ليس بحاجة إلى مزيد إيضاح).
7- العوامل الصائبة أو الحقّة وغير الصائبة أو الباطلة: والأولى تعني الدخيلة حقّاً والمناسبة فعلاً، بينما الثانية تعني غير الدخيلة وغير المناسبة.
سنطلق على العوامل الدخيلة بحقّ في عملية المعرفة (بحسب الحالة أو بصورة مطلقة) العوامل الصائبة أو الحقّة، ونسمّي المتغيّرات الدخيلة بغير حقّ العوامل الباطلة أو غير الصائبة.
ولا ريب في أنّ كلّ واحد من الأقسام وجهات التقسيم المذكورة بحاجة إلى شرح وبسط وافٍ من جوانب عدّة.
بيد أنّه لا يتاح لنا شرح جميع الأقسام وجهات التقسيم المتنوّعة في هذا المقال؛ وعلى هذا الأساس، سنكتفي هنا بما تمليه علينا الضرورة من شرح إجمالي للتقسيم السابع:
من جهة، إنّ معيار تدخل العنصر الحقّ رهن بحجّية العامل الدخيل، ومن جهة ثانية مقيّد بمدى تناسب الدليل مع المدلول والمتعلّق، ومن جهة ثالثة مرتبط بمدى دلالة العنصر أو العامل. فنعتبر العنصر دخيلاً بحقّ حينما تكون حجّية العامل محرزة ومتناسبة مع المدّعى، وتكون حدود دلالتها على ذلك المدّعى كافية أيضاً.
ولنأخذ بنظر الاعتبار الحجّية «بالمعنى الأعمّ» التي تشتمل على «الحجّية المعرفية» و «الحجّية الشرعية (الأصولية)» معاً. (جرى بحث الحجّية في ساحة علم الأصول بمعانٍ ثلاثة: اللغوية والأصولية والمنطقية. وهي في اللغة تعني «کلّ ما يصلح ان يحتجّ به علي الغير» (المظفر، بدون تاريخ: 2، 12122). وقال المحقّق النائيني: «فإنّ الحجّة باصطلاح المنطقي عبارة عن «الوسط الذي يکون بينه وبين الأکبر الذي يراد إثباته للأصغر علقة وربط ثبوتي»، إما علقة التلازم وإما علقة العلّية والمعلولية، ... ومن المعلوم أنّ القطع لا يکون حجّة بهذا المعنى ... فإنّ الحجّة باصطلاح الأصولي عبارة عن الأدلّة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشّرعي، من دون أن يکون بينها وبين المتعلّقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه ...» (النائيني الغروي، بدون تاريخ: 3، 7، 8). وأرجع المحقّق الاصفهاني الحجّية الأصولية والمنطقية إلى معناها اللغوي (انظر: الاصفهاني، بدون تاريخ: 2، 127- 129). ويمكن بيان تقسيم المحقّق الاصفهاني ضمن المخطّط التالي:
والمراد من الحجّية الشرعية الأعمّ منها ومن الحجّية الأصولية، والمقصود بالحجّية المعرفية هي الحجّية الموجّهة، أي إنّنا نطلق على كلّ ما يتّسم بالتوجيه المعرفي بالمعنى الأعمّ- بحسب التناسب- حجّية معرفية.)
فعلى سبيل المثال الحجّية المعرفية صالحة للكشف عن الواقع التكويني، كما أنّها مناسبة وكافية لإثبات القضايا العقدية والعلمية الحاكية عن الواقع الخارجي (نفس الأمر التكويني). بالإضافة إلى أنّ القضايا القطعية المتأتّية من المصادر غير العقلية بل المعصومة شرعاً، نحو نصّ الكتاب والسنّة القطعية، أيضاً يمكن أن تقع كمقدّمة للقياس المعرفي، وأن تصبح قضايا حقيقية من خلال استخدام اكتشاف نفس الأمر التكويني والتقرير القطعي من الخارج. والحجّية الشرعية أيضاً لها القابلية والأهليّة اللازمة لكشف الواقع التشريعي (الأحكام الواقعية الفقهية والأخلاقية بحسب تعبير الفاضل التوني) (المولى الفاضل البشروي التوني هو المبتكر لتقسيم الأحكام إلى واقعية وظاهرية، لا الشيخ الأعظم كما قد يُتوهّم، وقد ذكر هذا التقسيم لأول مرّة في كتاب «الوافية»)، أو «الواقع التقريري» (يستخدم الواقع التقريري أو التنزيلي في حالات نحو مؤدّى الأصول، من حيث أنّ الشارع جعله على الشاكّ بمنزلة «التكليف الواقعي» (لأجل العبور عن الشكّ؛ لكنّ ذلك في حالة كون حجّية الأصول العملية ناشئة من الأدلة اللفظية ومن جعل الشارع) كالأصول العملية، وهي كافية لإحرازها وتحقّقها. وبعبارة أخرى: يتسنّى الاكتفاء بحجّة «تامّ الكاشفية» فقط لغرض كشف ما يحتاجه الدليل القطعي؛ بينما لو كان مصبّ المسألة اعتبارياً وجعلياً لا تكوينياً يمكن حينئذ الاكتفاء بحجّة «غير تامّ الكاشفية» أيضاً، وعندما يكون مصبّ المسألة الخروج عن الشكّ، ولا حاجة معه إلى كشف «الواقع التكويني» أو «الواقع التشريعي»، يعتبر أصل «عدم الكاشفية» كافياً وناجعاً.
ومن هنا، فخبر الواحد لا يفي بإبراز القضية الحكمية التكوينية، ويكون كافياً لإحراز القضية الحكمية التشريعية (التكليفية والتهذيبية). وهذا من قبيل أنّ العقل مؤهّل وقادر على اکتشاف العقائد، لکنّه غير مؤهّل ولا جدير باستنباط القضايا التعبّدية، كما أنّ الأدوات الحسيّة ليست حريّة بكشف الأمور الميتافيزيقية، والعقل (لوحده) غير جدير بفهم الأمور الفيزياوية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo