< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ سامر عبید

بحث الأصول

40/05/13

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: التعارض/ البحث الخارج / تعريف درس البحث الخارج

 

تمهيد

يحضر الكثير من الإخوة الطلاب الدرس الخارج ، ولكن بعضهم قد لا يدرك حقيقة هذا البحث ومتطلباته والآثار المرتقبة منه ، بل هم فقط يعتبرون الدرس الخارج هو الدرس العالي في الحوزة ، الموصل للاجتهاد .

سنقدم إن شاء الله تعالى تقريباً لهذه الشؤون الثلاثة للبحث الخارج ؛ فنبحث حقيقته ومتطلباته والآثار التي يجب أن يترقبها الطالب من خلال حضوره في هذا الدرس .

تعريف درس البحث الخارج

يقال في التعريف الحرفي أنّه : الدرس الذي يكون خارجاً عن كتاب ، فمن المعلوم أنّ الدوس الحوزوية من بدايتها تعتمد دائماً على كتاب بين الطالب والأستاذ ، فعلى المدرس أن يلقي معارف هذا الكتاب وعلى الطالب أن يدرك هذه المعارف ويحولها إلى معلومات قائمة في ذهنه .

حتى أنّ بعض السُنَّتيين([1] ) في الحوزات لا يسمحون للأستاذ بالخروج عن معالم الكتاب إذا اقتضت الضرورة ، كما لو جاء في اللمعة مثلاً أن قال الشهيد الثاني (رحمه الله) : " وهذا الحكم لرواية أبي بصير " ، هنا يمكن للأستاذ أن يأتي بالرواية ولكن دون المناقشة في مضمونها أو سندها ، بل إنّ بعض السُنّتيين يعتبر الخروج عن الكتاب على نحو الإشكال عليه مضرةً للطالب ولمسيرة العلم ، فيقول بعضهم أنّ هذا يؤدي إلى عدم ثقة الطالب بالكتاب إذا استعرض الأستاذ إشكالات على المطالب المذكورة .

وعلى كلّ حال فإنّ دروس الحوزة من ألفها إلى ما قبل البحث الخارج تعتمد على وجود كتاب ، ولم يعهد في حوزاتنا العلمية منذ أيام الشيخ الطوسي المؤسس لحوزة النجف إلى يومنا هذا أن أقيم درسٌ في هذه المراحل من دون كتاب .

لذلك سمي بحثنا هذا خارجاً عن الكتاب لعدم وجود كتابٍ معهود مشترك بين الطالب والأستاذ .

فنستعرض في البحث الخارج كلّ الأدلّة المرتبطة بالمطلب ، فلا يسمى بحثاً خارجاً ذلك الذي تُستعرضُ فيه بعض الأدلّة ، بل لا بدّ من استعراضها كلّها بمناقشاتها الجذرية والركنية للوصول إلى النتيجة القطعية ، وهي الفتوى في البحث الفقهي ، والقاعدة في الدرس الأصولي .

فيجب أن ينتهي أستاذ البحث الخارج إلى قطعية القاعدة إثباتاً أو نفياً ، أو قطعية الفتوى إثباتاً أو نفياً ، لذا قد يستغرق الأستاذ أحياناً أشهراً عديدة في مسألةٍ واحدة ، فيُعبّر بعض الأعلام عن البحث الخارج بالبحث التتبعي ، إذ يتتبع الأستاذ كلّ ما له صلة بالموضوع المطروق حتى يصل إلى النتيجة .

ولذا لا يوجد لدينا بحث خارج في آيات الأحكام ؛ لأنّ دراسة الآيات لا توصل إلى النتيجة النهائية بل إلى ما تدلّ عليه الآية فقط ، أمّا البحث في أنّ الحديث قيّدها أو نسخها ( بناءً على القول أنّ الخبر المتواتر ناسخٌ لظهور الآية )([2] ) فهو يخرج بالبحث عن كونه بحثاً في آيات الأحكام ؛ لأنّنا لو أردنا الوصول إلى نتيجةٍ نهائية للفتوى علينا أن ندرس إلى جانب الآيات الدليل العقلي والسنة وإجماع الفقهاء وما إلى ذلك ، فيخرج الدرس عن كونه درساً في آيات الأحكام .

وكذلك بالنسبة إلى درس فقه الحديث بكلّ تصانيفه ، سواءٌ أكان درساً لفقه الحديث من جهة الدلالة أم من جهة مشكلة الحديث أم غيرها ، لا يوصل إلى النتيجة النهائية إذ يجب أن نضمّ إليه الآيات والإجماعات والدليل العقلي ...إلخ .

من هنا يقولون أنّ البحث الخارج على هذا التعريف لا ينطبق إلاّ على ثلاثة علوم ، وفي غيرها يسمى البحث دراساتٍ ولا يصطلح عليه في العرف الحوزوي بحثاً خارجاً ، وهذه العلوم الثلاثة هي :

أولاً : أصول الفقه : لأنّك تدرس في الأصول كلّ ما من شأنه أن يكون دليلاً على القاعدة سواءٌ أكان الدليل نقلياً أم عقلياً ؛ لذلك لا تعتبر نتيجة البحث في أصول الفقه في القرآن الكريم نتيجةً نهائية بل نتيجةً تصورية ؛ لأنّ الحاكم على قواعد الأصول ليس القرآن فقط ، بل إلى جانبه السّنّة والإجماع والعقل ، فيسمى هذا البحث : دراساتٌ في الأصول القرآنية .

ثانياً : علم الفقه : وهو أعظم من الأصول في دراسة الخارج ؛ لأنّ الأصول تدخل فيه مجموعة من الأدوات وصولاً إلى القاعدة ، بينما نجزم بأنّ الفقه قد تدخل فيه كلّ العلوم الإنسانية في طريق صناعة الفتوى الفقهية ، كاللغة العربية والطّبّ والتاريخ والجغرافيا ...إلخ ، لذا يعتبر البحث الخارج في الفقه أوسع أبحاث الخارج .

ثالثاً : علم الرجال : حيث تنطبق عليه الضابطة ؛ لأنّه دراسةٌ في الأدلّة على وثاقة الراوي وصولاً إلى النتيجة القطعية ، من حيث كون الراوي ثقة أم لا ، والسند معتبراً أم لا ، وتُقدم نتيجتها إلى الفقيه ليتعرف على الروايات المعتبرة من غيرها ، ولكن نهاية البحث الرجالي ليست الوصول إلى الفتوى بل إلى حال الراوي سلباً أو إيجاباً .

إذاً : يعرف البحث الخارج : بأنّه دراسةٌ في الأدلّة ومناقشاتها وصولاً إلى النتيجة القطعية ، وهذه النتيجة في الأصول هي القاعدة القطعية لأنّ علم الأصول درسٌ في الكليات ، والنتيجة في الفقه هي الفتوى القطعية لأنّ الفقه درسٌ في الجزئيات ( وحتى القواعد الفقهية تؤسس لأجل الجزئيات ) والنتيجة في الرجال هي الوصول إلى مفردات السند من حيث الوثاقة وعدمها ، وهذا هو التعريف المدرسي لدرس البحث الخارج .

مقومات دري البحث الخارج :

هنالك عدّة أركان لا بدّ أن يلتفت إليها الأستاذ والطالب في درس البحث الخارج :

الركن الأول : النظر الأولي البدوي إلى أدلّة المسألة :

فيجب أن ينطلق درس أيّة مسألة في الأصول أو الفقه من النظر التصوري ، فلا ينتقل الباحث مباشرةً إلى التصديقيات ، وهذا النظر الأولي يطلق عليه في عرف البحث الخارج ( تحرير معنى المسألة ).

مثلاً : عندما نبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي في الأصول – وهي تحتلّ مساحةً كبيرةً جداً في الفقه – كما إذا لم يبق من وقت الصلاة إلّا مقدار أدائها والمكلف في الأرض المغصوبة ، فأمر " صلِّ " هو أمرٌ فعلي ، وأمر " لا تغصبْ " أمرٌ فعلي كذلك لأنّه ليس مغيّى يوقت .

فماذا أفعل هنا ؟ هل أقدم الأمر على النهي فأصلي وتسقط حرمة الغصب وإن ارتكبت الحرمة التكليفية ؟ أم أقدم أمر " لا تغصبْ " ويسقط أمر " صلِّ " ؟ أمّا أنّه يتوجه كلاهما إلى المكلف من حيث العمل والامتثال فلا يمكن ، إذ لا تتسع قدرته لأن يصلي ولا يغصب ، فإمّا أن يصلي قيسقط أمر لا تغصب ، وإمّا أن لا يغصب فيسقط أمر " صلِّ ".

فالركن الأول إذاً في البحث الخارج هو تحرير محلّ الإشكال في المسألة ، ويبدو من خلال المتابعة أنّ أكثر إشكالات المستشكلين في المسائل الخلافية تنشأ من عدم فهم محل النزاع ، فلا ينبغي في درس البحث الخارج أن نتكل على دراسات الطالب المسبقة وفهمه المسبق للمسألة ثمّ نراكم عليها الأدلّة والإشكالات ؛ لذالك فإنّ أول ما يجب أن نقوم به في بحثنا – إن شاء الله – هو تحرير محلّ النزاع في المسألة .

الركن الثاني : جمع الأدلّة :

لقد منّ الله علينا بعمالقة في الفقه والأصول استطاعوا أن يجمعوا أدلّة كلّ مسألة ، من قبيل الجهد المبارك للمحدث الحرّ العاملي ( رض ) الذي يفوق حدّ التصور ، فقبل وسائل الشيعة كان على الفقيه أن يراجع كتباً كثيرة ليحدد أدلّة المسألة ، وببركات وجود هذا الكتاب الجامع بات يكفي للفقيه تتبعاً – على قول بعض أساطين العلم – أن يراجع المسألة في الوسائل ، حيث قالوا أنّه لا توجد وراء الوسائل رواية يمكن أن تعتبر دليلاً على الحكم الشرعي .

وكذلك الجهد المبارك المتمثل بكتاب جامع أحاديث الشيعة الذي صنّف تحت إشراف المجدد الكبير آية الله السيد محمد حسين البروجردي (قدّه) ، وقد طبع في خمس وثلاثين مجلداً في مختلف فنون الفقه والأصول ، ويمتاز هذا الكتاب عن الوسائل بأنّه في كلّ باب يبدأ ببيان الآيات القرآنية المرتبطة بالباب والدالة عليه سواء بالدلالة النصّية أو الظهورية أو الاستظهارية أو التلميحية ، فيقف المراجع على الآيات الدّالة على المطلب ([3] ).

ثمّ يشرع جامع أحاديث الشيعة بذكر الروايات الصحيحة أولاً ، ثمّ الموثقة ، ثمّ الحسنة ، ثمّ الضعيفة ، وهذا بخلاف مسلك الوسائل حيث يراعي غالباً تقديم رواية الكليني في الكافي مع قطع النظر عن السند بعد كونها معتبرة عنده .

وأنقل عن بعض أساتذتي أنّ السيد البروجردي (قدّه) اعتنى بكون الرواية الأولى – التي تلي الآيات في الباب – صحيحةً وذات دلالةٍ نصيّةٍ أو صريحةٍ أو ظاهرة ، أي أن يبدأ دوماً بالأقوى سنداً و دلالةً ، وهذا عمل ليس بالسهل ، باشره أكثر من ثلاثين مجتهداً تحت يدي آية الله البروجردي لإقامة هذا الصرح العلمي العظيم .

الركن الثالث : تصنيف الأدلّة :

فينبغي تصنيف الأدلّة كلٍّ على حدة ، اللفظية على حدة ، والعقلية على حدة ، ثمّ العقلية تصنف إلى استقرائية وقياسية ، وبهذا ترتب القضايا بشكلٍ منطقي .

ونبدأ غالباً في القواعد الأصولية أو الأحكام الفقهية بالدليل اللفظي ، فمشروعنا الدليل اللفظي ، ثمّ بعد ذلك الدليل الشرعي غير اللفظي ، ثمّ الدليل العقلي ، ونحتاط عادةً في الرجوع إلى العقل إلاّ في القضايا التي لا نملك فيها دليلاً شرعياً لفظياً ، أو نسعى بالدليل العقلي لتأييد الدليل اللفظي أو الدليل الشرعي عموماً .

فعندما تقرأ كتب الأصوليين القدامى كالذريعة إلى أصول الشيعة للسيد المرتضى علم الهدى الذي يعتبر أقدم كتابٍ أصولي ، أو كتاب العدّة في الأصول للشيخ الطوسي ، أو كتاب تهذيب الأصول للعلّامة الحلي ، أو كتاب الفصول أو القوانين ، تجدهم غالباً ما يستدلون على القواعد بالادلّة اللفظية ، وحتى منها ما بات الآن يعتبر من القضايا العقلية المحضة ، تراهم هناك يستدلون عليها بالأدلّة الشرعية اللفظية وغير اللفظية .

الركن الرابع : متابعة مناقشات العلماء للتحقيق في دلالة الدليل :

لأنّنا عندما نشير إلى دليلية هذه الأدلّة على المطلب لا نقصد الدليل بالدلالة التصديقية بل التصورية ، كما درسنا في اللمعة والمكاسب والحلقات والكفاية والرسائل ، يبدأ المصنف بالدليل ثمّ ينتهي إلى إنكار دليليته ؛ إمّا لأنّه أجنبي عن المطلب أو أخصّ أو أعمّ منه ، أو شيءٌ آخر، فنحن في هذا الركن نستجمع ما يدعى كونه دليلاً ، ثمّ نلاحظ ما قاله علمائنا ، مع الإشارة إلى أنّ العلماء على طبقاتٍ ثلاثة :

طبقات العلماء :

1- القدماء : وتبدأ هذه الطبقة من عصر الغيبة إلى عصر الشيخ الطوسي ، الذي يلحقه البعض بالقدماء ، ويعتبره الشيخ الأنصاري خاتمهم ، ويعتبره البعض باكورة المتأخرين ، ويدخل في هذه الطبقة ابن سلار و ابن زهرة و ابن الجنيد و الشيخ الصدوق و والده و الكليني .

2- المتأخرون : بعد الشيخ الطوسي ، ويرى البعض أنّه لا حالة علمية بعد الشيخ الطوسي إلى زمان ابن إدريس ، إذ تعطلت الحركة العلمية في الفقه والأصول بعد الشيخ إلى مائة سنة ، حيث هيمنت أفكاره على عقول الحوزويين ، لذا يعتبر البعض هذا القرن عصر ركودٍ علمي ، إلى أن جاء ابن ادريس الحلّي صاحب كتاب السرائر في الفقه ، وتسنّم مسند التدريس وبدأ بنقد أفكار الشيخ الطوسي([4] ) .

يقولون أنّ تاريخ المتأخرين يبدأ من عصر ابن إدريس الحلّي إلى أن نصل إلى المجدد البهبهاني ، ويدخل في هذه الطبقة : ابن إدريس الحلّي ، و العلّامة الحلّي ، والمحقق الكركي ، والشهيدان الأول والثاني ، وابن سعيد الحلّي ، ومن الإخباريين يدخل المحدّث البحراني صاحب الحدائق ، ومن حوزة كربلاء السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض وابنه السيد محمد المجاهد صاحب المصابيح .

3- متأخرو المتأخرين : ويمتد من عصر الشيخ البهبهاني إلى نهاية عصر الشيخ صاحب الكفاية ، ويدخل في هذه الطبقة : المحقق القمّي ، والمحقق صاحب الفصول ، والمجدّد الشيرازي مؤسس حوزة سامراء ، والمحقق النائيني ، والمحقق العراقي ، والمحقق الأصفهاني ، والسيد الأصفهاني ، ويضمّ إليها السيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر .

 


[1] - يقصد من هذا المصطلح : الحوزويون المتمسكون بالسّنة الحوزوية، أي المتون والمناهج الحوزوية المشهورة الموروثة .
[2] - هنا الكلام بين العلماء في الخبر : أينسخ مدلول الآية أم لا ينسخه ؟ فمدلول الآية ظنّي والخبر ظنّي كذلك، وبعض العلماء يقول أنّه لا ينسخ، وبعضهم يقول بأنّه ينسخ إذا كان خبراّ متواتراً، وبعضهم ينفي نسخ السّنّة للكتاب مطلقاً .
[3] - ينبغي لفت النظر هنا إلى قضية ابتلي بها العصر الأخير من متأخري الفقهاء، وهي أنّ الكثير منهم لم يتكلوا بشكلٍ واضح على الآيات القرآنية، وهذا جليٌ في مثل كتاب جواهر الكلام .
[4] - نقل بعض تلامذة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدّه) أنّه قال : جزى الله ابن إدريس الحلّي كلّ خير، لولاه لعُطلت الحركة الاجتهادية في مدرسة أهل البت (ع) .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo