< قائمة الدروس

الأستاذ السيد المدرسي

التفسير

38/01/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سورة الأحقاف/ الآية 9 و 10

﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‌ وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‌ إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذيرٌ مُبينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني‌ إِسْرائيلَ عَلى‌ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ (10﴾

 

هناك بصائر تمهيدية لابد أن نتحدث عنها في البدء:

البصيرة الأولى: التكرار في القرآن

القرآن الكريم قد يكرر الحديث عن ذات البصائر والأفكار والموضوعات المرة بعد الأخرى، لماذا؟

الإجابة عن ذلك من جهتين، الأولى: الدرس حرف والتكرار ألف كما يقولون، وفي الإعادة إفادة، والقرآن الكريم ليس كتاباً يقرأ وتنسى معارفه، بل كتاب يراد منه أن يكرس القيم في البشر ويصنع واقعاً مغايراً للواقع الفاسد، ومن دون التكرار لا يتسنى ذلك للناس لكثرة نسيانهم.

الثانية: كل تكرار وإعادة في القرآن الكريم، فيه فوائد جديدة، فمثلاً سورة الأحقاف حين تحدثنا عن الشرك، تحدثنا عن جوانب مغايرة للشرك عن الحديث عن الشرك في سورة أخرى، فهناك أبعاد كثيرة ومظاهر مختلفة للشرك، فهناك شرك في الجانب العبادي وهناك شرك التشريع وشرك الإستعانة و..، فإذ يورد القرآن الكريم الحديث عن الشرك في سورة لقمان يورده بما يتعارض مع الحكمة ويقف حائلاً دونها، وفي سورة الأحقاف يربطه بالجانب السلوكي.

ففي نهاية الآية العاشرة يبين الرب سبحانه أن عدم الهداية (وبالتالي إستمرار المشرك على شركه) هو نتيجة للإنحراف السلوكي والظلم، فظلم الظالم يحجبه عن رؤية الحقائق، فالظالم المتمرد على حقوق الناس والمتعدي عليهم لا يلبث أن يتحدى الرب سبحانه، ويشرك به، فيتسافل في الدركات.

البصيرة الثانية: الداعية والتجرد عن الأنا

من الضروري أن يتجرد الداعية عن ذاتياته وأنانياته، فإذا أراد الدعوة إلى الحق عليه أن يحذر من إدخال تلك الدعوة ضمن مصالحه، فقد تتعارض الدعوة مع مصلحته في بعض الأحيان وبالتأكيد سيفضل المصلحة على الحق، هذا فضلاً عن عدم تصديق الناس للدعاة الذين يمزجون الأنا بدعواتهم.

فلو كان الداعي إلى الزهد غير عاملٍ بما يقول، كيف للناس أن يصدقوه؟ وقد ورد في الحديث الشريف عن صفات العلماء الذين يجدر بالناس إتباعهم والأخذ منهم عن الإمام الصادق عليه السلام، نقلاً عن سؤال الحواريين للنبي عيسى عليه السلام: )يَا رُوحَ اللَّهِ مَعَ مَنْ نُجَالِسُ قَالَ عليه السلام مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ‌ وَ يَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ وَ يُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُه‌( .[1]

والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله كان أعلى مثال للداعية المتجرد عن ذاته ومصلحته، فكان يطبق قبل أن يدعوا وأكثر مما يدعوا إليه، فكان صلى الله عليه وآله يتعب نفسه في العبادة والعمل، ويسد على بطنه حجر المجاعة لكثرة الجوع، ويتعبد لله حتى يغلبه التعب فيستمسك بحبلٍ ممدودٍ من سقف الدار لكي لا يهوي إلى الأرض، حتى أنزل الله سبحانه قوله مخاطباً نبيه العظيم: ﴿ طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [2] .

وبعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، كان وصيه أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان مثالاً للزهد في الدنيا ونكران الذات وعنواناً للعامل في سبيل الله سبحانه، فلم يكن ينام الليل إلا قليلاً وكان يسعى في النهار في شؤون الأمة.

 

البصيرة الثالثة: الشاهد من بني إسرائيل

في الآية كلمة تستشهد بقول بعض علماء بني اسرائيل، فماذا تعني هذه الكلمة؟ فهل هناك شخص معيّن كان في ذلك الزمان وشهد على صدق الرسالة، وهل تصديق شخص واحد يكفي في تكريس هذه الرسالة العظيمة؟

كان هناك شخص إسمه عبد الله بن سلام، وقيل أن الآية نزلت فيه و "و هو الشاهد من بني إسرائيل فروي أن عبد الله بن سلام جاء إلى النبي ص فأسلم و قال يا رسول الله سل اليهود عني فإنهم يقولون هو أعلمنا فإذا قالوا ذلك قلت لهم إن التوراة دالة على نبوتك و إن صفاتك فيها واضحة فلما سألهم قالوا ذلك فحينئذ أظهر عبد الله بن سلام إيمانه فكذبوه"[3] .

وهناك حديثٌ عن الآية الشريفة، بإعتبار السورة مكية وحادثة إسلام عبد الله بن سلام كانت في المدينة، والأهم هو أن نستفيد من بصائر هذه الآية سواء كانت مدنية أو مكية.

وهناك بعض الأفكار نذكرها من دون الجزم بها:

أولاً: في كل زمان ومكان نجد المنصفين من أتباع الديانات الأخرى والنحل المختلفة، الذين يشهدون بصدق الإسلام فيؤمنون به.

وكلما إزداد العالم علماً إزداد تواضعاً للحق، فينفتح على المذاهب والأديان المختلفة، فلما أن يدخل الحق شغاف قلبه لا يلبث أن يصدع به، فكم من نصراني أو يهدوي صدعوا بحقانية الإسلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام وأولياء الله، فتجد نصرانياً يكتب " ملحمة الغدير " ويقول فيه:

لا تقل شيعةٌ هواة عليٍ ** إن كل منصفٍ شيعياً

هو فخر التاريخ لا فخر شعبٍ** يصطفيه ويدعيه ولياً

جلجل الحق في المسيحي حتى ** صار من فرط حبه علويا

ثانياً: حينما ندرس محتوى رسالات الله سبحانه، نجد وجود الكثير من الإضافة عليها من قبل البشر كذباً وتزويراً، الأمر الذي حصل حتى مع أحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من وضع ودس بعد رحيله .

وبالرغم من وجود التحريف والأفكار الخاطئة، إلا أن جوهر الرسالات يتفق مع بعضها البعض، كالدعوة إلى التجرد عن الماديات والإرتباط بالله، والدعوة إلى العمل للآخرة والتأكيد على القيم الإنسانية و..

فحتى التي انحرفت فيها دلالات على صدق رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وحين رأى المنصفون من أتباعهم النبي وسمعوا مقالته علموا بتشابه الرسالة هذه مع أديانهم ولكنها نقية صافية.

البصيرة الرابعة: الأنبياء السابقين دليل صدق الرسول

وجود شيء أدل دليل على حقانيته، والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يكن أول رسول يبعث إلى الناس، بل كان آخرهم، فبعد عشرات الألوف من الأنبياء والرسل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وحقيق على من صدق بوجود رسل أن يؤمن به صلى الله عليه وآله، فكيف بالناس يصدقون بغيره ويكذبونه؟

إنما كان تكذيبهم بسبب إستبعادهم فكرة بعث الله رسولاً من بين ظهرانيهم ومن قومهم، ولذلك اعتبروا النبوة منافسة لبني هاشم معهم، ومن هنا يفنّد القرآن الكريم هذه الفكرة بإعتبار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله رسولاً كسائر الرسل:

1-﴿ قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ

فليس النبي أول رسول ومبعوث لهم ليشككوا في رسالته، وبدراسة حياة ومنهج سائر الرسل ستجدون النبي الأكرم صلى الله عليه وآله رسولاً مثلهم.

2-﴿وَ ما أَدْري ما يُفْعَلُ بي‌ وَ لا بِكُمْ

وهذا نهاية تجرد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عن ذاتياته، ودليلٌ على صدق رسالته.

3-﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‌ إِلَيَّ

ومن دلائل تجرده عن ذاته إتباعه للوحي، لا إلى رأيه وهواه، ولا يتبع في أحكامه وتعليماته العصبيات والقوميات والقلبيات، وهذا دليلٌ آخر على رسالة الرسول، لأن الداعية لغير الله سبحانه سيميل حتماً إلى حزبه أو قوميته أو جماعته.

4-﴿ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذيرٌ مُبينٌ

وفي هذه الكلمة إنذارٌ بعذاب الله سبحانه لهم إن أصرّوا على الكفر والتكذيب.

5-﴿ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ

دعوة لتأمل الكافر عاقبة الكفر بما يقوله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، إن كان من عند الله سبحانه.

6-﴿ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني‌ إِسْرائيلَ عَلى‌ مِثْلِهِ

أنتم كذبتم به، ولكن جاء من بني اسرائيل و آمن به، وشهد على صدقه وحقانيته على مثله، فماذا تعني على مثله؟

بيان بأن محتوى الرسالات وجوهرها واحد وإن تغيرت الألفاظ والتعابير عنه، فالصلاة في كل الأديان والصوم كذلك، والحج في أغلب الأديان، وقبل ذلك وفوقه التوحيد هو أصل كل دين سماوي، فاليهودي أو النصراني يجد في الإسلام ما يشابه ما في ديانته مع فارق الكمال والتمام والدقة والنقاء من التحريف.

7-﴿ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ

آمن اليهودي رغم بعده الظاهري من الإسلام ومن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، واستكبرتم رغم قربكم منه، والسبب في كفركم هو ظلمكم السلوكي.

فالظلم ظلماتٌ تحجب الحق عن بصائر القلب، وقريش كانوا ظالمين لأنفسهم وظالمين لمن حولهم، وكان ذلك سبب عدم شمولهم بنور الهدى، فكان عليهم التخلص منه للإهتداء، وبالأخص القيادات والملأ منهم، إذ كانوا يعلمون أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله يفقدهم إمتيازاتهم ومصالحهم التي اكتسبوها بظلمهم للعباد.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo