< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/08/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كيفية إمتثال المكلّف للواجبات الشرعية

 

هل يكتفي المكلّف بإتباع غيره للعالم، فعمل كما يعمل الأول من دون المراجعة إلى العالم؟ وبعبارةٍ أخرى هل إن الطاعة للعلماء ومن قبلهم الائمة والانبياء عليهم السلام، هل لها موضوعية أم لكونها طريقاً إلى إطاعة الله سبحانه؟

قالوا: بأنها مجرد طريقٍ إلى ذلك، ويكتفى بالعمل المطابق للواقع، مادامه يحقق الطاعة لله سبحانه، سواءً إتبع المكلّف وليّاً أم لا، كما هو الحال بالنسبة إلى مريضين راجع أحدهما الطبيب وأخذ بوصفته، فطاب من مرضه، وعمل الثاني بعمل الأول من دون مراجعة الطبيب فطاب هو الآخر.

والحق، ليس الأمر كذلك ولا سواء مع مثال المريض العامل بوصفة الطبيب من دون مراجعته، بل بينهما بونٌ شاسع[1] :

أولاً: لأن الطاعة لولي الأمر مطلوبةٌ أساساً، ألا ترى أن الله لم يقبل عرض إبليس بأن يسجد له أربعة ألاف سنة بعد تمرّده عن السجود لآدم عليه السلام؟ وهكذا فالطاعة لله وللرسول وللائمة ولنوابهم، تدل على تسليم الإنسان أمره لله سبحانه، وهو أصعب أمرٌ عليه؛ ذلك لأن بالطاعة لأولي الأمر يخالف الإنسان هواه، ليعرف الرب سبحانه.

فنفس الإنسان الأمّارة بالسوء، حجابٌ بينه وبين الله سبحانه، ولا يمكنه أن يصل إلى الرب إلا بإسقاط هذا الحجاب، ومن هنا حين يأمر الله سبحانه الناس بالطاعة للرسل، يأمرهم بإتخاذهم وسيلةً إليه[2] [3] ؛ لأن العمل بحاجة إلى صبغة التعبّد لله والتسليم لمن أمر الله بالتسليم له.

وحين يبين ربنا سبحانه حكمة بعثة الأنبياء يقول: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[4] والذي يعني الرجوع إليهم وطلب شفاعته بأن يستغفر لهم، وفي سورةٍ أخرى يقول الله عن المنافقين: ﴿وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُون‌﴾[5]

ومن هنا؛ نجد أن الروايات الشريفة تؤكد على هذا الأمر؛ مضافاً إلى الآيات الواضحة التي تؤكد على عدم إكتمال طاعة الله إلا بطاعة الرسول ولا تكتمل طاعة الرسول إلا بطاعة الأولياء الذين أمر الله بطاعتهم، وقبل بيان الروايات نذكّر ببعض الآيات الأخرى التي أمر الله سبحانه بالإستماع إلى الرسول:

قال الله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي‌ ضَلالٍ مُبين﴾[6] ، فليس دور الرسول مقتصراً على التبليغ والتعليم، بل دوره أيضاً في تمييز الله بين من يريد طاعته ومن لا يريد، ويأمر الرب سبحانه بسؤال أهل الذكر، فلا يكتفى بالعمل المجرد.

أما النصوص الشريفة، فقد روي عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ دَانَ‌ اللَّهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اللَّهُ التَّيْهَ‌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [7]

 

وهذا الأمر مهم، لأن هناك من الفقهاء من قال بأن عمل العامي بلا تقليد ولا إجتهاد ولا إحتياطٌ باطل، ولكن هل عمل العامي بالإحتياط -من دون الرجوع إلى العالم- يكفيه أم لا؟

في الواقع إنه يكفيه في بعض الموارد، أما إذا كان يعني ذلك التمرّد على أمر الله سبحانه، بطاعة الله والرسول ومن أمر الرسول بطاعتهم، فمشكل؛ لأن الطاعة ذاتها تدل على التسليم؛ وهكذا نجد في النصوص التوسعة على المكلّف إن أخذ بالأحكام من باب التسليم – لا الإحتياط-، فقد روي عَنْ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ وَ الْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكَ" [8]

وفي تفسير قول الله سبحانه: ﴿ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‌ وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾[9] ، قال أبو جعفر عليه السلام: "آل محمد صلى الله عليه وآله أبواب الله و سبيله- و الدعاة إلى الجنة و القادة إليها- و الأدلاء عليها إلى يوم القيامة" [10]

وحين قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: " أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ‌ وَ عَلِيٌّ بَابُهَا- فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ"[11] فإن ذلك عنى به عدم صحة عمل من عمِل من دون الرجوع إلى باب المدينة.

 

أما ما قيل بأن الإحتياط سبيل العقلاء عند عدم العلم، بأن يكرر العمل فيما لو علم بكون أحدهما واجباً عليه، ففيه أن ذلك لا يكفي بمجرده إن لم تتحقق صبغة الطاعة لله ولاولياءه، والتسليم لهم.

فإذا قيل بإمكان تحقق هذه النية سواء في العمل الواحد أو عملين، فيعمل بكلٍ منهما إمتثالاً لأمر الله، فيقال بعدم العلم بوجود أمرين، بل العلم بعدم وجود أمرين؛ ولا يقطع بتحقق الطاعة عبر مجموعة محتملات[12] .

صحيحٌ أن النية خفيفة المؤونة، إذ يكفي الإندفاع إلى العمل بدافع القربة، سواءاً صلّى مرةً أو مرتين، ولا إشكال ولكن أن يبني المكلّف حياته على هذا الأساس مشكل؛ فبمراجعة الروايات الشريفة، نجد أنهم عليهم السلام بينوا الحكم فيما يحتاجه المكلّف حتى في موارد الشك يبينون حكم الشاك، إما بالتخيير بين العملين تسليماً أو تطبيق المرجحات.

هذا كله مضافاً إلى عدم ثبوت سيرة العقلاء في الإحتياط، فلا يكررون أعمالهم، بل يجتهدون أو يقلدون للإمتثال بما أمروا به، خصوصاً في الشرع المقدس، إذ لا قياس في الدين.ثم إن إغلاق باب العلماء والتعلّم في الدين أمرٌ مشكل، للأمر بالتعلم والتعليم في نصوصٍ كثيرة، فلا يمكن تركها والإكتفاء بالعمل وفق الإحتياط.

[1] ويمكن أن يظهر الفرق بينهما بملاحظة عدم قطع المكلّف بإصابة الواقع، فإن المكلّف المقلّد إنما يعمل وفق فتوى المجتهد تحصيلاً للحجة لا للواقع؛ وحيث لا حجة لغير المقلّد فلا يقطع بإصابته للواقع؛ فيبقى الإشتغال اليقيني حاكماً، إلا أن يقال بقطعه بالحكم الواقعي؛ وسيأتي الحديث عنه لاحقاً. [المقرر].
[3] ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ وَ جاهِدُوا في‌ سَبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون‌﴾.
[12] ربما يقال بتحققها في الجملة، مع توفّر نية الإمتثال. [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo