< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/08/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 26/ نصوص فضل العلم ودور العلماء 20/ ميّزات الولاية الإلهية

 

قبل الحديث عن ميّزات الولاية الإلهية، نمهّد ببعض البصائر:

الأولى: ذكرنا أن النصوص المرتبطة بشأن الولاية تنحى منحى النفي أكثر من جهة الإثبات، وبعبارة أخرى تؤكد على الإنذار قبل التبشير، أي الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله، بل إن محور الحديث في الآيات ليس عن إثبات الصانع -إذ لا ينكر ذلك أحدٌ- بل الحديث عن نفي الشركاء المزعومين، وتحطيم الأصنام الفكرية والحجرية والبشرية.

ذلك لأن المشكلة الكبرى لدى البشر ليست في فهمه للحقائق، لأن الله سبحانه فطره على الإيمان، وأودع فيه العقل والضمير، مما يكفيه لمعرفة العدل وحسنه والظلم وقبحه، وإنما المشكلة في شهواته ومصالحه الضاغطة، والشيطان الخارجي، والطغاة الذين يفرضون على الإنسان ما يشاؤون من إنحرافات. وإن لم تعالَج هذه المشكلة فليست هناك فرصةٌ للنجاة أمام البشرية.

الثانية: جميع الدساتير البشرية، تدعوا إلى العدل والأمانة والى كل خير، ولكن لماذا فشلت البشرية في تحقيق هذه الدساتير على الأرض الواقع، ولا يزال الظلم حاكماً والإنسان الفقير لا يزال فقيراً مقموعاً من قبل الطغاة؟ وهل في الولاية الإلهية ميزة تمكنها من تطبيق القيم السامية ولو بنسبةٍ أكبر من الأنظمة الوضعية؟

الثالثة: ما هو سند تطبيق القيم السامية؟ وبتعبير آخر: هناك قيمٌ متفقٌ عليها، ولكن لماذا لابد من تطبيقها، الأمر الذي توقّف عنده الفلاسفة، حيث لا سند لتطبيقها سوى الإيمان بالله سبحانه والجزاء الأخروي، ولم يرد اولئك الإذعان بالأمر، الأمر الذي أدّى إلى عدم تطبيق القيم، بل ربما حاول البعض تغيير القيم ولكنّه فشل هو الآخر حيث لم يقنع ذلك حتى المستفيد من ذلك التحريف.

الركيزة الأولى للولاية الربانية

ومن هنا نجد أن الولاية الربانية تعتمد على الإيمان بالله سبحانه، فمن لم يؤمن بالله لم يلتزم بشيءٍ من القيم -وإن أدّعى ذلك- ذلك لأن عواصف الضغوط الداخلية والخارجية شديدة، لا يمكن للإنسان أن يصمد أمامها من دون الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبأن الله سبحانه يحاسبه ويجازيه بالحسنى إن أحسن والسوءى إن اساء، وهكذا يشكل الإيمان الركيزة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي.

وبناء المجتمع يتم عبر بناء الحلقات المتصلة بدءاً من الأسرة وانتهاءاً بالأمة، من خلال عشرات التعاليم التربوية والقيمية، ومن ثم يكون في قمة هذا المجتمع، الولي الفقيه، أو القائد الرباني، ذلك لأن القيم التي بني المجتمع الإسلامي وفقها، تستدعي أن يكون القائد متشبعاً بها، حافظاً لها وملتزماً بتطبيقها، وحسب التعبير القرآني: "شاهداً عليها".

وهكذا كان لكل مجتمعٍ أساس، فحين يكون أساسه الغنى، فيكون أثرى الناس هو القائد فيه، وكذا إن كان الأساس العصبية، وحيث كان المجتمع الإسلامي إلهياً، فأكثرهم إرتباطاً بالله سبحانه هو الذي يقود المجتمع.

ولكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا لا نجد مزيداً من التأكيد على القيادة في المجتمع؟

أولاً: هناك آياتٌ أكدت على الموضوع كآيات سورة الشعراء، أو آية السؤال، أو آية المستنبطين أو ما أشبه، وقد بحثنا جملةً منها في البحوث السابقة.

ثانياً: باعتبار أن الإنسان لابد أن يتكامل حتى يصل إلى مستوى التوحيد، أما غير المتكامل فإنه يتهاوى في منزلق الشرك، لقربه منه، ولأن البعض استغل النصوص الدينية في سبيل تثبيت قيادتهم وقوتهم، كما قالوا قديما (السلطان ظل الله في الأرض) وشرعنوا بذلك اضطهادهم للناس بإسم الدين، فإن النصوص الشريفة تتحدث عن القيادة الإلهية، ببيان عدم ميزة ذاتية لها، فليس ذات الرسول والإمام والولي للأمر العالم هو الذي يقود، بل القائد أمر الله سبحانه، والقيم التي أمر بها، فبمدى إلتزام العالم للقيم يستحق القيادة.

وهكذا نجد النهي عن اتباع العلماء الضالّين والفسقة، وبعدئذٍ يأتي الأمر باتباع الفقهاء العدول، كما في قوله عليه السلام: "فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ‌، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ وَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا [فِي‌] بَعْضِ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا جَمِيعِهِمْ"[1] .

وهكذا كانت طاعة اولياء الأمر طاعةً إمتدادية، فالأمر بطاعة الرسول تأتي بعد الأمر بطاعة الله سبحانه، لا أنها مستقلة عن طاعة الله سبحانه، قال الله سبحانه: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيما﴾[2]

فبعد بيان كون طاعة الرسول إنما هي بإذن الله سبحانه، يبين أن القيمة الأساسية للرسول أنه وسيطٌ بين العباد وبين ربهم، وهكذا فمن أبرز سمات العالم أن يعتقد به الإنسان قريباً إلى الله سبحانه بالتقوى والعمل الصالح ، فيعدّه وسيلةً إلى الله سبحانه، كما الأنبياء والائمة عليهم السلام وسائل، قال الله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ وَ جاهِدُوا في‌ سَبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾[3] وذلك يستدعي أن تكون القيادة نزيهةً إلى أبعد حدود، وتكون الأمة رقيبةً على ذلك.

بين الولاية السياسية وقوة الضغط على الحكوماتولو فرض أن المجتمع الإسلامي حظي بمثل تلك التربية وبمثل هذه القيادة المرجوّة، فيكون المجتمع شاهداً على الولاية السياسية في المجتمع، إما أن يكون الفقيه هو القائد السياسي على الأمة – كما في عهد أمير المؤمنين عليه السلام- أو أن يشكّل هذا المجتمع عامل ضغط نحو تطبيق القيم الإلهية، فلا يدعون القيادة السياسية أن تنحرف، وهذا ما نجده في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث كان العلماء يؤثرون على مراكز القرار في الحكومات المختلفة.وبهذه الطريقة، يمكن أن تطبق القيم الإلهية بنسبةٍ أكبر مما هو عليه في سائر المجتمعات، حيث يشكل الفقيه والمجتمع المؤمن به، حواجز تمنع من فساد الحكومات.بلى؛ كانت هناك إنحرافات ومفاسد لدى الحكومات في البلدان الإسلامية، ولكنها أقل مما كان عليه الأمر عند غيرهم، فتلك الإمبراطورية البريطانية التي سجّل التاريخ لها قتل أكثر من مائتي مليون إنسان في العالم.

ومن هنا نجد الدور الكبير للمجتمع الإسلامي الذي بني على أساس الولاية الإجتماعية للفقيه، في تطبيق القيم ومحاربة الإنحرافات، كما حصل في فتوى التنباك، حيث انطلق المجتمع في طرد المحتل البريطاني في عزّ قوته، من فتوى الميرزا الشيرازي.

والنصوص التي وردت في هذا المجال، كخبر الحوادث، أو التقليد، أو كون مجاري الأمور بيد العلماء بالله، إنما هي بمثابة عنوان للنظام الإسلامي، الذي صاغته الآيات الشريفة إنطلاقاً من توحيد الله سبحانه ونفي الأنداد عنه، ولا غرو -حينئذ- أن يبين المعصوم بكون القرآن نزل فيهم وفي اعدائهم.

 


[1] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ج1، ص300.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo