< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/08/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 25/ نصوص فضل العلم ودور العلماء 19/ حرمة التحاكم إلى الطاغوت، ولزوم التحاكم إلى العلماء

 

الحديث عن الولاية الإلهية في الأمة، والقيادة الربانية فيها، يجرّ إلى باب القضاء لا محالة، كونه من أركان إدارة شؤون الأمة، ولكن قبل أن نخوض في بعض جوانب هذا المجال، لابد من التذكير بما ذكرناه سابقاً من كون ولاية العلماء الربانيين ولايةً إجتماعية، سواءً أضيف إليها الولاية السياسية أو لم يضف.

ولا تتم الولاية على المجتمع إلا بوحدته، فإن كان المجتمع متناحراً، فلا يمكن تحقيق الولاية الإجتماعية، ومن هنا لابد من السعي للوصول بالمجتمعات إلى حيث يصفهم الرب سبحانه بالبنيان المرصوص، ومن أبرز سمات المجتمع المرصوص ، هو حل النزاعات الحادثة فيه، وذلك من مسؤولية القضاء، حيث ينتزع من المجتمع أسباب الخلاف.

ومن هنا؛ كان للقضاء دورٌ محوري في المجتمعات، وأولته النصوص الشرعية إهتماماً بالغاً، وكان المجتمع الإسلامي عبر التاريخ يأوي إلى كهف القضاة العدول، ولا يرجع إلى الولاة السياسيين إلا نادراً، وذلك كان سبب المحافظة على المجتمع.

وهناك تشديدٌ في النصوص الشريفة على أن لا يترافع المسلمون في قضاياهم إلى الطغاة، وفي سورة النساء -حيث أنها تهدف تنظيم المجتمع كما يبدو- نجد أن الحديث يتسلسل بدءاً عن العلاقات الإجتماعية الأولية كالعلاقة بين الرجل والمرأة، والعلاقة بين الأرحام، وبيان أحكام النساء والايتام، والحديث عن الفرائض والمواريث، وصولاً إلى الحديث عن الإيمان والشرك، نجد الحديث عن القضاء.

وقد ربط السياق القرآني الشرك والإيمان بالواقع السلوكي للإنسان، المتمثل باتخاذ القيادات الباطلة أو الصحيحة، حيث قال سبحانه: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ أُوتُوا نَصيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‌ مِنَ الَّذينَ آمَنُوا سَبيلاً * أُولئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً * أَمْ لَهُمْ نَصيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‌ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظيماً﴾[1]

وفي الآية التاسعة والخمسين، حديثٌ عن القضاء، حيث يقول الرب سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في‌ شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْويلاً * أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُريدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعيداً﴾[2] .

فمن واجب المؤمن هو الرد إلى الله والرسول وأولي الأمر، وهو الطريق الوحيد لحل النزاعات، والتحاكم إلى الطاغوت محرمٌ وهو ضلالٌ بعيد، كيف لا وقد أمر الناس أن يكفروا بهم.

ثم يقول الرب سبحانه في بيان امتناع المنافقين عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وآله: ﴿وَ إِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‌ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفيقاً*﴾[3]

ولكن الرب يفتح باباً من الأمل للمتخلفين وأصحاب النفوس المريضة: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيماً﴾[4] ، ثم يقول سبحانه: ﴿فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‌ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً﴾[5] ، فالإيمان الحقيقي يتمثل في التسليم القلبي التام في أحكام النبي صلى الله عليه وآله، وقد أمر الرب بالتسليم له في كل شيء، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْليما﴾[6]

وتستمر آيات سورة النساء في التأكيد على ضرورة الرجوع إلى العلماء المستنبطين في الحوادث المستجدة، قال الله سبحانه: ﴿وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَليلاً﴾[7]

وبتطبيق هذه التعليمات، أمكن بناء المجتمع المثالي الذي لا يشجر فيه خلافٌ إلا ويذوب بسبب الرجوع إلى الرسول أو من يمثّل منهجه، فيسلم الجميع لحكمه تسليماً تاماً.

وفي النصوص الروائية، نجد تأكيداً مماثلاً على أن القضاء لا يكون إلا لله وللرسول ولمن يمثلون هذا المنهج، وبالرغم من وجود روايات عديدة، إلا أن من أوضحها دلالة هي مقبولة عمر بن حنظلة، حيث قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام- عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وَ إِلَى الْقُضَاةِ أَ يَحِلُّ ذَلِكَ؟

قَالَ: "مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَ مَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً وَ إِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‌ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‌ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‌ قُلْتُ فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ قَالَ يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا وَ نَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَ حَرَامِنَا وَ عَرَفَ أَحْكَامَنَا فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللَّهِ وَ عَلَيْنَا رَدَّ وَ الرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّه‌". [8]

وكذلك يستفاد من قوله عليه السلام: " وَ أَمَّا الْحَوَادِثُ‌ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-"[9] لزوم الرجوع إلى العلماء الربانيين، لأن القضاء من جملة الحوادث الواقعة.

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام:‌ "أَيُّ شَيْ‌ءٍ بَلَغَنِي عَنْكُمْ قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ أَقْعَدْتُمْ‌ قَاضِياً بِالْكُنَاسَةِ- قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عُرْوَةُ الْقَتَّاتُ- وَ هُوَ رَجُلٌ لَهُ حَظٌّ مِنْ عَقْلٍ (نَجْتَمِعُ عِنْدَهُ فَنَتَكَلَّمُ وَ نَتَسَاءَلُ) ثُمَّ يَرُدُّ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ قَالَ لَا بَأْسَ" [10]

المستفاد منه إمضاء الإمام حكم عروة لردّه الأحكام إلى أهل البيت عليهم السلام.

وهكذا نستفيد من جملة النصوص الشريفة، عدم جوازم الرجوع إلى الطغاة، بل لابد من الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام والعلماء الذين ينهجون منهج رواياتهم عليهم السلام، بعيداً عن المقاييس والآراء، وبذلك نستدل على لزوم الرجوع إلى الفقهاء في الأحكام القضائية.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo