< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/07/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 22/ نصوص فضل العلم ودور العلماء 16/ العلماء ودورهم في تثقيف الأمة 2

 

ذكرنا أن الثقافة محور الأمة الإسلامية، والإهتمام بصحة بنائها الثقافي لها أولى من الإهتمام بالصحة الظاهرية لابناءها، ولكن هناك مستوياتٌ للثقافة:

الأول: المعارف الإلهية وأصول العقائد، وفي هذا المستوى فإن الحاكم هو العقل، بإعتبار عدم إمكان الوثوق بمبدأ إلا بعد تعقّله، وإن الله سبحانه يحتج على الإنسان بما أعطاه من عقل، ودور الوحي إنما هو إثارة العقل، وتذكرة الإنسان، كما قال الله سبحانه لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله: (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر)[1] وقد تكررت كلمة التذكرة بإشتقاقاتها المختلفة عشرات المرات في الكتاب المجيد، إنما ذلك لأن الإنسان يتمكن من اكتشاف ما لديه من العقل عبر تذكرة المذكّر، ومن هنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: " وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ‌ فِطْرَتِهِ‌ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول‌"[2] ، فالعقل موجود ولكن تراكمات الخرافات والأساطير غطّت على العقول ودفنته، ولا تحتاج إلا إلى الإثارة.

الثاني: الأحكام الشرعية، وتنحصر بالشرع المقدس، كأحكام العبادات والفرائض، وقد أمرنا الرب سبحانه بأن نأخذها من الرسل واوصيائهم، وليس لأحدٍ أن يحكم في أمور الشرع بما يمليه عليه رأيه.

وفي هذا المجال لابد من إتباع العلماء الربانيين، بإعتبارهم ورثة الأنبياء وحملة علم الأحكام الشرعية، وقد أوردنا سابقاً جملةً من النصوص الدالة على إلزام الله التيه لمن دان الله بغير سماعٍ من عالم، ومن تلك الروايات قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله‌ يَحْمِلُ هَذَا الدِّينَ فِي كُلِّ قَرْنٍ‌ عُدُولٌ‌ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْمُبْطِلِينَ وَ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَ انْتِحَالَ الْجَاهِلِينَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"[3]

وهكذا يفرض الله على العلماء العدول في كل جيل، بأن يحفظوا الدين عن تأويلات المبطلين للنصوص، وتحريف المغالين لها، ومنع الجالهين من التصدي للإفتاء.

وعن ابن أبي نصر عن أبي الحسن عليه السلام" في قول الله عزوجل: - وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ‌ قَالَ يَعْنِي مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ‌ رَأْيَهُ‌ بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى".[4]

والحاصل، فإن في الأحكام الشرعية لابد من الرجوع إلى الأحكام الشرعية بما يؤدونه عن ائمة الهدى عليهم السلام.

الثالث: موضوعات الأحكام، ونعني به تحديد تطبيقات الأحكام على الواقع، كما في وجوب حفظ بيضة الإسلام، حيث لابد من تحديد كيفية الحفظ وآلية الدفاع، وما هي المصلحة في الظروف الزمانية والمكانية المتغيرة.

والموضوعات قد تكون شخصية، كما في تحديد القبلة في الصلاة، أو تحديد مقدار المرض المسقط لوجوب القيام في الصلاة، وفي مثل هذه الموارد يمكن للمكلف أن يعرفها، بالرجوع إلى الأمارات الدالة، أو بما هو بصيرٌ على نفسه وحالته الصحية.

وقد تكون تطبيقات الأحكام شائكة، ولايمكن تحديدها بسهولة، إذ لابد من توفّر المعرفة بالدين والقيم والمعرفة بخصوصيات معينة للتمكن من تحديد الموضوعات، وفي هذه التطبيقات والموضوعات، لابد من الرجوع إلى العلماء أيضاً، وكما قال الله سبحانه: ﴿وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَليلا﴾[5] ففيما يتعلق بالحرب والسلم والشؤون الإقتصادية والأمنية العامة، فلابد فيها من الرجوع إلى من وصل إلى مستوى استنباط الأحكام الشرعية.

ولعل في الحديث الشريف عن الإمام المنتظر عجل الله فرجه إشارة إلى وظيفة الناس في المتغيرات، حيث قال عليه السلام: "وَ أَمَّا الْحَوَادِثُ‌ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ"[6]

نعم؛ قد يعتمد العلماء في مجال الموضوعات الخارجية وتطبيقات الأحكام على الخبراء، كما يستفاد ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وآله في مشورته لأصحابه في الحرب، إلا أن كلمة الفصل الأخيرة كانت للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهكذا يقوم العالم باستشارة أهل الخبرة أيضاً، أو يعتمد على العرف في تحديد موضوعات الأحكام أيضاً.

وبذلك يكون العالم الرباني هو المرجع الأخير في ثقافة الأمة، ولابد من رجوع الناس إليهم لئلا يعتري الثقافة حالات التأويل والغلو وإنتحال الجهلة.


[2] نهج البلاغة: خطبته عليه السلام في اختيار الأنبياء.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo