< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 8/نصوص فضل العلم، ودور العلماء 4/ طغيان طابع النفي في النصوص الشريفة فيما يرتبط بنظام الحكم 1

باب الاجتهاد والتقليد يعبّر عن الدستور الإسلامي فهو المصدر الأول لقوانينه، وهو الإطار العام للمجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية.

وفي سياق الحديث عن النصوص الشريفة القرآنية والروائية، في التأسيس لهذا الباب، لنا أن نتسائل عن أمور:

لماذا لا نجد النصوص الشرعية برنامجاً واضحاً ومتكاملاً للنظام السياسي في الإسلام؟

ولماذا الحديث عن النظام السياسي في النصوص الدينية يأخذ الطابع السلبي أو جانب النفي، كنفي الشرك ورفض الطاغوت والنهي عن طاعة غير الله، أما الحديث عن جانب الإيجاب فهو محصورٌ في الحديث عن الأنبياء والأمر بطاعتهم، فحتى الحديث عن قيادة أوصياء وأتباع الأنبياء، يأخذ الجانب السلبي، كبيان الصفات السلبية للأحبار التي يجب أن يتخلّوا عنها؟

وهذه التساؤلات تحملنا لتساؤلٍ أعم: ماهي رؤية الإسلام بالنسبة إلى النظام السياسي أصلاً؟

وهذه التساؤلات بحاجة إلى مباحث عميقة ودراسة مفصلّة للإجابة عنها، في إطار الفقه الدستوري في الإسلام؛ وقبل الإجابة عنها، نتشرف ببيان بعض الآيات والروايات الشريفة مع الأخذ بعين الإعتبار التساؤل الثاني وهو طغيان طابع النفي على الإيجاب، ونستعين في هذا المجال بما قام به العلامة المجلسي رضوان الله عليه في كتابه البحار، الذي شهد تطوّراً في منهجية جمع الروايات، بتتويج الأبواب بالآيات الشريفة حول الموضوع.

وقد أورد قدس سره جملةً من الآيات المباركة في الباب الثامن من بحاره تحت عنوان: "باب ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء، وذم اضلال الناس":

قال تعالى: ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ﴾ [1]

الملاحظ من الآية أن التوجه القرآني ينحو منحى تطهير المجتمع من الظلمة والطغاة قبل كل شيء، الذين يقومون بإسكات العلماء ومنع الإعلام السليم من النشر، بل ويحاولون تغيير معالم الدين بسبب عدم إيمانهم بالآخرة، وسيأتي بيان الوجه في في هذا المنحى القرآني.

قال الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾) [2]

و قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾[3]

( صوت) لا ند للإسلام ولا يمكن لشيءٍ أن يحل محل الدين، وقد صرّحت آيات سورة الجحد بهذه الحقيقة.

 

قال الله سبحانه: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ [4]

فالمتحدث بغير علم والمتصدي لشؤون الناس بجهلٍ، يتحمل أوزارهم التي يحملوها بسبب إضلاله لهم بغير علم.

و قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلى‌ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [5]

وقال الله سبحانه: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ [6]

(صوت)

وقال عزوجل: ﴿وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى‌ رَبِّكَ﴾ [7]

فأولاً أمرٌ بالحذر والتصدي لمن يريد الصدّ عن سبيل الله، الأمر الذي يحتاج إلى تحدي الظالم، وفي المرحلة التالية يأتي الأمر بالدعوة إلى الرب سبحانه.

 

قال سبحانه: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [8]

لا يمكن للكافر أن يتحمل خطايا غيره، إذ لا تخفيف عن الضالّ، بل سيحمّله الله سبحانه كذنبٍ من أضلّهم بشكلٍ مضاعف.

قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [9]

وقال عزوجل: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[10] .

وعن عاقبة الذين يمنعون الإستماع إلى الحق، فيقول سبحانه: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ *وَ قالَ الَّذينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلينَ﴾[11] .

و قال تعالى: ﴿وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [12] .

فإعلان الإسلام يعني المواجهة مع الباطل، وإظهار الحق بجلاء.

الى غيرها من الآيات الشريفة في بيان خطورة إضلال الناس وعاقبة من يقوم بذلك، وضرورة مواجهة الجبت والطاغوت في إعلان الحق والقول السديد وإستعمال الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله سبحانه.

ونستفيد من هذه المنظومة من الآيات الشريفة، الحكمة من وجود طابع النفي في الآيات القرآنية فيما يرتبط بالجانب السياسي غالباً، وهو أن الله سبحانه قد أحسن كل شيءٍ خلقه [13] ، وقد أعلن بأنه أصلح الأرض[14] [15] ، ولكن الإنحراف يطرأ على ما خلقه الله سبحانه صالحاً، فيتسلط الظالم على الناس ويضلّهم، ولذلك كان بحاجة إلى مقاومة الفساد الطارئ.

فكما لا يمكن البناء على أرضٍ من دون تمهيدها وهدم البنى الخربة عليها، وكما لا يمكن تقوية الجسد إلا بعد طرد الفايروسات والأمراض منه، كذلك لا يمكن بناء النظام الصالح، إلا بهدم الأنظمة الفاسدة، ومن هنا جائت الآيات الشريفة تأخذ طابع السلب كمحاربة الجبت والطاغوت، ومجابهة الظلمة والمضلّين، والنهي عن إتباع الشعراء وعلماء السوء، وما أشبه، كلها لمعالجة الامراض والأفات الطارئة على المجتمع، وبعدئذٍ يكون للمؤمن أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومن هنا كان التبري من الأنداد، مقدماً على توحيد الله، لتوقف الثاني على الأول، وإن اجتناب الطاغوت ليس بالأمر الهين، لصعوبته وشدة الضغوط عليه، ولكن بعد تحديهم وتحدي ضغوط المادة، يفتح قلب الإنسان أمام نور الرب سبحانه.

وبعبارة أخرى، إن كثرة الآيات في ذكر مصير الطغاة والأمم الظالمة من الأقوام السابقة، تهدف رسم طريق الصلاح، الذي يبدأ من التخلص أولاً من الأمراض والاوبئة، قبل التوجه نحو البناء.

وذات التوجه القرآني ظاهرٌ في النصوص الروائية أيضاً، فالحديث عن علماء السوء وعن شروط العالم المتبع -كما في رواية الإمام الصادق عليه السلام- حيث يجيز الإمام تقليد العوام للعالم بعد توفر جملةٍ من الشروط الإيجابية وتخلصه من الصفات الرذيلة، والتعبير بـ ( للعوام) بدل ( على العوام) للإشارة إلى أن الواجب الأولي على المكلف هو التفقه في الأحكام، ومع العجز عن ذلك يصار إلى التقليد فيكون جائزاً له، وسيأتي بيان تفصيل ذلك في البحوث القادمة إن شاء الله.

وفيما يلي بعض الروايات التي تبين إحدى الصفات السلبية للعلماء، التي إن وجدت سقط صاحبها عن أهلية التصدي للامة، وهي صفة الإذاعة للعلوم:

     عن ابن مسکان قال سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: " قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنِّي إِمَامُهُمْ وَ اللَّهِ مَا أَنَا لَهُمْ بِإِمَامٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ كُلَّمَا سَتَرْتُ سِتْراً هَتَكُوهُ أَقُولُ كَذَا وَ كَذَا فَيَقُولُونَ إِنَّمَا يَعْنِي كَذَا وَ كَذَا إِنَّمَا أَنَا إِمَامُ مَنْ أَطَاعَنِي" [16]

     عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: " سِرٌّ أَسَرَّهُ اللَّهُ إِلَى جَبْرَئِيلَ وَ أَسَرَّهُ جَبْرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَ أَسَرَّهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام وَ أَسَرَّهُ عَلِيٌّ عليه السلام إِلَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ وَ أَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي الطُّرُقِ" [17]

     عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ زِيَادٍ الْكُوفِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا بَعْضُ شُيُوخِنَا قَالَ قَالَ: أَخَذْتُ بِيَدِكَ كَمَا أَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِي وَ قَالَ لِي "يَا مُفَضَّلُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ بِالْقَوْلِ فَقَطْ لَا وَ اللَّهِ حَتَّى تَصُونَهُ كَمَا صَانَهُ اللَّهُ وَ تُشَرِّفَهُ كَمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ وَ تُؤَدِّيَ حَقَّهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ"[18] .

 

ومما مضى نستفيد بصائر ثلاث:

الأولى: التبري مقدومٌ على التولي ولابد من البدء به، بتطهير القلوب من حب الجبت والطاغوت والدنيا، حتى يلتذ المؤمن بحلاوة الإيمان.

الثانية: النظام السياسي الإسلامي نظامٌ مبيّن في تضاعيف الأحاديث -كما سيتين ذلك- ولكن لا يعني ذلك أنه نظامٌ واحد لكل الظروف وكل الأمم، لأنه يؤكد على القيم لا على على بنود دستورية محددة، لإختلاف الظروف والأزمنة.

الثالثة: أنّى كان هذا النظام، فإنه يجعل المحور له، منا كان متسماً بسمات العلم والعدالة والكفائة، وسيتضح ذلك في بحوثٍ قادمةٍ إن شاء الله.

 


[15] (وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo