< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 4/ الآيات القرآنية الدالة على ولاية الفقهاء -2

سورة النساء وآية الرجوع إلى المستنبطين

بمزيد تدبرٍ في آيات سورة النساء، نجد أنها تهدف تنظيم المجتمع الإسلامي، إنطلاقاً من الخلية الأولى فيها وهي الأسرة ومحور الأسرة هي المرأة، وإنطلاقاً من هذه الوحدة الهامة، يتم إصلاح المنظومة الإجتماعية نحو الحلقات الأوسع.وقبل أن نشرع بالحديث عن الآية مورد البحث، نورد بعض النكات المستفادة من سياق سورة النساء:

ففي الآية الرابعة والستين، يبين ربنا سبحانه أن دور الأنبياء لا يقتصر على الوعظ والنصيحة، بل ليطاعوا بإذن الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، وورد ذات الأمر في سورة آل عمران والزخرف ونوح، وتكرر هذا المعنى في آيات سورة الشعراء أيضاً حيث قال تعالى فيها في ثمان مواضع: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطيعُون‌﴾ [1] [2] [3] [4] [5] [6] [7]

والأمر بإطاعة الرسول ضرورية باعتباره وسيلة الإنسان إلى الله سبحانه: ﴿وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيما﴾[8] ، والطاعة ترتبط بالجانب القضائي والجانب السياسي من شؤون الحرب والسلم [9] [10] .

الآية 64: يبين ربنا أن الأنبياء ما جاؤوا لنصيحة الناس فقط وإنما جاءوا ليطاعوا، ﴿وما أرسلنا من رسول إلا﴾ ليطاع باذن الله) ومثله في سورة الشعراء ﴿فاتقوا الله وأطيعونِ﴾ [صوت] والإطاعة اجتماعية وسياسية ( ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم.

وينتقل السياق بعدئذٍ إلى سرد جملةٍ من أحكام القتال، وهذا الأمر يؤكد خطأ النظرية القائمة على حصر دور الرسل بالنصح، والفصل بين الدور الوعظي للرسل وبين دور الساسة في إدارة الشؤون، بل تبين الآيات أحكام القتال، وتدعوا إلى القتال من أجل المستضعفين والتصدي لإنقاذهم، وفي هذا بيانٌ للبعد العالمي للدين، حيث قال سبحانه: ﴿وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصيراً﴾ [11]

ثم يبين ربنا الجانب الآخر من طاعة الرسول وهو الكفر بالطاغوت كمقدمة للطاعة وذلك في الآية السادسة والسبعين، حيث قال تعالى: ﴿الَّذينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ الَّذينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعيفاً﴾.

وبعد بيان جملةٍ من مسائل القتال، يقرن القرآن الكريم بين طاعة الرسول وطاعة الله سبحانه، للدلالة على أنها من طاعة الرب عزوجل، قال سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ﴾ [12]

وفي الآية الثانية والثمانين دعوةٌ إلى التدبر في القرآن الكريم، والدعوة في هذا السياق للإشارة إلى عدم التقاطع بين قيادة الأمة والقيم الدينية، خلافاً لسائر القيادات حيث تتنافى سيرتهم مع قيمهم الدينية، قال الله سبحانه: ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً﴾.

وبعد بيان هذه الحقائق، قال الله سبحانه في الآية الثالثة بعد الثمانين: ﴿وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَليلا﴾.

قيل إن محور الآية هو "الإذاعة" حيث كان من أذى المشركين للمسلمين الشائعات التي نشروها لتضعيف القيادة الإسلامية، بيد أن هناك معنىً ثانٍ لا يتعارض مع المعنى السابق، وهو ان في حالات إنتشار الإشاعات الذي يصل إلى صراعٍ إعلامي، لا يجوز للمؤمن أن يستمع إلى كل ناطقٍ ومن ثم يكون مروّجاً له، وخصوصاً في الشؤون المرتبطة بمصير الأمة، كقضايا السلم والحرب ( الأمن أو الخوف)، حيث كان الواحد يتحول إلى إذاعةٍ سيارة في بث الأفكار الخاطئة ويساهم في نشر الفواحش الفكرية والثقافية.وبدلاً عن ذلك فإن المطلوب هو ردّها إلى الرسول وإلى أولي الأمر: (وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فإذا أرجعو الأمر إلى الرسول والى اولي الأمر، فإن الذين يستنبطونه منهم – من أولي الامر أو من المسلمين – يعلمون به.

ولأن القضايا هذه من المتغيرات وليست من الثوابت، وهذه القضايا ترتبط بالقيادة الفعلية للأمة، جاء الأمر بردها إلى الرسول وإلى أولي الأمر، ولم يأمر الرب بردها إلى الله وإلى الرسول كما في مواضع أخرى من الكتاب المجيد.من هم المستنبطون؟مضافاً إلى الرسول أمرٌ بالرد إلى أولي الأمر منهم، ولكن لماذا كرر السياق ( يستنبطونه منهم)؟السبب في ذلك لبيان أنه ليس كل وليٍ الامر يتم الرجوع إليه، بل أولو الأمر الذين يستنبطون الحكم هم من يتم الرجوع إليهم، والإستنباط من النبط، تعني إستخراج الماء من البئر الغائرة، وقيل أنها تعني أول ماءٍ للبئر، والأول أقرب، لما فيه من بذل الجهد والعناء، لمكان السين الناقل للكلمة إلى باب الإستفعال.ويعني ذلك عدم تمكن الناس جميعاً من إستنباط الأحكام من آيات القرآن الكريم ومن قيم الشرع فيما يرتبط بالقضايا المتغيرة، وإنما هناك رجالٌ من أولي الأمر في قمة الهرم يستطيعون استنباط الأحكام. أولوا الأمر، من هم؟

ناقش بعض المفسّرين كثيراً لإثبات أن أولي الأمر هم أهل البيت عليهم السلام، وهذا أمرٌ واضح لا حاجة لمزيدٍ بحثٍ فيه، ولكن هل اولوا الأمر في هذه الآية يقصد منه الائمة فقط؟

يبدو أنه لا يقصدهم فقط، لأن المعصوم لا يحتاج إلى إستنباط الاحكام، إذ أن علمهم لدنيٌ من عند الله سبحانه، والاستنباط والإجتهاد وظيفة غيرهم، إذ لا يقاس بآل محمد أحد، ومن هنا ذهب صاحب الأمثل، إلى أن الأية تشمل أهل البيت بالدرجة الأولى ومن ثم العلماء الذين هم في خطّهم [13] .[14]

وبهذا المعنى يكون يقسم أولي الأمر إلى من كان علمهم إلهيٌ ومن عند الله، ومن يستنبط الأحكام من أدلتها، ومن هنا لا يتم الرد إلى كل اولي الامر، فقد يكون هناك من يدعي ولاية الأمر،و لكن لا يمكن الرجوع اليه لأنه ليس بمستنبط، إنما يتم الرجوع إلى من يتصدى ويستنبط، وهكذا فإن من يقود المجتمع في التحديات الصعبة ثقافيةً أو إعلامية هم العلماء المستنبطون.

 

ونستفيد من هذه الآية أن العلماء بالله، هم الذين ينبغي أن يتصدوا لمواجهة الهجمات الثقافية والاعلامية و على الناس أن يستمعوا إليهم ويتبعوهم، خصوصاً بملاحظة سياق الآية بعد بيان ضرورة الطاعة للرسل في الآية الرابعة والستين من السورة، وبعد الرسل يكون شأن إستنباط حكم الأمن والخوف إليهم.

وأما ترك ذكر مصدر الإستنباط الذي هو القرآن الكريم وكلمات الرسول صلى الله عليه وآله، فإنما هو لوضوح هذا المطلب.

 

آية النفر

قال الله سبحانه: ﴿وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾ [15]

لا يقصد من النفر في الآية النفر إلى الحرب، إذ كان يمكن أن يعلن القرآن كفاية الرب المؤمنين شأن القتال كما في موارد أخرى،[16] وإنما ربط النفر للتفقه، فهذا النفر ليس للحرب وإنما هو من أجل طلب العلم، حيث أمر الرب قسماً منهم أن ينفروا للتفقه في الدين.

والمقصود من التفقه: هو طلب الفهم العميق في الدين، حيث تعني كلمة ( الفقه) الفهم العميق، وبإضافة التاء دلالة على السعي لطلب هذا الفقه.

أما إذا تفقّه المسلم في أحكام الشرع، فحينئذٍ يجب عليه أن يقوم بدوره الشرعي كنذيرٍ لقومه، وتكون مسؤولية قومه أن يستمعوا إليهم ويحذروا، فالمسؤولية تقسّم على الفقيه من جهة وعلى الناس من جهةٍ أخرى، مما يدل على وجود ولايةٍ للفقيه على الناس، في حدود الإنذار.

 

مما مضى، بينت الآية في سورة المائدة الشروط الأربعة لحكم العلماء في الأمة، ونستفيد من آية سورة النساء الرجوع إلى العلماء المستنبطين في أحكام المتغيرات من السلم والحرب وما أشبه، وفي سورة التوبة تأكيدٌ على الإستماع إلى كلمات الفقهاء.

وبجمع هذه الآيات إلى بعضها، نستفيد أن نظام المرجعي نظامٌ إجتماعيٌ أولاً وقبل أن يكون نظاماً سياسياً، فإن لم يتصّدى المرجع للقضايا السياسية لا تسقط مرجعيته، فإلتفاف الناس حول المراجع لا ينحصر في حالات إنبساط يده، والفقيه هو الذي يستفيد – بإجتهاده – حدود صلاحيته بمقدار تصديّه في الأمة.


[10] قال الله سبحانه في الآية ( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‌ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً * وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبيتاً).
[14] " اولي الأمر في الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقيا منها و ما كان إشاعة فارغة. و هم النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خلفاؤه من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بالدّرجة الأولى.و يأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.".
[16] من خلال التأمل في سياق الآية، يتضح أن النفر المقصود في الآية نفرٌ واحد، بدأت الآية بالإعفاء عنه على جميع المسلمين، وحثّت عليه لاحقاً لطائفةٍ من كل فرقة، فحيث كان النفر الثاني من أجل التفقه، فإن الأول يقصد منه كذلك. [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo