< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الموصى به 8/ الوصية بالإثم والجنف

 

بعد الإنتهاء من المسائل المذكورة في العروة الوثقى للعلامة الطباطبائي، نتمم البحث بناءاً على كتاب الشرائع للمحقق، وأولى تلك المسائل فيما يرتبط بباب الموصى به، هي الوصية بالإثم والجنف، حيث تقع الوصية بهما باطلة، فما الإثم والجنف؟

المقصود من الإثم هو عمل المعصية -مهما كان-، ولكن قد يصعب تصور إيصاء المسلم المشرف على الموت بما فيه معصية الله سبحانه، كأن يوصي بتوزيع الخمر أو إعانة الظالم أو ما أشبه، وبالرغم من أن الفقهاء أوردوا مثال الإيصاء بإقامة محلٍ للقمار كمثلٍ للوصية بالإثم، إلا أنني لا أستسيغ ذلك، لصعوبة تصور ذلك، والحال أنها وردت في القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه: ﴿فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيم﴾[1]

من سياق الآيات القرآنية، ربما نفهم أن الوصايا قد لا تكون بمعنى الإثم المعروف، بل يكون ثمة سببٌ يدعو الموصي بأن يوصي بغير الحق، كما لو كان الموصي ينتمي إلى جماعةٍ في المجتمع، فيوصي بما ينفعهم، ولكن يكون ذلك مخالفاً للشرع لما تحمله الجماعة من أفكار وتوجهات وسلوكيات باطلة مثلاً، كما الخوارج أو شبههم، ففي هذه الحالة يقوم الوصي بتغيير الوصية، وذلك إنطلاقاً من الإطار الشرعي للتصرفات المالية.

وذلك لأن للمال جهتان، جهةٌ ترتبط بشخص المالك، وجهة ترتبط بالمجتمع، فإذا كان التصرف سفهياً فإن المالك يمنع من تصرفه، وإن كان ذلك المال ماله، وكذلك الأمر في الوصية، حيث يكون للمجتمع نوعٌ من القيمومة على الوصية[2] ، والمقصود بالمجتمع هو الحاكم الشرعي بالدرجة الأولى ومن ثم عدول المؤمنين، لإمكان تطبيق أحكام الإسلام حتى مع عدم توفر ولاية الفقيه، بل المجتمع الإسلامي لوجود عدول المؤمنين فيه أو العلماء غير مبسوطي اليد، يمكنه أن يدير شؤونه، فيمنع أن تجنف الوصية أو تأثم.

ومن هنا؛ فقد يكون الإثم المقصود، هو الإثم في نظر المجتمع الإسلامي، لا الإثم المعهود، لصعوبة تصوّر إيصاء المسلم به كما أسلفنا، ولا تبطل الوصية في الآية الشريفة، بل يقوم الوصي بإصلاحها بما يتوافق مع الأحكام الشرعية.

أما الجنف[3] ، فمعناه اللغوي هو الميل عن الحق، وهو قريبٌ من الميل، والذي أظنه هو وجود درجات للكلمات المرادفة في اللغة العربية، بمعنى أن العدوان درجةٌ من الظلم عالية، أقل منه الحيف، وأقل منه الجنف.

ومثاله أن يوصي المرء بدفع قدرٍ من المال إلى جاره، وأهله يحتاجون ذلك المال، فذلك جنفٌ وميلٌ من الحق بدرجةٍ من الدرجات.

وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام: «مَنْ عَدَلَ فِي وَصِيَّتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ، وَ مَنْ جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ هُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»[4] .

وبذلك نعرف أن الجنف نوعٌ من أنواع الظلم، ربما لم يتلتف إليه الموصي، كما لو لم يكن يتصور وقوع ورثته في حرجٍ بسبب هذه الوصية، وبذلك منح الشرع المقدس الفرصة للمجتمع الإسلامي وعلى رأسه الحاكم الشرعي، بتغيير الوصية لرفع الضرر والحيف عن الورثة.

وفي الباب جملة روايات منها:

     ما روي عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز و جل: «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» قال: نسختها الاية التي بعدها (والمقصود بالنسخ هنا التوضيح والتبيين، فالنسخ في روايات أهل البيت لا يعني التبديل الكلي، بل الجزئي البياني، مما يحملنا على دراسة الآيات كلها في موضوعٍ ما) قوله: «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» قال: يعنى الموصى اليه ان خاف جنفا فيما أوصى به اليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا اثم على الموصى اليه أن يرده الى الحق، و الى ما يرضى الله به من سبيل الخير.

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "وَ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ فَقَالَ لَهُ: الْوَصِيَّةُ تُرَدُّ إِلَى الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ فَمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ أَتَى فِي وَصِيَّتِهِ الْمُنْكَرَ وَ الْجَنَفَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَ يُتْرَكُ لِأَهْلِ الْمِيرَاثِ مِيرَاثُهُم‌"[5] .

 

وقد سبق القول بأن الوصية تعبّر عن سائر الأحكام الشرعية، مع الفارق في زمن تطبيقها، حيث أنها تطبق بعد وفاة الموصي، ولذلك فإن الحيف والظلم والإثم فيها غير مقبولٍ لمخالفتها للأحكام الشرعية.

وصايا أهل الكتاب وأهل الخلاف

لو أوصى المجوسي بتوزيع الخمر أو بمهر زواج المحارم، أو أوصى النصراني بإعمار الكنيسة، أو أوصى المخالف بمهر زواج المطلقة بطلاقٍ لا شهود فيه، فهل تنفذ هذه الوصايا أم لا؟

نلحظ في هذه الوصايا، ما لو بذل هذه الأموال في حياته، هل كان الشرع يمنع منها أو يعاقب عليها؟

كلا؛ لقاعدة الإلزام، ولأن أهل الذمة يقرّون على أعمالهم، فتوزيع الخمر[6] أو مهر زواج المحارم محللٌ عند المجوس، وكذلك فإن عمارة الكنائس وترميمها غير ممنوع شرعاً عندنا، لأن الممنوع عند المشهور هو إنشاء كنيسة، لا ترميمها.

وهذه الوصايا وأمثالها لا تعد من الوصايا بالإثم، لإلزامهم على دينهم ومذهبهم.

ولكن فيما لو كان هناك إختلافٌ بين رأي الموصي والوصي في الجانب الفقهي[7] ، بأن كان ما أوصى به الموصي، غير شرعي بالنسبة إلى الوصي، كما لو أوصى بعصير الزبيب إنطلاقاً من جوازه، ولكن الوصي يرى[8] حرمته إلحاقاً بالعصير العنبي، فهل يعمل الوصي برأيه أم برأي الموصي؟

وهذا المسألة ترد في كل أنواع الإنابة والوكالة أيضاً، كما في نيابة الحج واختلاف الفتاوى في جزئيات أعمال الحج، فكيف يعمل النائب والوكيل فيها؟

الذي يبدو لنا أن المكلف عليه أن يعمل بما يراه مكلفاً به شرعاً، فيعمل الوصي والنائب بما يراه واجباً عليه هو، دون ما يراه الموصي أو المنوب عنه كذلك.

أما إذا أصر الموصي بقيام الوصي بالعمل بحسب فتوى مرجع تقليد الموصي، ففي هذه الحالة يفوض إن كان يعتقد الموصي بمخالفة الأمر لما هو مكلّفٌ به شرعاً، فإنه يفوض الأمر إلى غيره، لأن العمل بغير ما يرى فرض الشارع عليه، مشكلٌ، والله العالم.


[1] سوره بقره، آیه182.
[2] قال في: "وصيت در حقوق مدني إيران (فارسي)": لابد أن تكون جهة الوصية مشروعة، وإلا فإن الوصية باطلة لمخالفتها للأخلاق والنظم العامة". [المقرر].
[3] الْجَنَفُ: ميل عن الاستقامة إلى الضّلال، وهو بعكس الحنف حيث أنه ميلٌ عن الضلال إلى الإستقامة، أنظر: مفردات ألفاظ القرآن الكريم: ص260. [المقرر].
[4] قرب الإسناد: ص63.
[5] تهذيب الأحكام: ج9، ص192.
[6] في مجاميعهم الخاصة، لا الجهر به كما لا يخفى. [المقرر].
[7] إجتهاداً أو تقليداً. [المقرر].
[8] إجتهاداً أو تقليداً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo