< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الموصى به 7/ تحديد الوصية بالثلث 6/ إختلاف قيمة الثلث بعد وفاة الموصي- الملك المتجدد للميت

 

قبل بيان مسألة اليوم نبيّن موضوعاً يعتبر مفتاحاً لفهم الكثير من المسائل الفقهية، وهو يرتبط بفهم الحقائق الإعتبارية، حيث أنها تختلف عن الحقائق العينية، في أن مصدرها هو المعتبر كيفما اعتبر، فالدينار -مثلاً- يعدّ عملةً وطنيةً في بلدٍ ما، ما دامت الدولة، وصندوق النقد الدولي يعترفان به، وبمجرد سحب الأعتراف تسقط هذه العملة عن الإعتبار ولا تصلح للتداول الإقتصادي.

ومن هنا، فيجوز في الأمر الإعتباري ما لا يجوز في غيره عقلاً، لأن الإعتبار خفيف المؤونة -كما قيل-، ومن ذلك مالكية الأشياء (الجمادات) للأشياء، كمالكية المسجد للأموال، فهو أمرٌ جائزٌ إعتباراً ولا إشكال فيه، وكذا ما نجده اليوم من تأسيس عملات رقمية تتداول في الأسواق، لا دعامة لها سوى إعتبار المعتبرين.

وفيما نحن فيه، هل يجوز أن يكون ظرف تحقق الإعتبار مختلفاً عن ظرف الإعتبار نفسه، بأن ينشئ المرء إيقاعاً اليوم، ولكن ظرف تحققه متأخرٌ عن ذلك بيومٍ أو سنة، فهل يصح ذلك؟

نقول: في العادة فإن السبب والمسبب يتصلان في الواقعيات، ولكن يجوز الإفتراق في الإعتباريات، لأنها بالمعتبِر، فالوصية التمليكية هي إحسانٌ من شخصٍ إلى آخر بعد موته، ويمكن أن يكون ظرف تحقق الإحسان -بغير الوصية- بعد سنة مثلاً، وبذلك يختلف ظرف العلة (الاعتبار) عن ظرف المعلول ( المعتبر).

إذا عرفت ذلك، فإنه قد يرتفع الإشكال في جملةٍ من المسائل الفقهية الواقعة مورد النقاش، مثل الحديث عن إشتراط الإنجاز والتنجيز في بعض العقود، فإنه يرتفع بعدم قياس الإعتباريات بالقضايا الخارجية.

وفيما نحن فيه، فبإعتبار كون الموت ظرف تحقق الوصية، بعد توافر سائر شروطها، فإن مقدار الثلث الذي للموصي أن يوصي به، يحتسب بعد الوفاة، لا حين الوصية، فلو أوصى بثلث ماله، وكان ذلك الثلث متمثلاً ببيتٍ من بيوته الثلاث، فانهدم بيتان من الثلاث بعدئذٍ، كان ثلثه ثلث البيت المتبقي، لأن الثلث يقدّر من حين الوفاة، وكذا لو كثرت أمواله، فإن قدر الثلث يزداد أيضاً.[1]

أما إذا حدث تغير في تركته بعد الموت وقبل إخراج الثلث، كما لو استولت السلطات على جزءٍ من التركة، فهل يحتسب الثلث قبل الإستيلاء أم بعده؟

هنا يختلف الأمر، بما لو جعل ثلثه في مالٍ معيّن، كوصيته بدارٍ معينة من دوره، وبقيت الدار على حالها، فإنها تنفذ في موردها، ويكون التالف من مال الورثة.

أما إذا أوصى بقدرٍ مشاعٍ، كوصيته بمائة دينار، وكان ذلك يشكل ثلث تركته، فتلف مائتان بعد الموت، ففي هذه الحالة قيل بأن الثلث يشترك في التالف، بعد كونه في التركة على نحو الإشاعة، فكأنه أوصى ثلث كل دينارٍ للموصى له، وقيل بدفع المائة كلها في مصرف الوصية بعد كونه معيناً في الكلي.

مال العلامة الطباطبائي قدس سره، إلى عدم طرو النقص على الثلث، أما صاحب الجواهر قدس سره فقد أشكل في المسألة[2] ، وتأمل المرجع الشيرازي قدس سره في المسألة أيضاً مع ميله إلى القول الأول في النهاية[3] ، حيث يستشهد على ذلك فيما لو تلف جميع المال، فإنه سيكون تالفاً من الجميع لا من خصوص الورثة.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " ربما يحتمل فيما لو أوصى بعين معينة أو بكلي‌ كمائة دينار مثلا أنه إذا أتلف من التركة بعد موت الموصي يرد النقص عليهما أيضا بالنسبة كما في الحصة المشاعة و إن كان الثلث وافيا و ذلك بدعوى أن الوصية بهما ترجع إلى الوصية بمقدار ما يساوي قيمتها فيرجع إلى الوصية بحصة مشاعة (وذكر صاحب الجواهر هذا الإحتمال ولكنه لم يختاره هناك) ، والأقوى عدم ورود النقص عليهما ما دام الثلث وافياً، ‌ورجوعهما إلى الحصة المشاعة في الثلث أو في التركة لا وجه له، (نحن نقول إنه كذلك فيما لو كان الموصى به عيناً معينة، كما أنه لو أن هذا البيت تلف وبقيت سائر الأموال، فإن الوصية تسقط، ولكن لا كذلك إذا كان بكليٍ مشاعٍ ضمن الأموال، فلا وجه لعدم التفصيل) خصوصا في الوصية بالعين المعينة (وهذا ما نقول به)".‌[4]

ولذلك نرى قول المرجع الشيرازي قدس سره بعد بيان رأيه: " وإن كانت المسألة بعد بحاجة إلى التأمل"[5] .

 

مسألة: الملك المتجدد للميت

هل للميت أن يمتلك شيئاً؟

قالوا بإمكان ذلك، لأن الملك إعتبارٌ، وأمره إلى المعتبِر، والعرف يرى ذلك للميت كما يراه للجمادات أيضاً، كما في المساجد أو غيرها من الأبنية، فقوة الإعتبار بالمعتبِر لا بالمعتبر له.

وبناءاً على ملكه تأتي المسألة التالية، حيث قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " إذا حصل للموصي مال بعد الموت‌كما إذا نصب شبكة (في أيام حياته) فوقع فيها صيد بعد موته يخرج منه الوصية، كما يخرج منه الديون، فلو كان أوصى بالثلث أو الربع، أخذ ثلث ذلك المال أيضاً مثلاً، وإذا أوصى بعين و كانت أزيد من الثلث حين الموت و خرجت منه (بكونه أزيد من الثلث) بضم ذلك المال نفذت فيها، وكذا إذا أوصى بكلي كمائة دينار مثلاً بل لو أوصى ثمَّ قتل حسبت ديته من جملة تركته، فيخرج منها الثلث كما يخرج منها ديونه إذا كان القتل خطأ، بل وإن كان عمداً و صالحوا على الدية، للنصوص الخاصة مضافا إلى الاعتبار و هو كونه أحق بعوض نفسه من غيره و كذا إذا أخذ دية جرحه خطأ بل أو عمدا‌"[6] .

والنصوص هي التالية:

     مضمرة مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ لَهُ رَجُلٌ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ مِنْ مَالِهِ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ خَطَأً يَعْنِي الْمُوصِيَ؟ فَقَالَ: "تُجَازُ لِهَذَا الْوَصِيَّةُ مِنْ مَالِهِ وَ مِنْ دِيَتِهِ"[7] .

     عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ قُتِلَ خَطَأً فَإِنَّ ثُلُثَ دِيَتِهِ دَاخِلٌ فِي وَصِيَّتِهِ"[8] .

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ مَقْطُوعَةٍ غَيْرِ مُسَمَّاةٍ مِنْ مَالِهِ ثُلُثاً أَوْ رُبُعاً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُوصِي فَوُدِيَ فَقَضَى فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّهَا تُنْفَذُ مِنْ مَالِهِ وَ مِنْ دِيَتِهِ كَمَا أَوْصَى"[9] .

     أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ قُتِلَ خَطَأً قَالَ ثُلُثُ دِيَتِهِ دَاخِلٌ فِي وَصِيَّتِهِ"[10] .

هذا كله فيما إذا كان القتل خطأً، إما إذا كان عمداً فيتعلق الحق أساسً بالقود، ولكن للولي أن يصالح على الدية، فهل تدخل الدية في وصية الموصي أيضاً، أم هي للورثة، بإعتبار مصالحتهم عليها بدلاً من القصاص؟

الحكم في العمد كما في الخطأ، وذلك لأن أخذهم للدية بدل القصاص حكمٌ شرعي أخذوا به، أما الدية فهي كسائر الديات، وعلى ذلك رواياتٌ خاصة:

     عن بْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ يُقْتَلُ وَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَهَلْ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَهَبُوا دَمَهُ لِقَاتِلِهِ وَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فَقَالَ: "إِنَّ أَصْحَابَ الدَّيْنِ هُمُ الْخُصَمَاءُ لِلْقَاتِلِ فَإِنْ وَهَبَ أَوْلِيَاؤُهُ دَمَهُ لِلْقَاتِلِ ضَمِنُوا الدَّيْنَ لِلْغُرَمَاءِ وَ إِلَّا فَلَا"[11] .

فليس لولي الدم أن يأخذ بالقود -إن إختاره- إلا بعد دفع ديون الميت، لإمكان إمتلاك الميت أموالاً بالدية المفترضة.

     عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام عَنْ رَجُلٍ قُتِلَ وَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا فَأَخَذَ أَهْلُهُ الدِّيَةَ مِنْ قَاتِلِهِ أَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ قُلْتُ وَ هُوَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً قَالَ: "إِنَّمَا أَخَذُوا الدِّيَةَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْضُوا عَنْهُ الدَّيْنَ"[12] .


[1] هذا البحث مفاد المسألة السادسة التي ذكرها العلامة الطباطبائي قدس سره، ولم يتعرض السيد الوالد دام ظله، لها إلا من جهة المقدمية للمسألة السابعة. [المقرر].
[2] قال قدس سره في الجواهر: ج28، ص289: "إنما الإشكال في أن هذا ونحوه هل يرجع إلى الوصية بحصة مشاعة من الثلث حتى أن التالف منه ينقص من الموصى به على حسب النسبة، لأنه كالوصية بربع الثلث مثلاً، أو أنه لا يرجع إلى ذلك بل هو كلي مضمون في الثلث، حتى أنه لو لم يبق منه إلاّ مقدار ما يساوي ذلك نفذت الوصية، فيه وجهان، منشأهما أن الكلي يملك في الخارج، لا على جهة الإشاعة على وجه تشمله عمومات الوصية مثلاً، أو أنه لا يملك إلاّ على جهة الإشاعة إلاّ ما خرج بالدليل كبيع الصاع من الصبرة، بناءً عليه لخبر الأطنان." [المقرر].
[3] قال قدس سره في الفقه، ج61، ص194: " وربما يقال: هذه الثلاثمائة الباقية ثلثها له وثلثاها لهم، فلماذا يكون التلف من مال الوارث فقط، ويؤيده أنه لو ذهب كل المال لم يكن له شيء، فكما إذا ذهب الكل كان الذاهب كل ما لكليهما، كذلك إذا ذهب البعض كان الذاهب بعضاً من هذا وبعضاً من ذاك، كما إذا تلف كل مال الشركة أو بعض مال الشركة، ولا وجه لقياس ذلك بما إذا قال: أعطوا هذه الدار، لأن في الوصية بها إفراز بخلاف ما إذا لم يفرز، ومثل قوله: أعطوا هذه الدار، قوله: أعطوا هذه المائة الخاصة. وعليه فلا فرق في التلف منهما بالنسبة بين أن يقول: أعطوا مائة، أو يقول: أعطوا الثلث، وليس أعطوا مائة مثل أطنان القصب" [المقرر].
[4] العروة الوثقى: ج2، ص894.
[5] الفقه: ج61، ص195.
[6] العروة الوثقى: ج2، ص895.
[7] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص227.
[8] الكافي: ج7، ص11.
[9] وسائل الشيعة: ج19، ص286.
[10] الجعفريات (الأشعثيات): ص121.
[11] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص160.
[12] تهذيب الأحكام: ج6، ص192.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo