< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تحديد الموصى به بالثلث/ 2

 

الوصية تُخرج من ثلث مال الميت، وأما المتعلق بباقي المال، فيعلق الإخراج بإجازة الورثة، وفيما لو أجاز بعضهم دون البعض الآخر، فإنها تمضي من نصيب المجيز دون المانع.

ولا إشكال في هذا التفصيل، لأن العقود وإن بدَت في ظاهرها واحدة، إلا أنها في حقيقتها متجزئة ومتشعبة، فالبيع الواحد يمكن أن يصبح بيوعاتٍ عدة، كما لو باع شخصٌ ما يملك وما لا يملك في صفقةٍ واحدة، فإن البيع يصح فيما يملك ويبطل فيما لا يملك[1] ، وكذا في سائر العقود، فهناك أكثر من سبب قد يؤدي إلى تجزئة العقد الواحد، بلى؛ إن كان قصد الموصي إنفاذ الوصية في جميع المال أو عدم إرادته الوصية، كما لو أوصى بتحويل داره إلى حسينية، ولم يفِ ثلث التركة بذلك فلا يمكن تبعيض الوصية، كما لا يمكن تبعيض العقد إن كان القصد الصفقة في الجميع بوحدةٍ واحدة.

تحديد الوصية بأقل من الثلث

يظهر من بعض الروايات ومن كلمات بعض الفقهاء[2] ، تحديد الوصية في أقل من الثلث، كالخمس، ولكن لماذا لم تحدد النصوص ذلك بصورةٍ قاطعة؟

الإجابة عن ذلك تكمن في إختلاف الناس وظروفهم، فقد تكون الوصية بالثلث مجحفةً بالورثة في حالةٍ دون أخرى، فإن كان الورثة ملئى أو كانت التركة كثيرة، لم يكن في الإيصاء بالثلث إجحافٌ في حقهم، دون ما لو كانوا صغاراً مثلاً واحتاجوا إلى التركة فيكون مجحفاً بحقهم، وعلى هذا الإختلاف تحمل الروايات التي يظهر منها أن الوصية بالثلث كثيرٌ.

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ لَأَنْ أُوصِيَ بِخُمُسِ مَالِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ وَ لَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ وَ مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتَّرِكْ فَقَدْ بَالَغ‌"[3] .

     عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَقَدْ أَضَرَّ بِالْوَرَثَةِ وَ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ وَ الرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَ مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتَّرِكْ"[4] .

     رَوَى السَّكُونِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ علیه السلام قَالَ: "قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْخُمُسِ وَ قَالَ الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ وَ الرُّبُعُ جَهْدٌ وَ الثُّلُثُ حَيْفٌ"[5] .

فالوصية بالخمس عدالة، وبالربع مجهدٌ للورثة، أما الثلث فهو حيفٌ على الورثة، بمعنى أنه خلاف الأفضل.

     عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَ الرُّبُعِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَ شَيْ‌ءٌ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ أَمْ كَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: "الثُّلُثَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي صَنَعَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ"[6] .

وهكذا يمكننا تفسير الإختلاف في الروايات المحدِدة بإختلاف الحالات، كمقدار المال وعدد الورثة وحالهم، وما أشبه، ولعل تعبير الإمام عليه السلام بـ "الإقتصاد" يوحي إلى ذلك.

الوصية مع عدم العلم بوفاء الثلث بها

لو أوصى يقدرٍ معيّن، ولم يدرِ هل تستوفي وصيته الثلث أم لا، كما لو أوصى بإرسال شخصٍ إلى الحج، وهو لا يدري كلفة ذلك، ففي هذه الحالة يُعمل بالوصية ما لم تتجاوز الثلث، فنية الموصي ليست محوراً في التحديد، فقد يكون الأمر بالعكس، كما لو أوصى بشيءٍ ظناً منه أنه جميع ماله، فتبين أنه بقدر الثلث، فإنه وصيته تكون صحيحة، نعم؛ إن كانت نيته محددة بالجميع أو بلا شيء منها، ففي صرف مقدار الثلث منها تأملٌ، كما لو كان يريد بوصيته حرمان الورثة من التركة، فأوصى بما يزعم أنه يستوعب جميع المال، فتبين أنها بقدر ثلث ماله فقط، فهل تصح وصيته هذه أم لا؟

إختلف العلماء في هذه المسألة، ونتسائل عن الضابطة للحكم في المقام!

فمن جهة نقول: إن أية معاملةٍ يرجع فيها إلى قصد الشخص، فإن كانت نيته الوصية بجميع المال أو بلا شيء من المال -إنطلاقاً من خبث سريرته مثلاً- فلا تصح الوصية لأن ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، أو نقول أن حكم الله سبحانه في استثناء الثلثين من الوصية، فيكون قصده في الزائد عن الثلث كلا قصد؟

وكيف كان فإن تصوّر إيصاء شخصٍ يعاين الموت جميع ماله بنية منع الورثة قد يكون صعباً، ولذلك حددوا العمل بالوصية في حدود الثلث، ويرجع الباقي إلى الورثة.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: لا يشترط في نفوذها (الوصية) قصد الموصي، كونها من الثلث الذي جعله الشارع له، فلو أوصى بعينٍ غير ملتفتٍ إلى ثلثه وكانت بقدره أو أقل صحّت. ولو قصد كونها من الأصل أو من ثلثي الورثة وبقاء ثلثه سليماً مع وصيته بالثلث سابقاً أو لاحقاً بطلت مع عدم إجازة الورثة( لأنه لا يحق له غير الثلث، وهو لا يريد بهذه الوصية ثلثه، بل يريد أن يوصي من أموال الورثة، وذلك باطل إن لم يجز الورثة) بل وكذا وإن لم يوص بالثلث أصلاً (بعد قصده مال الورثة في وصيته لا الثلث) لأن الوصية المفروضة مخالف للشرع وإن لم تكن حينئذٍ زائدةٍ عن الثلث"[7] .

وفي مثل هذه المسائل القضائية لابد من الرجوع إلى قصد الفرد، بعد وضوح الحكم شرعاً، من صحة الوصية مع تحقق أركانها.

الوصية بالواجب

لو أوصى بأزيد من الثلث، بل بكل ماله، مع كون الوصية في الواجبات، كدفع الزكوات والحقوق الشرعية أو الوصية بالحج الذي وجب عليه في حياته مع تركه له، فإن الوصية صحيحة وإن استوعبت جميع ماله، من دون الحاجة إلى إجازة الورثة.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " نعم لو كانت في واجب نفذت لأنه يخرج من الأصل إلا مع تصريحه بإخراجه‌ من الثلث"[8] .

والمستند في ذلك جملة نصوصٍ منها:

     عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ مَاتَ وَ تَرَكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ قَالَ: "يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ وَ يُجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الزَّكَاةِ"[9] .

     عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ فَلْيُؤْخَذْ مِنْ ثُلُثِهِ وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ فَمِنْ صُلْبِ مَالِهِ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ"[10] .

     عَنْ عَبَّادِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ حَسَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ فَرَّطَ فِيهِ مِمَّا لَزِمَهُ مِنَ الزَّكَاةِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ أَنْ يُخْرَجَ ذَلِكَ فَيُدْفَعَ إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَالَ فَقَالَ: "جَائِزٌ يُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ شَيْ‌ءٌ حَتَّى يُؤَدَّى مَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ قِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ جَائِزٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ"[11] .

فهناك أكثر من رواية، تدل مضافاً إلى القواعد الشريعة العامة، تقديم الحقوق الشرعية والديون على حق الورثة في التركة.


[1] إلا مع إجازة المالك، فيكون فضولياً فيما لا يملكه، كما يثبت خيار تبعض الصفقة للمشتري مع عدم علمه. [المقرر].
[2] قال المرجع الشيرازي قدس سره، في الفقه: ج61، ص149: " اللازم الوصية بما لا يعد جنفاً عرفاً وبالمعروف، لأنهما ذكرا في النص وهما عرفيان، فقد يكون ذلك كذلك وإن جعل تسعة أعشار للورثة، وقد لا يكون ذلك خلاف المعروف إلاّ إذا جعل الثلث للخير". [المقرر].
[3] الكافي: ج7، ص11.
[4] الكافي: ج7، ص11.
[5] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص185.
[6] الكافي: ج7، ص55.
[7] العروة الوثقى: ج2، ص890.
[8] العروة الوثقى: ج2، ص890-891.
[9] تهذيب الأحكام: ج9، ص170.
[10] تهذيب الأحكام: ج9، ص227.
[11] تهذيب الأحكام: ج9، ص170.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo