الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
41/01/28
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسائل الوصية/ إعتبار القبول في الوصية العهدية
مرّ الحديث عن مدى إعتبار قبول الموصى إليه في الوصايا التمليكية، حيث إعتبر البعض القبول، وإعتبر آخرون عدم الرد، ويعني ذلك مضيّها من دون رد الموصى له، وقلنا في محلّه بإعتبار القبول، على تفصيلٍ سابق.
أما في الوصية العهدية، كما لو أوصى الموصي بأن يقوم شخصٌ بدفنه أو الصلاة عليه، فهل يعتبر القبول فيها أيضاً أم لا؟
من حيث المبدأ إعتبار ذلك، لأن الناس مسلطون على انفسهم، فإيجاب الموصي دون إعتبار قبول الموصى إليه، يعدّ مخالفاً لسلطنته على نفسه، بل يعد مخالفاً لكرامة الإنسان، بيد أن بعض الفقهاء مضى إلى إعتبار القبول في بعض الحالات دون بعضها، حيث ذكروا حالتين -تبعاً للنصوص- لا يشترط فيهما قبول الموصى إليه، أولاهما في وصية الأب لإبنه، والثانية في الوصية إلى الغائب.
غير أن الحكم في الحالة الثانية غامضٌ من حيث المبدأ، وذلك لمخالفتها لقاعدة شرعية فطرية مستحكمة، وهي قاعدة "تسلط الناس على أنفسهم"، ومخالفتها يحتاج إلى دليلٌ قوي، وهو لم يقم في المقام بحسب الظاهر كما سيأتي.
مضافاً إلى أن فقهائنا لم يتعرضوا لهذه المسألة، إلا ما ذكره الشيخ الصدوق قدس سره[1] ، أما الآخرون فلم يتعرضوا لها[2] تفصيلاً.
وقد استدل القائلون بعدم الإشتراط في وصية الأب لإبنه، بأن عدم القبول عقوقٌ للوالد، وهو محرمٌ، وأما في الغائب فلإن ذلك من الواجب الكفائي عليه، إلا إذا كان حاضراً فأمكنه الردّ ليقيم الموصي غيره مقامه.
وأجيب على ذلك بأن لا عقوق في الأول إلا مع تضرر الوالد، إذ طاعة الأب غير واجبة، والمحرم إلحاق الأذى به، فإن كان ردّه يؤدي إلى ذلك حرم.
وأما القول بأنه واجبٌ كفائيٌ عليه، فقد يكون كذلك، غير أنه لا يقتصر على الموصى إليه، لأنه سيكون واجباً معيناً عليه، ثم هناك الحاكم الشرعي الذي يؤدي الواجبات الكفائي مع عدم قيام أحدٍ بها.
وننوه هنا، إلى أن القائلين بالقبول فإن قصارى أدلتهم تفيد بوجوب قبول الموصى إليه، فإذا قبل لزمته، أما إذا لم يقبل وعصى، فهل تصح الوصية عليه شاء أم أبى؟
قيل: نعم، وقيل: لا، فالقبول شرطٌ وقصارى ما في الأدلة -بناءاً عليه- وجوب القبول، وليس ثمة دليل على أنها تلزمه إن لم يقبل بها.
وكيف كان، فقد مال العلامة قدس سره، إلى أن إستحباب القبول مؤكداً، حاملاً النصوص الآتية عليه[3] ، ومع ذلك فإن المسألة تحتاج إلى مزيدٍ من التدقيق بعد صحة الروايات وعمل الأصحاب بها، فإن رفضها لمخالفتها القاعدة مشكلٌ، والقبول بها غير يسير.
نصوص المقامأما الروايات في المقام فهي:
• عَنْ عَلِيِّ بْنِ الرَّيَّانِ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام رَجُلٌ دَعَاهُ وَالِدُهُ إِلَى قَبُولِ وَصِيَّتِهِ هَلْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ وَصِيَّتِهِ؟ فَوَقَّعَ عليه السلام: "لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ"[4] .
وتدل الرواية على أن الوالد مع ولده مطاعٌ، لكون الولد الإمتداد الطبيعي للإنسان، وفي إمتناعهم قبول وصيته حرجٌ عليه.
• عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "إِنْ أَوْصَى رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ وَ هُوَ غَائِبٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَصِيَّتَهُ فَإِنْ أَوْصَى إِلَيْهِ وَ هُوَ بِالْبَلَدِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِلَ وَ إِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ"[5] .
• عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "فِي رَجُلٍ يُوصَى إِلَيْهِ فَقَالَ إِذَا بُعِثَ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ بَلَدٍ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهَا وَ إِنْ كَانَ فِي مِصْرٍ يُوجَدُ فِيهِ غَيْرُهُ فَذَلِكَ إِلَيْهِ"[6] .
وعمم بعض الفقهاء الحكم في كل حالةٍ لم يقدر الموصي على غير الموصى إليه، لوحدة الملاك، وهي عدم قدرة الموصي إليه غيره.
• عن هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي الرَّجُلِ يُوصِي إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ فَيَكْرَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "لَا يَخْذُلْهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ"[7] .
وهذه الرواية مطلقة من جهة غيبة أو حضور الموصى إليه في البلد، والتعبير فيها يدل على الإستحباب أو الإستحباب المؤكد.
• عَنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "فِي الرَّجُلِ يُوصَى إِلَيْهِ قَالَ إِذَا بُعِثَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهَا"[8] .
• عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا علیه السلام عَنْ رَجُلٍ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ وَ أَخَوَيْنِ شَهِدَ الِابْنُ وَصِيَّتَهُ وَ غَابَ الْأَخَوَانِ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَبَيَا أَنْ يَقْبَلَا الْوَصِيَّةَ مَخَافَةَ أَنْ يَتَوَثَّبَ عَلَيْهِمَا ابْنُهُ وَ لَمْ يَقْدِرَا أَنْ يَعْمَلَا بِمَا يَنْبَغِي فَضَمِنَ لَهُمَا ابْنُ عَمٍّ لَهُمَا وَ هُوَ مُطَاعٌ فِيهِمْ أَنْ يَكْفِيَهُمَا ابْنَهُ فَدَخَلَا بِهَذَا الشَّرْطِ فَلَمْ يَكْفِهِمَا ابْنَهُ وَ قَدِ اشْتَرَطَا عَلَيْهِ ابْنَهُ وَ قَالا نَحْنُ نَبْرَأُ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَ نَحْنُ فِي حِلٍّ مِنْ تَرْكِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَ الْخُرُوجِ مِنْهُ أَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُخَلِّيَا عَمَّا فِي أَيْدِيهِمَا وَ يَخْرُجَا مِنْهُ؟ قَالَ :"هُوَ لَازِمٌ لَكَ فَارْفُقْ عَلَى أَيِّ الْوُجُوهِ كَانَ فَإِنَّكَ مَأْجُورٌ لَعَلَّ ذَلِكَ يَحُلُّ بِابْنِهِ"[9] .
بيان العلامة الطباطبائي قدس سرهقال العلامة في العروة: "اشتراط القبول على القول به مختص بالتمليكية كما عرفت فلا يعتبر في العهدية[10] و يختص بما إذا كان لشخص معين أو أشخاص معينين"[11] .