< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/01/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التردد بين القبول والرد

 

قد تقع في الوصية حالة من حالات التردد، فقد يقبل الموصى له بها وقد يرفضها، ومن جهته فإن الموصي قد يوصي بشيءٍ ثم يتراجع عما أوصى، ولأن المسألة من المسائل الإبتلائية، فإن الفقهاء تعرضوا لها ولتفرعاتها بإسهاب، وفي إطار الحديث عن هذه الفروع ربما يتم استجلاء اكثر من قاعدة فقهية ترتبط بالمقام.

وفي هذه المسألة لابد من الحديث أولاً عن طبيعة الوصية، هل هي جائزة أم لازمة، بعد أن ذهبنا إلى كونها من العقود.

ذهب أغلب الفقهاء إلى أنها من العقود الجائزة، فللموصي أن يتراجع عن الوصية مادام حياً، وللموصى له أن يقبل أو يرد ما أوصي له، ومن هنا، فهناك فروعٌ عدة في المقام.

الأول: التراجع عن القبول

هل للموصى له أن يرجع عن قبوله للوصية؟

يجوز للموصى له أن يرد بعد القبول، إن كان ذلك قبل موت الموصي، ولكن هل له ذلك بعد موته؟

ركّز العلامة الطباطبائي قدس سره، على مسألة الملكية في المقام، حيث ذهب إلى الشيء الموصى به، إذا دخل في ملك الموصى له فليس له أن يرده، لأن إخراج الشيء عن الملكية بحاجة إلى دليل، أما إن لم يكن قد دخل في ملكه -كما فيما لو ردّ قبل موت الموصي.

ورأي السيد في المقام حصيفٌ، وعليه قام الإجماع إذ بدخول الشيء في ملك الموصى له، إنتهى العقد بعد تأثيره في إنتقال الملك، نعم للموصى له أن يرجع الموصى به في إطار عقدٍ جديد، كالهبة أو ما أشبه.

الثاني: التراجع عن الرد

هل للموصى له أن يقبل بالموصى به بعد ردّه لها؟

والبحث في هذه المسألة لا يقتصر على هذا الفرق، بل يعمّ كل قبولٍ بعد ردّ الإيجاب، الأمر الذي يستدعي الحديث عن مدة صلاحية الإيجاب، وبتعبير آخر زمان إنتهاء أثر الإيجاب، فإن قال البائع: بعت، ولم يقبل المشتري إلا بعد فترة، فهل يصح هذا البيع أم لا؟

فقد قيل بالبطلان لعدم المحل للقبول.

ونحن نفصّل في المسألة، بعد أن كان الإيجاب والقبول من الإعتبارات العرفية، حيث نلتزم بالعرف إن لم يقم الدليل الشرعي على الرد أو القبول.

وقد لا يرى العرف بقاء الإيجاب وتأثيره فترةً طويلة، كما لو قال بعت، ثم قال المشتري إشتريت بعد شهرٍ أو أكثر، أما إذا كانت الفترة الفاصلة بين الإيجاب والقبول يسيرة، فإن العرف يرى بقاء الإيجاب على حاله.

وفي ما نحن فيه، إن كان إيجاب الموصي باقياً بعد رد الموصى له، صح قبوله اللاحق إن كان الإيجاب قائماً، أما إذا إنتهى مفعول الإيجاب لطول الفترة أو تراجع الموصي أو موته، فلا يصح القبول اللاحق.

الثالث: الرجوع عن القبول أو الرد بعد موت الموصي

إن علم الموصى له بالوصية بعد حياة الموصي، فليس له أن يرجع عن ردّه، لانتفاء الإيجاب، كما ليس له أن يرجع عن قبوله لدخول الشيء الموصى به في ملكه، ولا يخرج منه إلا بدليل.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " رد الموصى له للوصية مبطل لها‌ إذا كان قبل حصول الملكية (وقلنا أه كذلك إن لم يبقَ إيجاب الوصية) - و إذا كان بعد حصولها (بموت الموصي) لا يكون مبطلاً لها، فعلى هذا إذا كان الرد منه بعد الموت و قبل القبول أو بعد القبول الواقع حال حياة الموصي مع كون الرد أيضا كذلك يكون مبطلا لها لعدم حصول الملكية بعد و إذا كان بعد الموت و بعد القبول لا يكون مبطلا سواء كان القبول بعد الموت أيضا أو قبله و سواء كان قبل القبض أو بعده بناء على الأقوى من عدم اشتراط القبض في صحتها لعدم الدليل على اعتباره (القبض) و ذلك لحصول الملكية حينئذ له فلا تزول بالرد و لا دليل على كون الوصية جائزة بعد تماميتها بالنسبة إلى الموصى له (فإذا إنتقلت إليه فهو من باب إنتهاء مفعول العقد، لا أنه لزمه ذلك) كما أنها جائزة بالنسبة إلى الموصي حيث إنه يجوز له الرجوع في وصيته كما سيأتي و ظاهر كلمات العلماء، حيث حكموا ببطلانها بالرد عدم صحة القبول بعده لأنه عندهم مبطل للإيجاب الصادر من الموصي (إلا إذا كان الموصي مصّراً على وصيته كما ذكرنا)، كما أن الأمر كذلك في سائر العقود حيث إن الرد بعد الإيجاب يبطله ، و إن رجع و قبل بلا تأخير، و كما في إجازة الفضولي حيث إنها لا تصح بعد الرد لكن لا يخلو عن إشكال، إذا كان الموصي‌ باقياً على إيجابه بل في سائر العقود أيضا مشكل، إن لم يكن إجماع خصوصا في الفضولي حيث إن مقتضى بعض الأخبار صحتها و لو بعد الرد و دعوى عدم صدق المعاهدة عرفا إذا كان القبول بعد الرد ممنوعة ثمَّ إنهم ذكروا أنه لو كان القبول بعد الرد الواقع حال الحياة صح و هو أيضا مشكل على ما ذكروه من كونه مبطلا للإيجاب إذ لا فرق حينئذ بين ما كان في حال الحياة أو بعد الموت إلا إذا قلنا إن الرد و القبول لا أثر لهما حال الحياة و إن محلهما إنما هو بعد الموت و هو محل منع‌"[1] .

والرواية التي أشار إليها العلامة الطباطبائي قدس سره، هي المروية عن عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام إِنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ بِعَبْدِهِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدِي تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِي فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام لِسَيِّدِهِ: فَرِّقْ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ طَلِّقْ. فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: كَيْفَ قُلْتَ لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ طَلِّقْ. فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام لِلْعَبْدِ: أَمَّا الْآنَ فَإِنْ شِئْتَ فَطَلِّقْ وَ إِنْ شِئْتَ فَأَمْسِكْ. فَقَالَ السَّيِّدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرٌ كَانَ بِيَدِي فَجَعَلْتَهُ بِيَدِ غَيْرِي؟ قَالَ: "ذَلِكَ لِأَنَّكَ حَيْثُ قُلْتَ لَهُ طَلِّقْ أَقْرَرْتَ لَهُ بِالنِّكَاحِ"[2] .


[1] العروة الوثقى: ج2، ص880-881.
[2] مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها: ص278.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo