< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/01/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تعريف الوصية

أول بحثٍ يتطرق له الفقهاء في كل بابٍ من أبواب الفقهية، هو عن المحور فيه، وتعريفه، ومن ذلك حديثهم في الوصية، حيث تطرقوا عن معناها اللغوي والإصطلاحي، فما هي الوصية لغة؟

إختلفوا في جذرها، فقالوا: من وصى يصي، أو وصّى يوصّي، أو أوصى يوصي.

وقبل بيان آرائهم في المقام لابد من التنويه إلى أن الأساس في معنى الوصية في الإشتقاق الكبير الصرفي قريبٌ من الـ(وصل) أي الصلة، ولكن الفرق بين الوصي والوصل كون الثاني أشدّ من الأول، حيث تكون الوصية أقل تركيزاً لأن الوصل إنما هو في الحياة والوصية هي وصلٌ لما قبل الموت بما بعده.

وهذا الفهم هامٌ جداً فيما يرتبط بالإشتقاق الكبير، حيث يقارن الباحث الكلمات المقاربة من اللفظ المبحوث وإن كانت مختلفةً في تركيبها الحرفي، كما هو في مثل كلمتي ( أحمز ) و ( أزحم) حيث يدلان كلاهما على ما فيه مشّقة مع دلالة الأول على الشدة بشكل أكبر من الثاني.

وبعد هذا البيان نقول: أن العلماء قالوا بأنها إما مصدرٌ من ( وصى يوصي) والتي تفيد معنى الوصل، حيث يوصل الإنسان ما قبل موته بما بعدها، وإما أنها إسم مصدرٍ لـ (وصّى يوصي، أو أوصى يوصي) وذلك بمعنى العهد، وما يدل عليه هو تعديته بـ (إلى) حيث يقال: ( فلانٌ وصّى إلى إبنه)، وقال الله سبحانه: ﴿وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‌ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِي﴾‌[1] ،[2] .

اللغة ظاهرةٌ متحركة

ولنا في المقام ملاحظةٌ عن اللغة، حيث نرى أن اللغة ظاهرةٌ متحركة، وبالرغم من كتابة العلماء للقواميس اللغوية، إلا أن ذلك لا يدل على جمود اللغة، فكم هي الألفاظ التي استحدثت في العصر الحديث لتطور الحاجة البشرية إلى وضعها، وكم هي الألفاظ التي تغيّرت مراداتها بتقدم الأزمنة؟ وذلك لأن اللغة تعبيرٌ عما في ضمير الإنسان، وهو متغيّرٌ ومتطور.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا بأس بالبحث عن أصل لفظةٍ معيّنة – كالوصية في المقام- وإعتبارها من الوصل ( وصى يصي) ولكن إذا قمنا بتعديته إلى باب الإفعال أو التفعيل، فإن المعنى يتبدل ضمن حاجة الإنسان، فيصير معناه (العهد)، لا أن يكون معنى الوصية وصل ما بعد الموت بما قبله، لأن الناس يستعملون هذه اللفظة في محاوراتهم العرفية ولا يقصدون منها ما غير العهد، كما لا يلحظون جانب الوصل فيها أصلاً، بل بالتدقيق في إستعمالاتهم نجد أنها لفظةٌ تفيد الترغيب والبعث على عملٍ شيءٍ معيّن، دون أن يلحظ فيها جانب الوفاة.

نعم؛ الغالب لإستعمال اللفظة لدى الفقهاء في كتبهم هو فيما يرتبط بالعهد المخصوص بما بعد الموت.

الوصية بين الشعوب المختلفة

وهذا الباب –أي الوصية- من الأبواب التي وقعت مورد إبتلاءٍ للمجتمعات البشرية جميعاً، حيث يقوم الإنسان عادةً بالإيصاء قبل موته، وكلٌ على طريقته وعادته، كما قال الله سبحانه عن النبيين إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: ﴿وَ وَصَّى بِها إِبْراهيمُ بَنيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‌ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾[3] .

ولا بأس بدراسة الوصية بصورةٍ مقارنة بين المجتمعات البشرية، حيث تجد في بعض القوانين الوضعية أحكاماً تضمن للزوجة حقوقها في الطلاق، بينما لا تقوم بمثل ذلك للأولاد، حيث تبخسهم حقوقهم، وتسمح للأب أن يوصي بكل ما يملك للآخرين وحتى للحيوانات والجمادات، دون أن يصل إلى ولده شيئاً من ماله.

أما الإسلام فيعطي للإنسان الحرية في الوصية ولكن بحدود الثلث، ويأمره فيما بقي بإحترام سائر الورثة لكيلا يتفقروا بعده.

وهكذا نجد أن أحكام الوصية لدى الإسلام –بالمقارنة مع سائر القوانين- أكثر عدالةً وأقرب إلى الحكمة، بينما نجد في غيرها خضوعاً لأهواء القضاة أو عدم مراعاة مصلحة المحيطين بالموصي.

نوعا الوصية

والوصية نوعان: أحداها ترتبط بالمال والأخرى ترتبط بالأعمال، كالتغسيل والتكفين ومكان الدفن وما أشبه من أعمالٍ يعهد بها الوصي إلى غيره –وسيأتي تفصيلها لاحقاً-، فلو قبل الوصي بمثل هذه الوصايا وجب عليه تنفيذها، ومع عدم قبوله لها كانت الوصية مجرد ترغيبٍ وطلبٍ من الوصي.

أما الوصية المالية، فتعم كل التصرفات المالية التي يقدر الإنسان على القيام بها في حياته، ( كالبيع والشراء وفك الملك (تحريره) والهبة وما أشبه) فكلما استطاع الإنسان أن يمارس حقاً من حقوقه المالية في حياته جاز له أن يوصي بها للآخرين، وبعدئذٍ لاحاجة للتفصيل الموجود لدى بعض الفقهاء.

تعريف الوصية لدى العلامة الطباطبائي

قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تعريف الوصية: "كتاب الوصية‌ و هي إما مصدر وصى يصي بمعنى الوصل حيث إن الموصي يصل تصرفه بعد الموت بتصرفه حال الحياة، و إما اسم مصدر بمعنى العهد من وصى يوصي توصية أو أوصى يوصي إيصاءً (واستقرب جمعٌ من الفقهاء في تعليقاتهم هذا المعنى، أي استقربوا الثلاثي المزيد لا المجرد) و هي إما تمليكية أو عهدية (كطلبه لقراءة القرآن على قبره فترةً معينة مثلاً) و بعبارة أخرى إما تمليك عين أو منفعة (بأن يعطى داره للزوار مثلاً فترةً معينة) أو تسليط على حق أو فك ملك أو عهد متعلق بالغير (كما لو كان له على غيره عهداً فيوصي بفكه بعد موته) أو عهد متعلق بنفسه كالوصية بما يتعلق بتجهيزه و تنقسم انقسام الأحكام الخمسة‌".


[2] بالرغم من تردد العلامة الطباطبائي قدس سره في المعنى، إلا أن بعض المتأخرين عنه –كالمرجع الحكيم قدس سره- ذهبوا إلى القول الثاني ( أي العهد) ورفضوا الأول بقوة، بعد التفريق بين معنيي الثلاثي والرباعي بشقيه (المضاعف والمهموز)، قال قدس سره في المستمسك: ج14، ص532: " و الوصية لا تكون إلا بالمعنى الثاني كما هي كذلك في القرآن المجيد، مثل قوله تعالى (وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ) «1» و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ) و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ) و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ) «2»، و غير ذلك، فلم تذكر الوصية إلا بمعنى العهد بقرينة السياق، فهي اسم مصدر للإيصاء أو التوصية، لا مصدر «وصى يصي» فإن مصدره «الوصي» و لم يذكر الوصية مصدراً له في القاموس و الصحاح". [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo