< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/06/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: موت العامل/1

بعد إنتهاء مسائل المضاربة المختلفة ألحق السيد اليزدي عشرين مسألة أخرى كتتمة لتلك المسائل، وربما السبب في إفرادها لأنها بمثابة اللواحق لها، وقبل الشروع في ذكرها لابد أن نتحدث قليلاً عن مراحل تكامل الفقه الإسلامي.

مراحل الفقه

بدأ الفقه في بداية عهد الإسلام ونزول القرآن وحتى عصر الصادقين عليهما السلام عبر إلقاء الأصول، سواء بيان القيم العامة كالقسط والعدالة والصلح والإصلاح، أو عبر بيان الأصول العامة المرتبطة ببعض الأحكام مثل قوله تعالى: ﴿وَ لَهُن‌ مِثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزيزٌ حَكيم‌﴾[1] ، أو قوله سبحانه: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ﴾[2] .

تلا ذلك العصر، عصر الإمامين الباقرين عليهما السلام، حيث توسع الفقه عندنا وعند سائر المذاهب، وذلك لإستقرار هيمنة الإسلام كدين وحضارة على رقعةٍ واسعة من الأرض، حيث إحتاج الناس إلى تفاصيل الأحكام، فتطور الفقه بمزيدٍ من التفصيل حتى عند سائر المذاهب التي تفرع أكثرها من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الأمر الذي لم يكن خافياً حتى عصر إنتشار العصبيات وإخفاء الحقائق.

وكان المعهود هو بيان الأصول أيضاً مع إختلاط شيء من الفروع فيها، كما في الأصول الأربعمائة أو سائر النصوص حيث كان الحديث عن الأصل أولاً والفرع تالياً أو العكس، فكان الإمام عليه السلام يؤكد على الأصول كما في قوله عليه السلام: "إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْ‌ءٍ فَسْأَلُونِي عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّه‌"[3] ، في سبيل لتكامل الأصول بالفروع، وبينوا أنهم يلقون الأصول وعلى الأصحاب أن يستفيدوا منهما ويفرعوا عنها، عبر فض الأصول لترتسم على كل مسائل الحياة التفصيلية.

وبعد فترة وفي فترة إنتقال الحوزة العلمية إلى بغداد وتداخل حوزات المذاهب ببعضها، باتت الحاجة إلى طرح المسائل بطريقة اخرى من خلال بيان المسائل المحتاج إليها أولاً مع بيان أدلتها أحياناً، وربما لم يشيروا إلى الأدلة، وذلك بسبب حاجة الناس إلى المسائل الفرعية من جهة وتراجع الإجتهاد في الأمة من جهة أخرى حيث أغلق بعض المذاهب باب الإجتهاد.

وفي تلك الحقبة صنفت المصنفات الفقهية مثل مؤلفات الشيخ وإبن إدريس والعلامة والمحقق الحليين وفخر المحققين، حيث صنفوا كتباً فقهية مفصلة، ولعل أولهم كان السيد إبن عقيل العماني الذي كتب بما يشبه الرسائل العملية وكانت مورد إعتماد الإمامية لأكثر من قرن، وهي وإن لم تصلنا إلا أن الفقهاء ذكروا مسائل ذلك الكتاب و آرائه في كتبهم.

وفي المرحلة التالية حيث توسعت الأمة وإزدياد الحاجة الحضارية، بدأ العلماء بعمل شروحٍ تفصيلية على الكتب السابقة مثل شرائع الإسلام، حيث يتم فيها بيان أدلة الأحكام وإرجاعها إلى الأصول مع مناقشة الآراء والأقوال، فعلى كتاب الشرائع وحده كتب أكثر من ستين شرحاً وتعليقة، ولعل جوهرتها كان جواهر الكلام، والذي حذى فيه العلامة النجفي حذو السيد العاملي في طريقته لشرح قواعد العلامة في مفتاح الكرامة.

وجواهر الكلام كتابٌ متكامل في أبواب الفقه، ولكن الفقه في الجواهر يبتدأ من الفروع إلى الأصول لا العكس، ولذلك يلاحظ المتتبع كثرة التكرار فيه، ولعله يتم تلخيصه بحذف المكررات.

وحين وصلت النوبة إلى العلامة الأنصاري قدس سره كتب كتابه المكاسب بطريقة ذكر الأصول أولاً، ومن ثم التفريع عليها، ولكن الذي يبدو توقف هذا الجهد بعد الشيخ الأنصاري لقلة من بذل الجهد في إعادة فك وتركيب الفقه من الأصول إلى الفروع، وها نحن ننتظر الجهابذة من العلماء ليعيدوا الفقه إلى ما كان عليه في عصر الإمامين الباقرين عليهما السلام، لما في ذلك من قدرة للهمينة على الفروع المستحدثة خصوصاً مع قلة الإبتلاء ببعض الفروع القديمة.

 

موت العامل

وفي مسألتنا المبحوثة اليوم لو إتضحت المباني الأساسية عند الفقيه ومن ثم رد الفروع المتشابهة إليها إتضحت الفروع أكثر فأكثر، فإذا مات العامل كيف يتم التعامل مع أموال المضاربة؟

لابد أن نتسائل أولاً عن المضاربة، هل هي عقدٌ شخصي بين المالك والعامل، أم المضاربة كأي عقدٍ آخر له إطاره يمكن أن يتوارثه ورثة المتعاقدين؟

يبدو أن المشهور ذهب إلى كونه عقداً بين شخصي المالك والعامل، فبموت أحدهما ينتهي العقد، وهو ما يظهر من كلمات السيد اليزدي قدس سره أيضاً، ولكن سبق وأن قلنا بإمكان أن يصبح العقد موروثاً كما لو تعارف الناس على نوعٍ معين من المضاربة يمكن توارثها، أو تم ذلك بالإشتراط بينهما.

وما نراه اليوم من شركات قابضة هو هذا النوع في الغالب، حيث تتم المضاربة بين الشركة والناس بصفتها الحقوقية لا الحقيقية، فيمكن إختلاف الأجيال مع سريان العقد.

والحقوق منها ما تورّث كما الأموال، لأن لفظة "ما ترك" كما تشمل الأموال تشمل الحقوق المالية أيضاً، كحق التحجير والإجارة وشبهه، لأنه يعد ضمن ما تركه الميت، فكما يستمر حق الإجارة مع ورثة المؤجر كذا يمكن إستمرار المضاربة بين ورثة العامل مع المالك أو العامل مع ورثة المالك، لأن المضاربة يمكن أن تخضع لإرادة الطرفين ما لم يكن هناك مانعٌ شرعي.

أما على فرض بطلان العقد بموت احد الطرفين، فحينئذ تصل النوبة إلى الحديث عن إستحقاقات إنتهاء المضاربة وأولها إسترجاع المالك لأمواله، وهنا صور:

الأولى: قد يكون المال حاضراً متميزاً، كما لو فتح العامل محلاً تجارياً بأموال المضاربة، فمن الطبيعي إسترجاع المالك لأمواله، وإن كان هناك غرماء فهو أحق به منهم لأنه عين ماله.

الثانية: المال موجودٌ ولكنه مختلط بسائر الأموال، فقد إختلفت كلمة الفقهاء في هذه الصورة، ولتوضيح ذلك لابد من التمهيد:

 

الأموال بأعيانها أم ماليتها؟

ما نجده في ظلال كلمات الفقهاء وبعض تصريحاتهم بأن أهمية المال في أعيانه، بينما نجد العرف على خلاف ذلك، حيث يعتبر عندهم القيمة المالية، ويختلف ذلك في النتيجة، كما في درهمي الودعي، الذي حكم به الإمام بما يتفق مع كون الإعتبار للقيمة لا العين، لأنه حكم بضرب كلٍ في المفقود بنسبة ماله، وبناءاً على ذلك فإذا إختلطت أموال المالك في أموال العامل فلا تصل النوبة إلى القرعة، بل يضرب مع سائر الورثة بإعتبار عدم تشخص المالية بالأعيان.

وكذا إذا كانت الأموال نقوداً فإنه يضرب مع سائر الورثة في قدر ماله.

قال السيد قدس سره: "الأولى إذا كان عنده مال المضاربة فمات ‌فإن عُلم بعينه فلا إشكال (لأنه يسترجعه) وإلا فإن علم بوجوده في التركة الموجودة من غير تعيين فكذلك (وهو مورد إشكال البعض لعدم التشخص، أي ثوب من الأثواب، مع وجوده في الأموال) ويكون المالك شريكا مع الورثة بالنسبة".

وقال البعض بالقرعة كالمرجع الحكيم الذي إستشكل على العلامة بقوله: "و يظهر من الجميع أن الإشتباه في المقام يقتضي الاشتراك حتى مع عدم الامتزاج، و هو غير ظاهر، بل يشكل حتى مع العلم بالامتزاج في المثليات، مثل وضع ثوب في أثواب، فإنه لا يوجب الاشتراك إذا عرف بعينه، وكذا إذا اشتبه بغيره، فإنه لا دليل على هذا الاشتراك"[4] .

ونحن نقول أن دليل الاشتراك هو العرف، مضافاً إلى ما يستفاد من رواية درهمي الودعي بإعتبار المالية لا العينية مضافاً إلى رواية السكوني عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه كان يقول فيمن يموت و عنده مال مضاربة: "إن سماه بعينه قبل موته، فقال: هذا لفلان، فهو له، و إن مات و لم يذكر فهو أسوة الغرماء"[5] .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo