< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الحكومة في الإسلام / أحكام الطرق / كتاب نزاعات الملك

 

لمحة عن الحكم الإسلامي

في بحث المنازعات الملكية أو تبادل المنافع والحقوق في المدن والقرى لابد أن نتحدث شيئاً عن الحكم الإسلامي، وفي هذا الإطار هناك ثلاثة أمور ينبغي الإلتفات إليها:

الأول: ليس الدين فرضاً على الناس وإنما هو قناعة وإيمان، فالإنبياء جاءوا ليرفعوا مستوى الناس إلى مرتبة الإيمان ومن ثم يطيع الناس أنبيائهم بعد تقوى الله سبحانه، فكانت دعوتهم عليهم السلام: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطيعُون‌﴾[1] ، ولم نجد نبياً بعث ومعه الحراب والسيوف ويقاتل معه الملائكة ليرغموا الناس على الإيمان به والإعتراف برسالته، إنما جاءوا بالبينات والبراهين، نعم ما شهدوه من حروب ومعارك كانت دفاعاً عن النفس ضد المعتدين من الكفار، قال الله سبحانه في سياق قصة جالوت: ﴿وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمين‌[2] ، والمدافعة كانت بعد الإعتداء من قبل الآخرين برد إعتدائهم.

ومن هنا نحن ندعوا الناس إلى أن يختاروا إماماً يتحلى بالصفات الشرعية ويطيعوه بإرادتهم، بالرغم من وجود بعض الحالات التي يفرض فيها الإمام طاعته.

أما النظام الإسلامي فيكون بعد وجود البيعة للرسول أو الوصي، فالنبي صلى الله عليه وآله أمر بالبيعة لعلي عليه السلام ليس كسلطة سياسية حاكمة وإنما كنبي ورسول إلهي، فأطاعوه وبايعوا وصيه عليه السلام، وكذلك كانت بيعة الشجرة بمحض إرادة المسلمين لا إكراههم أو رغمهم على ذلك.

الثاني:

بمناسبة كلمة الحكم لغةً والتي تعني القضاء نعرف أن الحكم يعني تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، فأساس الحكم الإسلامي هو تنظيم العلاقات بين أبناء المجتمع، سواء كان ذلك بعد المنازعة (كما في أحكام الصلح) أو قبلها كوقاية من دخول الناس في الصراع (كما في أغلب أحكام العقود والإيقاعات).

ومن هنا فإن المساحة التي يشغلها الحكم الإسلامي هي المساحات التي تنظم العلاقات، أما في الأمور التي لا يحتاج المجتمع فيها إلى تنظيم فلا يتدخل الحكم الإسلامي وذلك مثل شؤون الناس وحرياتهم البالغة أربعة وعشرين حريةً مثل حرية الإقامة وحرية المسكن وحرية التعبير وغيرها، فلا يتدخل الدين فيما لم يكن هناك حاجة إليه، ومثال ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وآله من أمر المحتكر ببيع الطعام دون أن يفرض عليه سعراً محدداً.

الثالث:

إن مساحة تدخل الحكومة في الشؤون المختلفة تختلف بإختلاف الظروف، فتنحسر في بعض الظروف وتتمدد في بعضها بحسب الحاجة، ويحددها – في الظروف المختلفة – جهتان:

الأولى: القائد العادل، كما لو ارتأى التدخل في الأمر لتنظيمه ولولا ذلك لأدى إلى الفساد.

الثانية: هم الناس، حيث يطلبون من القائد التدخل في الشأن الفلاني، مثل الصراع الحاصل تاريخياً حول موضوع مخلوقية القرآن عن عدمه، حيث تحول الصراع من سجال فكري إلى صراع إجتماعي اكتسح المساجد والأسواق والنوادي، فعلى الحاكم حينئذ التدخل في الشأن سواء بمبادرةٍ منه أو بعد طلب الناس منه، قال الله سبحانه:﴿ وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَليلا[3] .

 

أحكام الطرق

بعد بيان هذه النقاط الثلاث نعود إلى حديثنا حول أحكام الطرق والنزاعات فيها، وقد أكثر الفقهاء في هذا المجال من ذكر المسائل الفرعية حول الطريق وسبل التعامل معها، فقسموا الطريق إلى نوعين:

الأول: الطريق النافذ.

الثاني: الطريق المرفوع (غير النافذ).

وفي الأول قالوا بعدم جواز إحداث شيء يؤدي إلى الإضرار بالمارة والطريق كفتح الرواشن أو حفر سرداب تحته أو إحداث زرعٍ أو بالوعة أو كنيف، أما الثاني (أي الطريق المرفوع) فذهبوا إلى جواز إحداث أهله (البيوت المستفيدة منه) ما يشاؤون فيه لكونه عائداً لهم.

وفي هذا المجال نتسائل عن أمر الطرق، هل هي ملك المسلمين أم المشرفين عليه أم أن أمرها إلى الحاكم؟

نرى أن أمرها إلى الحاكم، لأن الطرق – حتى المرفوع منها – ينظر فيها الحاكم للمصلحة العامة بأن يكون بلا عوائق تمنع من وصول الإمداد في حالات الطوارئ على سبيل المثال، ولو أحدث أهل الطريق المرفوع ما يشاؤون لمنع من ذلك، هذا مضافاً إلى أن الطريق ليس ملكاً لهم فالطرق للناس جميعاً والدولة الشرعية تعمل بإسمهم وبالنيابة عنهم، ولا فرق في ذلك بين المرفوع والنافذ، فلا يجوز لأهل الطريق أن يقرروا ما يشاؤون فيه، نعم؛ قد يقال: لو كان الطريق ملكاً خاصاً – كما لو شق أحدٌ طريقاً في ملكه- ربما قيل برجوع أمرها إلى مالكها ولكن حتى في الطرق المملوكة إذا ارتأت الدولة لمصلحة الناس أو المالكين أو أمنهم أو غيره أن تقوم بمنع شيءٍ لتنظيم شؤونه كان لها ذلك، ومن كانت عليه مسؤولية فله الصلاحية فـ"من عليه الغرم فله الغنم"، فمادامت هي مسؤولة عن هذه الأمور فلا يمكن منع الدولة من التصرف بها.

 

مسؤولية منع المعتدي والإصلاح

إذا قام أحدٌ بمخالفةٍ في الطريق بما يعارض مصلحة الآخرين من سكنة الطريق، فعلى من تقع مسؤولية رفع التخلف ومجازاة الممخالف؟

قال بعضٌ – مثل المحقق في الشرائع – المسؤولية على عاتق الجميع، فالناس يجبروه على رفع ما أحدثه بإعتباره طريقهم وقد اعتدى عليه وبالتالي إعتدى على حقهم.

وأجيب على ذلك بأن هذا الأمر يؤدي إلى الفوضى والهرج، بلى؛ إذا أذن الحاكم لهم بذلك وبالمجازاة فلهم ذلك وإلا فلا.

ولا يقصد برفع المخالفة ومعاقبة المخالف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوصية بالخير، لأنها واجبة على الجميع، بل المراد منه العمل مباشرة ومن دون إذن الحاكم.

 

مرجعية أحكام المقام

ذكرنا سابقاً أن أكثر ما يعتمده الفقهاء في مسائل الباب هو عنوان (الضرر) فينفون كل ما يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، ولا أدري لماذا التشبث بالضرر دون غيره من العناوين، إذ قد لا يكون هناك ضررٌ في بعض الحالات على المسلمين ولكنه تجاوزٌ على حقوقهم، فالحق وإحترامه أعم من الضرر أو عدمه، وفي الحديث الشريف: "لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ"[4] .

فسلب المسلم قشةً أو إبرةً لا يضره ولكنه محرمٌ لأنه حقه، فإعتماد الضرر دون الإعتماد على الحقوق التي سبق وأن قلنا أنها تابعة للعرف، لا يبدو صحيحاً.

فما لم يكن فيه تعدي على الحقوق أو إضرار بالمسلمين جاز فعله فيما يرتبط بالطرق.

 

الحقوق المتبادلة

وفي هذا المجال ترد مسألة الحقوق المتبادلة فيما يرتبط بالعمران مع عدم وجود تخطيط للبلديات، فالبلديات لها محددات واضحة لعدد الأدوار في البنايات وعرض الشوارع المختلفة وغيرها، وتكون البلديات منتخبة من أهل البلد عادةً فهي نتيجة مبدأ الشورى.

ولكن فيما لم تكن هناك بلدية أو لم يكن لها نظام واضح فهل يجوز القيام ببناء عمارة عالية تمنع الشمس والضوء والهواء عن الجار؟

نقول: إن لم تكن هناك قوانين منظمة لعلاقة الجيران والمناطق، فالمناط هو عنوان الضرر، بمعنى أنه إذا رفع من الطوابق بما أدى إلى الإضرار بالجار فلا يجوز ذلك.

وقد يقال إن المنع من البناء لرفع الضرر على الجار إضرارٌ بصاحب الدار، وقد عالجنا هذه الإشكالية في كتابنا (الفقه الإسلامي الأصول العامة) أن لا ضرر يشمل جميع المسلمين، وينبغي في مثل هذه الحالات أن نعمل بالعدل لمنع تضرر الطرفين، كما لو يقوم صاحب البناء بإيجاد فسحة للضوء أو التقليل من الأدوار أو غير ذلك.

وهذا ما نقصده من تحديد حرية الناس بما لا يضر بحرية الآخرين وحقوقهم، وفيما يرتبط بالجار فإما أن يكون هناك قوانين محددة أو محكمة – ولو عرفية – تقوم بإجراء العدالة في أمثال هذه المسألة.

فإذاً رأينا في الطرق أنها مبدئياً مرتبطة بالدولة ولا يجوز لأحد أن يحدث فيها بما يتعارض مع مصالح الآخرين إلا برضاهم، وحتى بالنسبة للبنيان أو ما يرتبط بأمن البنايات القديمة الآيلة للسقوط، حيث لا يحق لأصحاب الشاحنات الثقيلة أن يمر عليها إن كان مرورها يسبب ضرراً.

وفيما يلي بعض النصوص:

عن أبي عبد الله عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطِيلُ بُنْيَانَهُ فَيَمْنَعُ جَارَهُ الشَّمْسَ قَالَ: "ذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ وَيَرْفَعُ جِدَارُهُ مَا أَحَبَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْظَرٌ يَنْظُرُ مِنْهُ إِلَيْهِمْ"[5] .

فقوله عليه السلام "ليس هذا من الضرر الذي يمنع منه" يدل على المنع حال وجود الضرر، ويبدو أن رفع البنيان حينذاك لم يكن بالمقدار الفاحش الذي تشهده المدن اليوم، أما إذا كان بالمقدار الذي يسبب ضرر كما في البنايات المرتفعة جدا ًفلا يجوز للتعليل المذكور.

وعنه عليه السلام: "لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ كُوَّةً فِي جِدَارِهِ يَنْظُرُ مِنْهَا إِلَى شَيْ‌ءٍ مِنْ دَاخِلِ دَارِ جَارِهِ فَإِنْ فَتَحَ لِلضِّيَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَى مِنْهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ"[6] .

وهذه الرواية هي الأخرى تدل على عدم جواز الإضرار بالجار، وجواز فتح الكوّة إن جعلها مرتفعة لكيلا يتسلط على جاره، وبالتالي فهذه الروايات في مجال تنظيم الحقوق المتعارضة، والله العالم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo