< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: العدل في النزاعات / كتاب الصلح

 

"و لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما و ادعى الآخر أحدهما كان لمدعيهما درهم و نصف و للآخر ما بقي"[1] .

 

لأن الصلح قد شرّع أساساً لحالات المنازعة والمجاذبة فهو يرتبط بالحقوق المتبادلة بين الناس، ومن هنا تعرض فقهائنا لبعض المسائل المرتبطة بالحقوق في هذا السياق، ولابد من التمهيد بمقدمتين قبل التعرض لها:

المقدمة الأولى: الحق نظام الخليقة

ربنا سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق وأجل مسمى، والحق جوهر الخليقة، من وافقه فاز ومن عارضه أبتلي بمجموعة من الردود السلبية دنياً وآخرة. والحق يسمى حقاً إذا ارتبط بعلاقة الناس ببعضهم البعض، لأنه يعني اعطاء حق الناس، والمتأمل في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام يمكنه أن يستوحي حكمة الحقوق وتسميتها بالعدل إن كان أداءاها متوازناً، قال ربنا سبحانه: ﴿وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[2] ، ولعلنا نستطيع أن نستفيد من هذه الكلمة أن أقرب شيء للتقوى هو العدل لأن حذف المتعلق يفيد العموم.

حينما نقول حق الآخرين، فمعنى ذلك أنه إذا التبست علينا الأمور ولم يكن هناك حكماً شرعياً فلابد من الأخذ بقاعدة العدل، ومن المؤسف قول بعضهم بعدم أصالة هذه القاعدة ولا أدري هل هناك أصلٌ في الشريعة المقدسة وبالذات عند اتباع المذهب الحق أهم من العدل وقد جعلناه من أصول الدين لا فروعه، وتؤكد عليه الآيات الشريفة، بل ومجمل الأحكام الشرعية تدلنا على العدل، ويعني العدل إعطاء كل ذي حق حقه.

فما دامت الشريعة ترسم لنا طريقاً للوصول إلى العدل ومن ثم إلى الحق ومن ثم إلى جوهر الخليقة فإذا لم تكن هناك آية أو رواية في مسألة من المسائل اتجهنا إلى هذه الحكمة البالغة التي هي حكمة الحق والعدل، وقد نسميها بالقسط والإقساط الذي يعني إعطاء نصيب الناس وهو حقهم.

المقدمة الثانية: إعتبارية النقود

ليس للنقود ـ سواء كانت معدنية أو ورقية أو حتى صكوك ـ قيمة ذاتية، إنما قيمتها أمرٌ إعتباري، إذ يمكن لنقدٍ معين أن يكون له قيمة اعتبارية اليوم فتسقط غداً ويكون حاله حال الأوراق الأخرى، ويعني ذلك أن قيمتها تتبع قوتها الشرائية وفائدتها في العالم، وبتعبيرٍ آخر فالنقد يمثل عمل الإنسان ويقابل جهده وإعتبار قيمته.

ومن هنا فإن الأصل عند الفقهاء فيما لو اعتدى شخصٌ على مال شخصٍ أو صارت يده يد ضامنة بسبب من الأسباب واستحق الآخر عليه شيئاً فالمثل مقدمٌ في الأداء على القمية، لأنه اقرب إلى الشيء من قيمته، ولكن يبدو أن ذلك ليس مطرداً عند العرف، فكثير من الناس يفضلون القيمة ويعتبرونها أقرب إلى التالف من المثل، كما لو أتلف الثلج في الصيف وأراد دركه في الشتاء، فالقيمة هي المقدمة.

ولذلك ليس المثلي أصلاً دائماً بل لابد من دراسة طبيعة حاجة الناس والبحث عن الأقرب إلى الشيء المضمون.

وفي ضمن هذين المقدمتين – أصل العدالة والقيمة الإعتبارية للنقود- هناك مسائل نذكرها تباعاً:

 

الأولى: قال المحقق قدس سره: "و لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما و ادعى الآخر أحدهما كان لمدعيهما درهم و نصف و للآخر ما بقي"[3] .

والسبب هو أن أحدهما يدعي درهماً واحداً فيبقى درهمٌ ليس له سوى مدعٍ واحد، أما الدرهم الثاني فدعويان قامتا عليه، فيتم المناصفة في الدرهم الثاني ويعطى الدرهم الأول لمدعيه.

وهذا هو مر الحق، وخلاف هذا التقسيم يؤدي إلى الظلم، سواء أعطينا الدرهمين لأحدهما وبقي الأخر بلا درهم، أو أعطينا كلاً منهما درهماً فيكون أحدهما أخذ ما أدعاه والثاني نصف ما أدعاه، وفي المقام روايات:

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلَيْنِ كَانَ مَعَهُمَا دِرْهَمَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا الدِّرْهَمَانِ لِي وَ قَالَ الْآخَرُ هُمَا بَيْنِي وَ بَيْنَكَ فَقَالَ: "أَمَّا الَّذِي قَالَ هُمَا بَيْنِي وَ بَيْنَكَ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ لَيْسَ لَهُ وَ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ وَ يُقْسَمُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا"[4] .

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا دِرْهَمَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا الدِّرْهَمَانِ لِيَ وَ قَالَ الْآخَرُ هُمَا بَيْنِي وَ بَيْنَكَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "قَدْ أَقَرَّ أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْ‌ءٌ وَ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ وَ أَمَّا الْآخَرُ فَبَيْنَهُمَا"[5] .

الثانية: وهي مشابهة للمسألة السابقة وتسمى بمسألة (درهمي الودعي) فيما إذا أودع شخصً درهمين عند شخص وأودعه آخر درهماً وامتزج الجميع ثم تلف درهمٌ، ففي هذه المسألة أيضاً يعطى لأحدهما درهماً ونصف (وهو صاحب الدرهمين) ويعطى للآخر نصف درهم، وهذه تعبر أيضاً عن قاعدة العدل، وفيها رواية:

السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا دِينَارَيْنِ وَ اسْتَوْدَعَهُ آخَرُ دِينَاراً فَضَاعَ دِينَارٌ مِنْهُمَا فَقَالَ: "يُعْطَى صَاحِبُ الدِّينَارَيْنِ دِينَاراً وَ يَقْتَسِمَانِ الدِّينَارَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ"[6] .

هنا يبنغي أن نتوقف عند ملاحظة وهي أننا لا ندرى وجه تعبير المحقق الحلي عن الاختلاط بالإمتزاج لأن الإمتزاج يكون لما لا يتميز رغم كونه من أروع الفقهاء أدباً ودقة، ولكن ذلك لا يهمنا كثيراً لأن الدراهم ليست هي المقصودة بعينها، وإنما الضمان الذي ضمنه، فنحن نرى أن لا قيمة ذاتية للنقود بل القيمة الإعتبارية.

 

الثالثة: لو حصل الخلاف في ثوبين مختلفين في القيمة اختلطا، ففي هذه الحالة نطبق قاعدة العدل مرة أخرى، قال المحقق قدس سره: "و لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما و لآخر ثوب بثلاثين درهما ثم اشتبها فإن خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه و إن تعاسرا بيعا و قسم ثمنها بينهما فأعطى صاحب العشرين سهمين من خمسة و للآخر ثلاثة"[7] .

 

الرابعة: لو اختلف شخصان لكل منهما أرغفة خبز قاما باستضافة ثالث فأعطاهما ما يقابل جميع الأرغفة، ففي هذه الحالة أيضاً لابد من إجراء قاعدة العدل ولكن لا يتيسر ذلك لوجود إلتفاتة في هذه المسألة، والتي بينها أمير المؤمنين عليه السلام كما يروي ذلك الإمام الباقر أو الصادق عليهما السلام:

أَبُو أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَبِي جَعْفَرٍ عليهما السلام قَالَ: اجْتَمَعَ رَجُلَانِ يَتَغَدَّيَانِ مَعَ أَحَدٍ ثَلَاثَةُ أَرْغِفَةٍ وَ مَعَ وَاحِدٍ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ قَالَ فَمَرَّ بِهِمَا رَجُلٌ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا فَقَالا وَ عَلَيْكَ السَّلَامُ الْغَدَاءَ رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَالَ فَقَعَدَ وَ أَكَلَ مَعَهُمَا فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ فَطَرَحَ إِلَيْهِمَا ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ هَذِهِ عِوَضٌ لَكُمَا بِمَا أَكَلْتُ مِنْ طَعَامِكُمَا قَالَ فَتَنَازَعَا بِهَا فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ النِّصْفُ لِي وَ النِّصْفُ لَكَ وَ قَالَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ لِي خَمْسَةٌ بِقَدْرِ خَمْسَتِي وَ لَكَ ثَلَاثَةٌ بِقَدْرِ ثَلَاثَتِكَ فَأَبَيَا وَ تَنَازَعَا حَتَّى ارْتَفَعَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَاقْتَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي أَنْتُمَا فِيهِ دَنِيٌّ وَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَرْفَعَا فِيهِ إِلَى حَكَمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ عليه السلام إِلَى صَاحِبِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ أَرَى أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكَ أَنْ يُعْطِيَكَ ثَلَاثَةً وَ خُبْزَةً أَكْثَرَ مِنْ خُبْزِكَ فَارْضَ بِهِ فَقَالَ لَا وَ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَرْضَى إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ قَالَ فَإِنَّمَا لَكَ فِي مُرِّ الْحَقِّ دِرْهَمٌ فَخُذْ دِرْهَماً وَ أَعْطِهِ سَبْعَةً فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَرَضَ عَلَيَّ ثَلَاثَةً فَأَبَيْتُ وَ آخُذُ وَاحِداً قَالَ عَرَضَ ثَلَاثَةً لِلصُّلْحِ فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَرْضَى إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ وَ إِنَّمَا لَكَ بِمُرِّ الْحَقِّ دِرْهَمٌ قَالَ فَأَوْقِفْنِي عَلَى هَذَا قَالَ أَ لَيْسَ تَعْلَمُ أَنَّ ثَلَاثَتَكَ تِسْعَةُ أَثْلَاثٍ قَالَ بَلَى قَالَ أَ وَ لَيْسَ تَعْلَمُ أَنَّ خَمْسَتَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُلُثاً قَالَ بَلَى‌ قَالَ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَ عِشْرُونَ ثُلُثاً أَكَلْتَ أَنْتَ ثَمَانِيَةً وَ أَكَلَ الضَّيْفُ ثَمَانِيَةً وَ أَكَلَ هُوَ ثَمَانِيَةً فَبَقِيَ مِنْ تِسْعَتِكَ وَاحِدٌ أَكَلَهُ الضَّيْفُ وَ بَقِيَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَبْعَةٌ أَكَلَهَا الضَّيْفُ فَلَهُ بِسَبْعَتِهِ سَبْعَةٌ وَ لَكَ بِوَاحِدِكَ الَّذِي أَكَلَهُ الضَّيْفُ وَاحِد"[8] .

لا يقال أن هذه المسألة مشابهة لمسألة الدرهم الودعي، فلابد من إجراء النسبة في تلك المسألة أيضاً كما في هذه الرواية، لأنه يقال بأن التقسيم في تلك المسألة لأجل التداعي في القضاء فأحد الدرهمين لا خلاف فيه، والخلاف في الدرهم الثاني الذي يعطى فيه لكل منهما النصف – كما دلّ على ذلك قول الإمام الصادق عليه السلام: "قَدْ أَقَرَّ أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْ‌ءٌ وَ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ وَ أَمَّا الْآخَرُ فَبَيْنَهُمَا"[9] .

بينما الأمر في قضاء أمير المؤمنين يختلف إذ ليس في الأمر إدعاء، بل هو أمرٌ متحققٌ واقعاً.

وكيف كان فما يستفاد من هذه الرواية هو وجوب تحكيم العقل وتحكيم الآيات والروايات الدالة على محورية الحق والعدل في الشريعة الإسلامية، وقد يكون تحقيق العدل بصور مغايرة لما في النصوص إذا إختلفت المعطيات، فلو فرض – في المسألة الأولى – زيادة قيمة الدرهم عن الدراهم المعتادة كما لو كان بغلياً أو عثماني، فلا نطبق القاعدة نفسها، بل لابد من إجراء العدل، مضافا إلى ضرورة تطبيق أحكام النزاع إن حصل كاليد والبينة وغيرهما من المسائل القضائية، فالأحاديث واردة في حالة عدم وجود بينة لأحد الطرفين أو يد دالة على الملك.

فالمستفاد من الأحاديث هو ضرورة الأخذ بالعدل، فلو كان هناك اثنا عشر درهماً وتنازع شخصان فادعى احدهما جميع الدراهم وأدعى الثاني درهمين، يعطى لأحدهما عشرة دراهم – لخلوها من مدعٍ غيره – ويتقاسمان الباقي.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo