< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: العقود بين المقاصد والألفاظ

 

بمناسبة الحديث عن أن الصلح عقدٌ بذاته وليس تابعاً لسائر العقود يبدو أن الحديث عن حقيقة العقود مناسباً، فهل العقود تابعةٌ للمقاصد الحقيقية لها أم المباني اللفظية المبنية عليها؟

فالبيع ـ مثلاً ـ عقدٌ لتبادل المال في مقابل مال أو نقل ملكية شيء في مقابل شيء، بينما الإجارة عقدٌ للمنافع، فإذا أجرى شخصٌ عقد البيع في مكان الإجارة أو العكس، كما لو قال له بعتك منافع الدار لسنتين فهل يقع ذلك بيعاً لوجود لفظ البيع أم إجارة لكون المعنى ذلك؟

وكذا لو قال أؤجر لك البيت مائة عام – وهو يعلم أنه لن يدوم سوى خمسين – فهل هو بيعٌ للعلم بعدم بقاء العين أم نلتزم بمقتضى اللفظ؟

فهل المباني اللفظية في كل ما سبق هو المحور أم المعاني القصدية؟

أتصور أن الشرع المقدس جعل الألفاظ قناطر للمعاني، والمعاني هي الأساس ومن هنا استوحى فقهائنا من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته قاعدة أن (العقود تابعة للقصود) كقوله صلى الله عليه وآله: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى‌"[1] ، فالأساس هي النية والمحتوى وربنا سبحانه يقول: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في‌ أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمان‌[2] ، فالأساس ما عقد عليه القلب لا مجرد اللغو.

 

مقامي الثبوت والإثبات

وفي هذا المجال لابد من التفريق بين مقامي الثبوت والإثبات، فالفاظ العقود وضعت لمقام الإثبات، أما مرحلة الثبوت فعلى ما أجرى عليه الطرفان قصدهما، فربما تلفظ بلفظٍ يقصد غيره كما لو كان غير عالم باللغة فأطلق البيع وقصد الإجارة فالمتجه هو الثاني.

ولكن فيما إذا كان هناك عرف يقتضي بيع المنفعة وهو بيعٌ عندهم وله خصائص البيع لقصدٍ عرفيٍ ما ويفرقون بينه وبين الإيجار، فهو بيع لوجود قصد خاص لذلك كما لو كان من أجل التحايل على بعض القوانين كالتي تمنع الأجنبي من التملك في بلدٍ غير وطنه، فيؤجر داراً لمدة طويلة تستوعب حقيقة البيع.

فمن المهم التفريق بين روح العقد ومظهره، وبعبارة أخرى التفريق بين مرحلتي الثبوت والإثبات.

الفرق بين الصلح وسائر العقود

وهذه النقطة تدفعنا إلى التفريق بين الصلح وسائر العقود، فقالوا أن الفرق في أن هذا صلح وذلك بيع، هذا صلح وذلك إجارة وهكذا، إلا أننا نعتقد بوجود فوارق أساسية بين عقد الصلح وسائر العقود وإن أفاد فائدتها، فللصلح ميزات، فقد يكون لقطع التجاذب – كما قال المحقق – أو من أجل أن لا يكون هناك تجاذب أو يكون الهدف من الصلح هو الصلة بتجاوز الروتين، فالغاية منه الصلة والإحسان، كما قد يتصور تواصل شخصٍ مع آخر بصورتين إحداهما لحاجةٍ وأخرى مجردة عن وجود حاجة بل لمجرد الصلة والثاني يختلف عن الأول في مختلف الجوانب، وهكذا يختلف الصلح عن سائر العقود المفيد فائدتها، فالعقد أمرٌ قانوني له ضوابطه، بينما الثاني مجرد صلة وتعارف.

فالفرق بينهما حقيقي لا ظاهري، وليس الإختلاف في اللفظ – كما قيل – بل الإختلاف في حقيقة المعاملة وغايتها، فالعقلاء يفرّقون بينهما وإلا لما استخدم الصلح وإنما البيع والإجارة وهكذا.

 

الصلح والواقع

ثم هل يغير الصلح الواقع أم أنه يغير الحالة الظاهرية فقط، كما لو ماطل المديون ولم يؤد حق الدائن حتى اضطر الدائن إلى التنازل عن نصف حقه ليستوفي منه بعض دينه، فتصالحا على ذلك، فهل ذلك يبرء ذمته ويسقط الحق واقعاً؟

نقول: لا، إنه يسقط الحق بمقدار ما يؤدي أما الباقي فيؤخذ منه يوم القيامة، فمجرد قول صاحب الحق صالحتك لا يفيد برائة الذمة دون طيبة نفس حقيقية، كما فيمن أكل اموال اليتامى ومنعه عنهم حتى هلكوا ثم اضطر وارثهم إلى المصالحة من أجل استحصال شيءٍ من حقهم دون إبراءٍ حقيقي فالأمر مشكل.

نعم؛ لو رضي بطبيبة نفسه على إسقاط نصف الحق فالأمر يختلف، كما لو أحتاج الدائن إلى مقدار من المال فصالح المديون على أن يبرءه عن الزائد إن أعطاه الآن بعضه.

 

الصلح مع الإقرار والإنكار

الصلح عقدٌ قائمٌ بذاته في مقابل العقود – كما مرّ - وله حقيقته الخاصة بعيداً عن الأشكال والروتين الموجود في سائر العقود، ويجب أن يكون بطيبة نفس، ولذلك قالت الإمامية أن الصلح يصح مع الإقرار والإنكار بخلاف من جعله مع الإنكار[3] وحده ومن جعله بالعكس أي مع الإقرار[4] دون الإنكار.

فالصورة الأولى – مع الإنكار – فيما لو طالب شخصٌ ماله من آخر فأنكر أن يكون له عليه حق، وادعى صاحب الحق بأنه يملك البينة والدليل، ولكيلا يجر المنكر إلى المحكمة يصالح صاحب الحق بشيءٍ منه.

والصورة الثانية يقر المديون بإشتغال ذمته بالحق ولكنه يمتنع أن يدفع له، وصاحب الحق لا يريد رفع أمره إلى القضاء فيقوما بالمصالحة على بعض الحق، شريطة أن يكون بطيبة نفسه.

وهناك روايات نستفيد منها في هذا المجال:

عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَنَّهُمَا قَالا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَأْتِيهِ غَرِيمُهُ فَيَقُولُ انْقُدْنِي مِنَ الَّذِي لِي كَذَا وَ كَذَا وَ أَضَعَ لَكَ بَقِيَّتَهُ أَوْ يَقُولُ انْقُدْ لِي بَعْضاً وَ أُمِدَّ لَكَ فِي الْأَجَلِ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْكَ قَالَ: "لَا أَرَى بِهِ بَأْساً مَا لَمْ يَزْدَدْ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ شَيْئاً يَقُولُ اللَّهُ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ"[5] .

عَنْ فَضَالَةَ عَنْ أَبَانٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَقُولُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ عَجِّلْ لِيَ النِّصْفَ مِنْ حَقِّي عَلَى أَنْ أَضَعَ عَنْكَ النِّصْفَ أَ يَحِلُّ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ عليه السلام: "نَعَمْ".[6]

رواية الدعائم عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ إِلَى أَجَلٍ فَيَأْتِي غَرِيمَهُ فَيَقُولُ عَجِّلْ لِي كَذَا وَ كَذَا وَ أَضَعَ عَنْكَ بَقِيَّتَهُ أَوْ أَمُدَّ لَكَ فِي الْأَجَلِ قَالَ: "لَابَأْسَ بِهِ إِنْ هُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ "[7] .

     فِي دُرَرِ اللآَّلِي، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله: أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَ قَدْ تَقَاضَى غَرِيماً لَهُ: "تْرُكِ الشَّطْرَ وَ أَتْبِعْهُ بِبَقِيَّتِهِ فَخُذْه‌"[8] ، وكأنه صلى الله عليه وآله أمره بالصلح.

وهذه الروايات تدل على جواز الصلح عموماً ولكن لا يعني ذلك عدم اعتبار رضا صاحب الحق، بل رضاه وطيبة نفسه شرطٌ في صحة الصلح، وفي ذلك بعض الروايات مثل قول الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَطَلَهُ حَتَّى مَاتَ ثُمَّ صَالَحَ وَرَثَتَهُ عَلَى شَيْ‌ءٍ فَالَّذِي أَخَذَ الْوَرَثَةُ لَهُمْ وَمَا بَقِيَ فَلِلْمَيِّتِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَ إِنْ هُوَ لَمْ يُصَالِحْهُمْ عَلَى شَيْ‌ءٍ حَتَّى مَاتَ وَ لَمْ يُقْضَ عَنْهُ فَهُوَ كُلُّهُ لِلْمَيِّتِ يَأْخُذُهُ بِهِ"[9] .

فتحصل أن الصلح لا يغير الواقع، وإنما وضع لأجل تنظيم العلاقات الإجتماعية، ويجب على الإنسان أن يبرء ذمته بينه وبين الله سبحانه من حقوق الآخرين، وفي رواية أخرى عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام: رَجُلٌ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَاتَ أَ لِي أَنْ أُصَالِحَ وَرَثَتَهُ وَ لَا أُعْلِمَهُمْ كَمْ كَانَ قَالَ: "لَا يَجُوزُ حَتَّى تُخْبِرَهُمْ"[10] .

وهذا الحديث يظهر عظمة الإسلام في رعايته للحق، سواء كان حق المسلم أو الكافر، فهو دينٌ ينهى كتابه عن بخس الناس جميعاً أشيائهم، وقد أفتى بعض فقهائنا بوجوب رد المسلم الذي آمنه الكفار فسرقهم في بلدهم، حتى لو كان ذلك حال الحرب، لأنهم أعطوه الأمان.


[3] وهو قول الحنفية.
[4] وهو قول الشافعية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo