< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مشروعية الصلح وتعريفه / كتاب الصلح

 

سبق وأن بينّا أن الصلح المبحوث في هذا الباب ليس الصلح الذي هو قيمة سامية في الخليقة وليس كذلك الصلح الضروري بين الطوائف، بل هو المرتبط بالعقد بين الطرفين والهدف منه إما يكون قطع النزاع القائم أو المستقبلي وإما يكون الهدف منه أمراً ثالثاً وهو التعاقد على ما في محتوى بعض العقود دون الإلتزام بحدودها جميعاً، كما لو أراد الأب بيع دارٍ لولده فسوف لا يشددان في تبيين الحدود والجهات فيصطلحان على ما يفيد نقل الملكية دون الخوض في عقد البيع، وكذا ما لو أراد القريبان تأجير محل أو أي عمل يؤدي مؤدى معاملةٍ ما، فيتصالحان، باستثناء بعض العقود الخاصة التي لا يقع الصلح محلها كالنكاح.

وكيف كان فالصلح يغلّب فيه الجانب الإحساني على الجانب المعاملي الدقي، وحسبما يبدو فقد غفل الكثير من الفقهاء عن هذا الهدف في الصلح، ولذلك اشترطوا في عقد الصلح أن يقطع النزاع السابق أو اللاحق وإلا كان عقداً من العقود، بل هناك – كما قلنا – جهة أخرى وهي جهة عدم الإهتمام بقواعد العقود الأخرى لعدم كون المتعاقدين في وارد الإهتمام بالحدود القائمة في العقود المشرعة لتنظيم العلاقة بين الناس، فيتصالحان.

فلا يقال لا فرق بين الصلح والعقد الشبيه حينئذ لأنا نقول أن هناك أهدافاً معينة أخرى لمثل هذا الصلح.

 

مشروعية الصلح

ذكرنا سابقاً أن المعاملات قضايا عرفية ما لم يرد في حرمتها نصٌ شرعي، وما كان منها ثابتٌ لدى العرف وكان مشمولاً بعمومات الصحة كآية الوفاء والتجارة عن تراض أو ما أشبه مثل "الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِم"[1] لو أخذت بعمومها الدال على ضرورة الوفاء بالمعاملات الغير محرمة، أقول؛ ما كان منها كذلك فهو مشروعٌ واجب الوفاء به.

وبناءاً عليه فلسنا بحاجة إلى دليلٍ آخر للإستدلال به على شرعية عقد الصلح، ولكن رغم ذلك هناك نصوص شرعية دلت صراحةً أو إشارةً على عقد الصلح، منها الآيات التي أوردناها سابقاً في موارد حل النزاعات الأسرية التي ورد في ذيلها حكماً عاماً بقوله تعالى: ﴿وَ الصُّلْحُ خَيْر[2] إذ المورد لا يخصص كما هو متفقٌ عليه بين الفقهاء، ومنها الروايات الصحيحة التي نورد بعضها:

عن إبن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ"[3] .

والرواية بعمومها تدل على الأنواع المختلفة من الصلح، كإصلاح ذات البين أو عقد الصلح أو حتى الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلين التي ورد الحديث عنها في سورة الحجرات، والتي حكم فيها الرب بفض القتال عبر الصلح والذي يلزم الغض عن بعض الأحكام الدقيقة، بمعنى أن الصلح يسقط الملاحقة والمطالبة بالحقوق السابقة، كما نرى ذلك في صلح الإمام الحسن عليه السلام الذي اشترط على خصمه عدم ملاحقة أصحاب أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، كما أن الدية تسقط بالصلح وهكذا غيرها من الأحكام، وذلك لأن الصلح أعلى قيمة من سائر الأحكام، والصلح بين المسلمين بل بين الناس مهمٌ جداً، ولذلك يقول الله سبحانه: ﴿وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم‌﴾[4] .

وهذه الرواية مشابهة للحديث النبوي:

"واعْلَمْ أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحاً حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً".[5]

وكأي معاملة أخرى لابد أن يكون الصلح خاضعاً للأحكام الشرعية الأولية، فالصلح على الخمر أو على الدفاع عن الكفار في مقابل المؤمنين لا يجوز لتحليله الحرام.

الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: "فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الشَّيْ‌ءُ فَيُصَالِحُ فَقَالَ إِذَا كَانَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ"[6] .

وذلك لأن أساس الصلح يقتضي التنازل عن بعض الحق بطيبة النفس، فقد يكون الصلح – كما بينا- ينطلق من حالة الإحسان الأعلى مرتبةً من العدل في سلم القيم، فالعدل قائم على الحدود الدقيقة، بينما الإحسان يتجاوزها ليعطي ويتنازل عن حقه.

عن عبد الرحمن بن الحجاج وداود بن فرقد جميعاً عن أبي عبد الله عليه السلام قالا: سَأَلْنَاهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَالُ لِأَيْتَامٍ فَلَا يُعْطِيهِمْ حَتَّى يَهْلِكُوا فَيَأْتِيهِ وَارِثُهُمْ وَ وَكِيلُهُمْ فَيُصَالِحُهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بَعْضاً وَ يَدَعَ بَعْضاً وَ يُبْرِئَهُ مِمَّا كَانَ أَ يَبْرَأُ مِنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"[7] .

يبرء ما دام صاحب الحق يتنازل عن حقه ويبرءه عما في ذمته، وهذا الأمر يجرنا إلى ما اختلف فيه الفقهاء من أن أحد المتصالحين لو علم ببقاء حق الآخر في ذمته بعد الصلح، هل تبرء ذمته أم لا؟ فقال بعضٌ بعدم البراءة للعلم بالإشتغال والمفروض عدم علم صاحب الحق ببقاء الحق، بينما قال آخرون أن معنى الصلح ومؤداه هو التجاوز عن الحق والتنازل عنه.

ونحن نفصّل بين ما لو كان ذلك بعلمٍ من صاحب الحق فتنازل عن حقه بالصلح بطيبة نفس فيبرء وبينما لو كان جاهلاً فتبقى الذمة مشتغلة.

 

تعريف الصلح

عرّف المحقق الحلي قدس سره الصلح بقوله: [الصلح و هو عقد شرع لقطع التجاذب] ويعني ذلك العدم عند عدم التجاذب، مما جعل صاحب الجواهر يعتبره حكمة للحكم لا علةً يدور مدارها، فيصح وإن لم يكن لقطع التجاذب السابق أو اللاحق[8] ، بل قد يكون لسببٍ آخر وهو الإحسان كما ذكرنا.

ومن هنا لم يقل الأكثر بدوران الحكم مدار قطع التجاذب لإطلاق الأدلة كقوله سبحانه ﴿وَ الصُّلْحُ خَيْر[9] أو قوله عليه السلام: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ"[10] ، ونصوص أخرى في مسائل فرعية دلت على عدم إعتبار وجود حالة التجاذب.

قال المحقق قدس سره: [و ليس فرعا على غيره و لو أفاد فائدته][11] .

فالصلح وإن أفاد فائدة البيع أو الإجارة أو العارية إلا أنه لا يكون بيعاً أو إجارةً أو عارية، فهو عنوانٌ خاص مستقل يفيد فوائد تلك العقود ولا تشمله الأحكام والضوابط الثابتة في سائر العقود كالنهي عن بيع الغرر المبطل للبيع الغرري، لا يشمل الصلح لأن الصلح قد يكون أساسه غررياً فيتنازل الطرفان عن بعض حقهما.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo