< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الحوالة على العين/كتاب الحوالة

 

"إذا كان له عند وكيله أو أمينه مال معين خارجي فأحال دائنه عليه ليدفع إليه بما عنده ‌فقبل المحتال و المحال عليه وجب عليه الدفع إليه"[1]

 

إن كان لشخصٍ عين مال عند آخر فأحال ثالثٍ بأخذه، فهل هذه الإحالة هي حوالة أم وكالة أم شيء آخر؟

قال السيد قدس سره: "إذا كان له عند وكيله أو أمينه (كالمصرف او صندوق الودائع) مال معين خارجي (وليس مالاً في الذمة) فأحال دائنه عليه ليدفع إليه بما عنده (كما لو كان عنده طن من الحنطة فأحال دائنه بالطن عليه) ‌فقبل المحتال و المحال عليه وجب عليه الدفع إليه"[2] .

وبديهيٌ أن قبول المحال عليه يعني تحمل مسؤولية كلمته فلابد أن يدفع، أما إن لم يقبل فليس عليه ذلك لأنه – كما سبق وأن بينا – أن من عليه الحق، يؤدي الحق بما يراه هو أو بما يراه العرف لا بما يراه الدائن، كما لو طالب الدائن مدينه بأن يعطيه حقه في مكانٍ أو زمانٍ أو كيفية معينة، فلا يلزم ذلك المديون إن لم يكن بينهما إتفاقٌ مسبق، ويشابهه في ذلك المكلف بالعبادة كالصلاة حيث يعود إليه خيار كيفية الإداء ومكانه وزمانه (في داخل الوقت).

أما إذا قبل فيجب عليه الدفع لأنه نوع من الإستيفاء، وكأنه بقبوله وقبول المحال صار الجاري بينهم نوع من العقد وأن لم يكن من الحوالة المعروفة، ولكن ذهب بعضٌ[3] إلى عدم وجوب الدفع، لإمكان دفعه إلى المالك أو المؤتمن (المحيل)، وقبوله سيكون عهداً لا يجب الوفاء به.

وبعد أن أوجب السيد قدس سره الوفاء بالعقد الآنف، قال: "و إن لم يكن من الحوالة المصطلحة"[4] .

وما المانع في أن تكون من الحوالة بعد أن توفرت فيها أركان الحوالة وهم (المحيل والمحال والمحال عليه)؟

ربما المانع هو كون الحوالة المعروفة هي ما تكون حوالةً على الذمة، بينما الإحالة في مقامنا لا تكون كذلك بل على العين الخارجية.

والحق أن نرجع في المقام إلى رأي العرف، فإن اعتبرها حوالةً اعتبرناها كذلك وإلا فلا، ومنع السيد قدس سره عجيبٌ هنا بعد أن قال - في باب الضمان - بصحة الضمان على العين خلافاً للمشهور، والضمان والحوالة من بابٍ واحد.

وكيف كان، إن اعتبرنا الإيجاب والقبولين من الحوالة فتم العقد ولزم الوفاء به، أما إن لم نعتبره حوالةً وإنما اعتبرناها وكالة بأن وكّل المحيل المحال بأخذ المال فالأمر مختلف لأن أحكام الوكالة تختلف، فذمة الوكيل لا تبرء بقبول الوكيل، كما أن الوكالة تبطل بالموت دون الحوالة، فلا يجوز للوكيل أن يأخذ عن موكله الميت دون المحال، لأن الذمة إنتقلت بإتمام العقد من المحيل إلى المحال عليه.

كما أنه لا يجب على الطرف الآخر – إن لم تكن حوالةً – أن يستجيب حتى وإن قبِل بالأمر في البدء، كما لو طرأ له أمر أو اختار أن يسلم المال للمالك، أما إذا كانت حوالة فلا يجوز له بعد القبول التراجع.

أما إذا قبل الأمين بدفع المال إلى (المحال / الوكيل)، ثم رفض أن يعطيه المال بعد أن جاء إليه فعلى من ستكون مؤونة المحال بعد أن يرجع إلى المحيل بدينه؟

قالوا المحال عليه هو الذي يتحمل الخسارة لأنه قد غرّ المحال عليه بقبوله السابق، والمغرور يرجع على من غره، قال السيد قدس سره: "و إذا لم يدفع له الرجوع على المحيل لبقاء شغل ذمته و لو لم يتمكن من الاستيفاء منه (بعد قبول المحال عليه) ضمن الوكيل المحال عليه إذا كانت الخسارة الواردة عليه مستندا إليه للغرور"[5] .

وهنا إختلافٌ بين المعلقين في كون فعل المحال عليه تغريراً أو لا، فلم يعتبر بعضهم[6] ذلك تغريراً، والحق أن هذه القضية هي من القضايا الخارجية، والحكم فيها تابع للواقع الخارجي لا للفتوى، فلو شخّص العرف أو المحكمة أنه غرور ولحق المحال الضرر بذلك، كان له أن يرجع عليه للغرر، وإلا فلا يكون غرراً.

 

الحوالات الحديثة

ذكرنا في بدء البحث أن الحوالة تشعبت إلى شعب كثيرة تبعاً لتشعب حاجة المجتمعات، ولذلك ذكر بعض الفقهاء المتقدمين مصاديقاً للحوالة لم يذكرها الفقهاء المتأخرون وربما اقتصر من اقتصر على الأنماط السائدة في محيطهم وظروفهم،وقد ارتأينا أن نبحث في هذا المجال بحثاً في مسائل الحوالات الجديدة لعل الله ينفعنا بها، مضافاً إلى أن ذلك يؤدي إلى بلورة الرؤية في أصل الحوالة.

 

مرجعية العرف

وقبل الشروع في هذا المجال ولإرتباط الكثير من الحوالات على العرف كان لزاماً أن نتحدث عن العرف لمرجعيته في هذه المسائل: فما هو العرف وما المراد من قول الله سبحانه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلين‌﴾[7] وكذا قوله سبحانه: ﴿قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا[8] ؟

والشارع يرد الأحكام في كثير من النصوص إلى العرف، فما هو العرف؟

هناك ثلاثة أعراف:

الأول: العرف الشرعي، فالمعروف هو ما يعتبره الشرع معروفاً كما أن المنكر ما يراه الشارع منكراً، فقد اعتبر الشارع البيع معروفاً في مقابل الربا حيث قال الله سبحانه: ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا[9] .

الثاني: عرف العقلاء وسيرتهم وهو المستدل به كثيراً في الأحكام، وعرف العقلاء وسيرتهم حجة إن كان كاشفاً عن حكم العقل كما هو حال حجية الإجماع إن كان كاشفاً عن رأي المعصوم، فأعراف الناس مختلفة والكاشف منها حكم العقل هو المعتمد.

الثالث: العرف الذي تعارف عليه الناس، أي ما بنى الناس حياتهم عليه، لماذا نقول أن ذلك عرفٌ وهل هو حجة؟

أما عن الأول، فكلمة العرف من المعرفة، والمعرفة لا تعني مجرد العلم، فالعلم شيء والمعرفة شيءٌ آخر، إذ هي العلم المؤيد بقبول الإنسان، وهو ما نسميه بالإعتراف، فقول الله سبحانه: ﴿وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا[10] يقصد من التعارف إعتراف الناس بعضهم ببعض وأداء الحقوق المتبادلة، لا مجرد معرفة الآخر بصورة مجردة كما هو حال الجغرافيا البشرية.

وكذا ما نجده في النصوص الشريعة من إعتبار المعرفة شرطاً لحصول الأجر، كما في الحديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ ع عَارِفاً بِحَقِّهِ‌ فِي غَيْرِ يَوْمِ عِيدٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَ عِشْرِينَ عُمْرَةً مَبْرُورَاتٍ مَقْبُولَاتٍ وَ عِشْرِينَ حَجَّةً وَ عُمْرَةً مَعَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ إِمَامٍ عَدْل‌.."[11] ، وغيرها من الروايات الكثيرة التي تؤكد على عرفان الحق الذي يعني الإعتراف به والقبول بأنه إمام مفترض الطاعة، دون الإكتفاء بمعرفة إسمه ونسبه وتاريخ مولده وشهادته، فالمعرفة النافعة هي القبول كما أجاب الإمام الصادق عليه السلام بذلك على سؤال حمزة بن حمران الذي سأله قائلاً: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا عِرْفَانُ حَقِّهِ قَالَ: "يَعْلَمُ أَنَّهُ إِمَامٌ‌ مُفْتَرَضُ‌ الطَّاعَةِ غَرِيبٌ شَهِيد"[12] .

فالعرف إذاً؛ هو ما يراه الناس ويقبلونه ولا يرفضونه.

 

حجية العرف

أما عن حجية العرف ومنشأها فهي من جهة التعاقد والتعاهد والميثاق، فكما يتعاهد مجموعة صغيرة رامية لسفرٍ ما على مجموعة من الأمور و يجب عليهم الوفاء، كذلك هو ما يقوم به الناس فيما بينهم، فالنظم الإجتماعية تالية للقوانين الشرعية الواجبة التطبيق في المرتبة، وعليهم أن يلتزموا بها فيما بينهم لتعاهدهم عليها.

ويبدو أن تعبير العقد الذي استخدمه بعض علماء الاجتماع مثل روسو خطأ، لأن ما هو سائد بين أبناء المجتمع هو من العهد لا العقد.

فحجية العرف تأتي من العهد، فإن تعاهد الناس على شيء كان معمولاً به كما هو في باب العقود فالعرف يرى ما يدخل في المبيع وما لا يدخل.

ويختلف العرف بإختلاف حاجات الناس في الأعصار المختلفة والأمصار المتباعدة، كل ذلك إن لم يكن هناك نص شرعي خاص، وفي حال وجود النص الشرعي يكون هو المتبع، وهذه النقطة من النقاط الفارقة بين رؤية الشرع للعرف ونظرة الغربيين له، لأنهم ينفون وجود شرعٍ ودورٍ له، بينما نحن نرى أن الأصل هي النصوص الشرعية.

وفي باب الحوالة – كما في سائر أبواب العقود – يتضح دور العرف بشكل أكبر، لأنه بعد قبولنا للأحكام الشرعية الأصلية منها والفرعية تبقى مساحات أتاحها الشارع للناس في تعاملاتهم، فيرجعون إلى ما اتفقوا عليها فيما بينهم وكما قال الله سبحانه: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم‌﴾[13] ، وكذلك ما نراه في سائر الأدلة العامة في العقود.

ويذهب أكثر فقهائنا المتأخرين والمعاصرين إلى صحة كل عقدٍ عرفي لم ينهَ عنه الشارع ووجوب الوفاء به بإعتبار التراضي القائم بينهم، وذلك بالرغم من مخالفة الشيخ صاحب الجواهر قدس سره لذلك وتشكيكه في الأمر في إطار الحديث عن الحوالة، بحجة عدم علمنا بقبول الشارع للعقد العرفي الجديد أم لا، وأصالة عدم وجوب الوفاء إلا ما دل دليل خاص على وجوب الوفاء به، والعقود العرفية الحديثة التي لا تؤطر بإطارٍ شرعي هي كذلك، والله العالم.

 


[6] كالنائيني والخوئي قدس سرهما، أنظر: العروة الوثقى(المحشى)، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص477.. [ المقرر]

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo