< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة الخلاف في كون المعاملة حوالة أو وكالة/ كتاب الحوالة

 

"لو اختلفا في أن الواقع منهما كانت حوالة أو وكالة فمع عدم البينة يقدم قول منكر الحوالة‌ سواء كان هو المحيل أو المحتال و سواء كان ذلك قبل القبض من المحال عليه أو بعده و ذلك لأصالة بقاء اشتغال ذمة المحيل للمحتال و بقاء اشتغال ذمة المحال عليه للمحيل و أصالة عدم ملكية المال المحال به للمحتال"

 

هناك مسألة اعتراها بعض التعقيد عند الفقهاء وهي من المسائل القضائية إلا أن ذكرها في باب الحوالة كان لموضوع الحوالة فيها، وقبل أن نفصّل الحديث عنها نقدم عنها بتمهيد:

الحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه واله حيث قال: "إِنَّمَا أَقْضِي‌ بَيْنَكُمْ‌ بِالْبَيِّنَاتِ وَ الْأَيْمَانِ وَ بَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"[1] ، يدل على قضية مهمة في باب القضاء وهو إحتمالية كون أحد المترافعين أفصح لساناً من الآخر وأقدر على تصوير القضية للقاضي، ومن هنا يطرأ التساؤل التالي:

القضاء بين الواقع والظاهر

هل تغيير مظهر القضية يغيّر في حكما، أي هل يحكم القاضي بصور القضايا أم بواقعها، ومثاله ما لو دخل متخاصمان أحدهما أدعّى أنه يطلب الآخر مائة دينار وصدقه الثاني بينما أدعى أداؤه للدين والأول ينكر الأداء، ففي هذه الحالة يكون القول قول الأول، ولو دخل الإثنان ذاتهما وأدعى الأول الدين على الثاني بينما أنكر الثاني الدين من الأساس فالقول قول الثاني.

فالحالة واحدة والقاضي يحكم في الأولى للأول وللثاني في الثانية، لأن الأول أقرّ على نفسه الدين بقوله (أديت الدين) بينما ينكر الثاني أصل الدين، فكلاهما ينكر إشتغال الذمة، غاية الأمر أن إنكار الأول في صورة إقرار تبعه إنكار.

فهل يقضي القاضي في كل المسائل الخلافية على هذا النحو؟

وهنا خلافٌ في وظيفة القاضي في هذه الحالة، فقال بعضٌ من الفقهاء أن الأساس هو طريقة صياغة الدعوى ولا علاقة لنا بما وراء الكلام من أمور، وهذا ما نشهده اليوم من رعاية ضوابط القضية والإلتفات إلى الشكليات، وربما قام بعض المحامين بتحويل حقيقة الدعوى وقلب المدعي منكراً والمنكر مدعياً عبر تغيير صيغة الدعاوى.

وفي المقابل قال بعض الفقهاء أن هدف القضاء هو إحقاق الحق وإقامة العدل والقسط، قال الله سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط[2] وهذا الأمر يتحقق بتوفير الحرية للقاضي وبسط يده في القضاء، فيكون هو الذي يصوغ الدعوى حقيقةً لا المدعي.

وشخصياً أرى في باب القضاء بوجوب حكم القاضي بما أراه الله سبحانه من الحق، قال الله سبحانه: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّه[3] ، ولتحقيق هدف القضاء هناك هامش من الحرية للقاضي، بل إن القضاء الإسلامي – في ظننا - يعتمد كثيراً على القاضي، كما يلاحظ ذلك الباحث في النصوص الشرعية، فنصف روايات كتاب الوسائل في باب القضاء عن شخص القاضي والنصف الآخر عن سائر أحكام القضاء.

وفي القانون الحديث تعتمد المدرسة الأوروبية على الشكلية والصورية، بينما المدرسة الأمريكية هي مدرسة واقعية في القضاء (فيتركون القاضي حراً ليحكم بما يراه وربما حكم بخلاف النصوص حتى).

 

المعاملة بين الحوالة والوكالة

لو قال أحدهم لدائنه: إذهب إلى فلان وخذ منه المال، فاختلفا فيما بعد هل كان ذلك على نحو الحوالة أم الوكالة، فالأمر يختلف هنا:

     فإما أن يكون الأول تلفظ بلفظ الحوالة كما لو قال له (حولتك على فلان) أو يستعمل لفظ الوكالة في المقام فاللفظ هو الحاكم.

     وإما أن التعبير غير واضح، كما لو قال له أحلتك على فلان، فهو دال على الأمرين.

ذهب السيد صاحب العروة قدس سره – والذي يبدو أن رأيه في هذه القضية هو الرأي الواقعي لا الصوري - إلى أن الحوالة أحكامها أكثر من الوكالة، فالوكالة مجرد يد قابضة بينما الحوالة تحويل ذمة إلى ذمة وفيها مجموعة أحكام إضافية على الوكالة، فالأصل عدم وجود تلك الأحكام الإضافية على الوكالة، وبتعبير آخر: الوكالة والحوالة يشتركان في إذن أخذ المال، بينما للحوالة أحكام إضافية ونحن ننفي الأحكام الإضافية بالأصل، فالأصل عدم الحوالة.

وذهب بعض من علّق على العروة [4] أن هذا يكون من باب التداعي، فأحدهما يدعي كونها حوالة والآخر يدعي أنها وكالة، وبذلك نجري أحكام التداعي فنقسم القضية إلى دعوتين ولكلٍ منهما سياقها الخاص، ويبدو أن هذا الرأي نابع من القول بأن القضاء يعتمد على صورة الدعوى دون ما ورائها من إختلاف، فبإعتبار صورة دعوىً كانت إدعاء الحوالة والأخرى إدعاء الوكالة، ولا شأن للقاضي في بيان الجامع المشترك بين الحوالة والوكالة وإجراء أصالة عدم الزيادة.

قال السيد اليزدي قدس سره: "لو اختلفا في أن الواقع منهما (أي المتحقق في الخارج) كانت حوالة أو وكالة فمع عدم البينة يقدم قول منكر الحوالة‌ سواء كان هو المحيل أو المحتال (لأن المنتفع قد يختلف بإختلاف الظروف والدعواى) و سواء كان ذلك قبل القبض من المحال عليه أو بعده و ذلك لأصالة بقاء اشتغال ذمة المحيل للمحتال و بقاء اشتغال ذمة المحال عليه للمحيل و أصالة عدم ملكية المال المحال به للمحتال"[5] .

أجرى السيد قدس سره كل الأصول التي نعتمدها في عدم الحوالة ومقتضياتها، منها بقاء اشتغال ذمة المحيل، لماذا؟ لأنها إن كانت حوالة صحيحة لكانت تنتقل الذمة إلى المحال عليه والأصل عدم ذلك، والأصل بقاء إشتغال ذمة المحيل للمحتال وبقاء اشتغال ذمة المحال عليه للمحيل و عدم تملك المحال المال المقبوض من المحال عليه، لأن الوكيل لا يملك ما قبضه فيده مجرد يد أمينة.

فإذا قلنا بأن صورة الدعوى مهمة فهنا نجري التداعي، وإن قلنا أن المحتوى هو المهم فكلام السيد اليزدي قدس سره صحيح، فأحدهما يدعي الوكالة بينما يدعي الآخر مجموعة أحكام إضافية (بالحوالة).

ثم هل هناك فرقٌ بين ما لو كان قبل القبض أو بعده؟

لا يفرّق السيد بين الصورتين، وقال بعضهم أن قابض المال صار صاحب يد، ولابد من تقديم قوله لليد، سواء أدعى الحوالة أو الوكالة، فقد يدعي الحوالة – كما هي العادة – وقد يكون العكس.

يجيب السيد قدس سره عن ذلك بأن اليد حجة فيما لم تكن مسبوقةً بشيء آخر، أما إن كانت مسبوقة بحالة سابقة نرجع إلى تلك الحالة، كما لو أعطى زيدٌ كتاباً لعمرو على نحو الأمانة فأدعى عمرو أن الكتاب هبة، فلا يقدم قوله بإعتباره صاحب يد، لأنه يذعن بوجود يد سابقة وبذلك نرجع إليها، ولولا ذلك لابد من تأسيس فقه جديد لأن المستعار والمدين والمؤجر و.. كلهم يصبحوا أصحاب يد ولابد من تصديقهم وإن اعترفوا بوجود سبب سابق على تسلطهم، وهذا كلامٌ متين لأن ما سبق حاكمٌ على ما لحق.

 

معلومية اللفظ

ما سبق من كلام السيد قدس سره كان فيما لو لم يعلم اللفظ الصادر من المحيل (أو الموكّل) – كما ذكرنا سابقاً- أما إذا علم اللفظ صراحةً فهو المعتمد.

وفي المقام يذهب السيد إلى أن الألفاظ المصطلحة هي المعتمدة في جريان الأحكام، أما تصريفاتها وإشتقاقاتها فلا تكون كذلك، فكلمة (الحوالة) صريحة في الحوالة ولكن تصريفها (كـ أحلتك) قد يكون بمعنى وكلتك، وهذا الكلام دقيقٌ فما يهمنا هو الدلالة اللفظية، قال السيد قدس سره: "هذا كله إذا لم يعلم اللفظ الصادر منهما و أما إذا علم و كان ظاهرا في الحوالة أو في الوكالة فهو المتبع و لو علم أنه قال أحلتك على فلان و قال قبلت ثمَّ اختلفا في أنه حوالة أو وكالة فربما يقال إنه يقدم قول مدعي الحوالة لأن الظاهر من لفظ أحلت هو الحوالة المصطلحة و استعماله في الوكالة مجاز فيحمل على الحوالة و فيه منع الظهور المذكور نعم لفظ الحوالة‌ ظاهر في الحوالة المصطلحة و أما ما يشتق منها كلفظ أحلت فظهوره فيها ممنوع (وممنوع السيد ممنوعٌ لكن لا على نحو الإطلاق فربما دلّ لفظٌ "احلتك" في عرفٍ من الأعراف على الحوالة"[6] .

 

الإعتماد على العرف في حل النزاع

ولابد من القول: أن الكثير من المسائل المذكورة في النزاعات هي مسائل مرتبطة بالأعراف، ولا يمكن أن نصدر فيها حكماً ثابتاً، فالأعراف متغيرة حسب الزمان والمكان، بل حتى اللغة تعدّ كياناً حياً عند أتباع بعض المدارس الألسنية، فهي تتطور – بحسب رأيهم - مع الزمان ومع حاجات البشر، فلا يصح إن نحكم حكماً جازماً بالكلمات، لإحتمال إستعمال عرفٍ لها في معنى مغاير لعرفٍ آخر.

ومن هنا لابد من دراسة العرف المأمور به في القرآن الكريم، وكذا معنى المعروف وشبهه، الذي يحيل الفقهاء الكثير من المسائل عليه، وحسب معلوماتي القاصرة لم يبحث عنها الكثيرون، فما هو العرف؟ وكيف نحدده؟ هل هو عرفٌ واحد أم أكثر؟ هل المقصود بالعرف عرف أهل الإختصاص أم منعٌ من عرف ذوي الإختصاص للخدش في التبادر الحاصل عندهم لوجود خلفية ذهنية عندهم، وغيرها من المسائل، والله العالم.


[4] ذهب إلى ذلك المرجع السيد الحكيم قدس سره في المستمسك، ج13، ص409.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo