< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الخلاف بين المحيل والمحال عليه/

 

"لو أحال فقبل و أدى ثمَّ طالب المحيل بما أداه فادعى أنه كان له عليه مال و أنكر المحال عليه‌ فالقول قوله مع عدم البينة فيحلف على براءته و يطالب عوض ما أداه لأصالة البراءة من شغل ذمته للمحيل و دعوى أن الأصل أيضا عدم اشتغال ذمة المحيل بهذا الأداء مدفوعة بأن الشك في حصول اشتغال ذمته و عدمه مسبب عن الشك في اشتغال ذمة المحال عليه و عدمه و بعد جريان أصالة براءة ذمته يرتفع الشك"[1] .

 

قلنا فيما سبق أن أصالة الصحة أصلٌ عقلي وعرفي وشرعي، فأما العقل فلحكمه بأن الله خلق السماوات والأرض بإتقان إذ أحسن الباري كل شيء خلقه، ولم يخلق ربنا شيئاً فاسداً، وإنما يأتي الفساد من قبل الناس. ومن حسن الخلقة أن الله سبحانه خلق الإنسان على الفطرة وخلقه في أحسن تقويم، وبذلك يحمل عمل الإنسان على الصحة.

 

تعارض أصل الصحة مع أصل عدم الشغل

لكن السؤال فيما لو تعارض أصل الصحة مع أصل الإستصحاب في باب القضاء، فما هي الوظيفة؟

ففيما لو ادعى المحيل أن ذمة المحال عليه كانت مشتغلة له بدين، وأنكر المحال عليه ذلك بعد أداءه المال للمحال، فهنا إن كان المحال عليه يلتزم بعدم صحة الحوالة على البريء (إجتهاداً أو تقليداً) ويعترف بوقوع الحوالة، وكذلك المحيل لايرى صحة الحوالة على البريء بل يدعي أن إقدامه على الإحالة إنما جاء لإشتغال ذمة المحال عليه، فأصالة الصحة تقتضي تقديم قول المحيل، لكن هذا الأصل يتعارض مع أصالة عدم الشغل، أي أصالة كون المحال عليه بريئاً تجاه المحيل فأي الأصلين يقدم؟

نحن نرى أن هذه الحالات مردّها إلى رأي القاضي، فهو الذي يقدم أصلاً منهما على الأخر، فلو فرض تقديم أصل الصحة على أصل عدم الشغل فذلك يكون بالنسبة للعالم بالأحكام والمتقيد بها، أما الجاهل بالحكم الشرعي أو المتهاون بها فلا يمكن تقديم أصل الصحة في عمله، فالشك يكون متجهاً في قوة الأصل بحيث يغلبّه على الأصل الآخر، ومثل ذلك ما لو تعارض الظاهر حيث يكون الأمر إلى الفقيه ليقدم أكثرهما قوة.

ومن هنا نحن ندع الأمر إلى رأي القاضي في القضية، فهو الذي يرى تقديم أصالة الصحة على أصالة عدم الشغل أو العكس، على أن أصالة الصحة حجةٌ بالنسبة للإنسان نفسه فلو شك المكلف في أداء الصلاة أو صحتها فلابد أن يحكم على الاداء – بعد ثبوت المقدمات - والصحة، بينما أصالة العدم تحكم بعدم الإتيان بها أو عدم الإتيان بها على الوجه المطلوب لكن إجرائها (أصالة الصحة) في القضايا الخلافية وبالنسبة لشخصٍ آخر، بأن يجري المحال عليه أصالة الصحة بالنسبة للمحيل ففيه نظر.

قال السيد في العروة: "لو أحال فقبل و أدى ثمَّ طالب المحيل بما أداه (للمحال) فادعى (المحيل) أنه كان له عليه مال و أنكر المحال عليه‌ (بأن تكون ذمته مشتغلة للمحيل) فالقول قوله (المحيل) مع عدم البينة فيحلف على براءته و يطالب عوض ما أداه لأصالة البراءة من شغل ذمته للمحيل و دعوى أن الأصل أيضا عدم اشتغال ذمة المحيل بهذا الأداء مدفوعة بأن الشك في حصول اشتغال ذمته و عدمه مسبب عن الشك في اشتغال ذمة المحال عليه و عدمه و بعد جريان أصالة براءة ذمته يرتفع الشك".

فالشك في برائة ذمة المحيل إنما يكون متوقف على الشك في إشتغال ذمة المحال عليه، ومتى ما ثبتت برائة ذمة المحال عليه ثبتت ذمة المحيل فلا محل لأصالة البراءة بالنسبة إليه، كما مثّلنا على ذلك بالشك في طهارة اليد من النجاسة بعد غسلها بماءٍ يشك في بقاء كريته، فالإستصحاب في بقاء الكرية يرفع موضوع إستصحاب عدم النجاسة.

وتقديم قول المحال عليه يكون بناءاً على القول بصحة الحوالة على البريء – كما هو مذهب السيد اليزدي قدس سره – أما على القول بعدم الصحة فيجري فيه ما ذكرنا سابقاً، قال قدس سره: "هذا على المختار من صحة الحوالة على البري‌ء و أما على القول بعدم صحتها فيقدم قول المحيل لأن مرجع الخلاف إلى صحة الحوالة و عدمها و مع اعتراف المحال عليه بالحوالة يقدم قول مدعي الصحة و هو المحيل"[2] .

وأشكل على هذا القول بأن المحال عليه ليس طرفاً في الحوالة ليكون طرفاً للنزاع، وأجاب السيد عن ذلك بـأمور:

أولاً: ثبت سابقاً أن قبول المحال عليه شرطٌ في الحوالة فضلاً عن رضاه، وهذا رأي السيد وكثيرٌ ممن لحقه بأن الحوالة عقدٌ ثلاثي الأطراف.

ثانياً: أن مجرد رضا المحال عليه بالحوالة – بناءاً على القول بكفايته – يعني إعترافه بصحة عمل المحيل وكونه قد أحال على مشتغل الذمة، قال السيد قدس سره: "ودعوى أن تقديم قول مدعي الصحة إنما هو إذا كان النزاع بين المتعاقدين و هما في الحوالة المحيل و المحتال و أما المحال عليه فليس طرفا وإن اعتبر رضاه في صحتها مدفوعة أولا بمنع عدم كونه طرفا فإن الحوالة مركبة من إيجاب وقبولين وثانيا يكفي اعتبار رضاه في الصحة في جعل اعترافه بتحقق المعاملة حجة عليه بالحمل على الصحة"[3] .

وهناك صورةٌ أخرى للنزاع القائم، يذكرها السيد بقوله: "نعم؛ لو لم يعترف بالحوالة بل ادعى أنه أذن له في أداء دينه يقدم قوله لأصالة البراءة من شغل ذمته فبإذنه في أداء دينه له مطالبة عوضه و لم يتحقق هنا حوالة‌ بالنسبة إليه حتى تحمل على الصحة و إن تحقق بالنسبة إلى المحيل و المحتال لاعترافهما بها‌"[4] .

فالمحال عليه ينكر الحوالة أصلاً، بل يدعي أن اداءه للدين إنما كان لإذن المحيل في الأداء، والإذن في مثل هذه الحالات – كما مرّ في الضمان – لا يكون على نحو التبرع، خصوصاً عند من تكون بينهم تجارةً حاضرة يديرونها.

فحتى لو تحققت الحوالة بالنسبة للمحيل والمحال فهي لا تتحقق بالنسبة للمحال عليه لإنكاره لها، وبالتالي على المحيل أن يدفع له ما أدّاه عنه.

إلا أننا في غنىً عن كل هذا التفصيل حين قلنا بجواز الحوالة على البريء أولاً، وثانياً بالتفريق بين الحوالة على البريء وبين الإذن في الوفاء بالدين، والفرق بينهما أن في الحوالة على البريء بعد قبول المحال عليه تنتقل الذمة من المحيل إليه فتبرء ذمة المحيل، بينما تبقى ذمة المحيل مشتغلة فيما لو أذن لآخر بالأداء.

 

المسألة العاشرة: الخلاف قبل الأداء

كانت المسألة السابقة ترتبط بالنزاع الدائر بين المحال عليه والمحيل بعد أداء الدين، ولكن السيد قدس سره يشرع في مسألة متفرعة من تلك، وهي فيما حصل الخلاف ولمّا يؤد المحال عليه، والفقهاء اختلفوا فيها، قال السيد قدس سره: "قد يستفاد من عنوان المسألة السابقة حيث قالوا أحال عليه فقبل و أدى‌ فجعلوا محل الخلاف ما إذا كان النزاع بعد الأداء (نستفيد من ذلك:) إن حال الحوالة حال الضمان (في أي جهة ؟) في عدم جواز مطالبة العوض إلا بعد الأداء فقبله و إن حصل الوفاء بالنسبة إلى المحيل لكن ذمة المحيل لا تشتغل للمحال عليه البري‌ء إلا بعد الأداء (فلا يحق للضامن أن يرجع على المضمون عنه قبل الأداء وفي ذلك رواية مرّ ذكرها،) و الأقوى حصول الشغل بالنسبة إلى المحيل بمجرد قبول المحال عليه إذ كما يحصل به الوفاء بالنسبة إلى دين المحيل بمجرده فكذا في حصوله بالنسبة إلى دين المحال عليه للمحيل إذا كان مديونا له و حصول شغل ذمة المحيل له إذا كان بريئا"[5] .

ثم يقول السيد قدس سره: "و مقتضى القاعدة في الضمان أيضا تحقق شغل المضمون عنه للضامن بمجرد ضمانه إلا أن الإجماع و خبر الصلح دلّا على التوقف على الأداء فيه و في المقام لا إجماع و لا خبر بل لم يتعرضوا لهذه المسألة و على هذا فله الرجوع على المحيل و لو قبل الأداء بل و كذا لو أبرأه المحتال أو وفاة بالأقل أو صالحه بالأقل فله عوض ما أحاله عليه بتمامه مطلقا إذا كان بريئا‌"[6] .

فالسيد قدس سره يفرّق بين الحوالة والضمان، في وجود الإجماع و النص في كتاب الضمان بمنع رجوع الضامن على المضمون عنه قبل الأداء ولولا الإجماع والنص كان القول بجواز الرجوع قبل الأداء أقرب، ولا إجماع قائم على ما نحن فيه كما لا نصّ عليه.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo