< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: معلومية مال الدين، تساوي الدينين/ شروط الحوالة / كتاب الحوالة

 

"الخامس أن يكون المال المحال به معلوما جنسا و قدرا للمحيل و المحتال‌ فلا تصح الحوالة بالمجهول على المشهور للغرر"[1] .

 

الشرط الخامس: معلومية مال الدين لدى الجميع

 

الغرر ونفيه في المعاملات

في كتاب الحوالة بحثٌ لا يقتصر على هذا الباب وإنما يعم سائر أبواب الفقه وهو بحث الغرر، ولكي نتحدث عن هذا البحث في باب الحوالة لابد أن نعرف أمرين أساسيين على نحو التمهيد:

الأول: كل المعاملات يجب أن تكون بحيث لا تثير الشك والشبهة، ولا تسبب الإختلاف بين المتعاقدين، ومن أساسيات الدين وأهتماماته الأولية إهتمامه بالسلم الأهلي، إذ يجب أن يبقى المجتمع متسالماً دون اختلافات، ولذلك منع الشارع المقدس كل ما يثير الاختلاف، ومن ذلك تحريم الخمر والميسر لإثارتها للنزاع، وكذا الغيبة والتهمة وسوء الظن و.. لأنها مدعاة اللإختلاف.

ومن هنا؛ إذا كانت العقود غير منضبطة ومثيرة للإختلافات ومسببة للمشاكل للأجهزة القضائة في البلد فمن الطبيعي يحرم الشرع تلك العقود، وربما نستفيد هذه القيمة الأساسية من آية الدين في سورة البقرة، حيث یآمر ربنا بكتابة الدين وإقامة الشهداء، والأحكام المرتبطة بذلك، وبعدئذ يبين الله سبحانه الحكمة من وراء ذلك كله والذي يتلخص في ثلاث غايات سامية، حيث يقول الله سبحانه: ﴿ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‌ أَلاَّ تَرْتابُوا[2] ، فالكتابة والتأكيد على تفاصيل العقد ووجود الشهود أقسط عند الله سبحانه، ومسهّلٌ لأمر الشهادة حين التنازع، ويسبب قطع الريب والشك بين الناس، لأن الريب والشك بين الناس يثير الخلاف بينهم ويكدر صفو العيش.

الثاني: الحديث النبوي المصحح والمتفق عليه بين فقهائنا أن النبي، صلى الله عليه وآله نهى عن بيع الغرر[3] ، هل يمكن الإستفادة منه في النهي عن الغرر في سائر المعاملات حتى من دون الإعتماد على سائر الروايات؟

وذلك أن البيع في الأحكام الشرعية يعد سيد المعاملات وأساسها، ولذلك حين تحدث فقهائنا عنه تحدثوا عن الكثير من أحكام المعاملات في كتاب البيع.

ومضافاً إلى ذلك فإن الحديث النبوي الناهي عن الغرر[4] ، وإن كان ضعيفاً إلا أننا نجد استناد الفقهاء عليه في عشرات الموارد، وكأنه من الأحاديث المستندة والمعروفة، ومن حيث العموم قال قسم من الفقهاء ببطلان أية معاملة غررية، لماذا؟

لأن النبي صلى الله عليه وآله، في الوقت الذي نهى عن الغرر – بإطلاقه – قال أيضاً: "لا ضرر ولا ضرار" للإشارة إلى أن الغرر يؤدي إلى الضرر بأن يقع أحد المتبايعين موضع الظلم.

ومن حيث العموم نستطيع أن نصل إلى قناعة بأن كل بيع ومعاملة بدءاً من الإيجار وانتهاءاً بالنكاح إذا سببت الغرر والضرر والإختلاف فهي غير صحيحة.

 

الغرر في الحوالة

أما الحوالة فبإعتبارها من المعاملات، تبطل إن كان فيها غرر، فإذا قال المحيل للمحال إذهب إلى المحال عليه وخذ منه مالاً دون تحديد مقداره أو دون بيان كون المحال عليه مديوناً له أو لا، بطلت الحوالة، وحتى العرف لا يقبل هذه المعاملة، لأن هذه حوالة عامة غير محددة من كل الجهات، بلى يمكن أن يكون هذا في باب الصدقة أو الإحسان والتبرع، ولكن لا يمكن أن تقع – عند العقلاء - كمعاملة فيها الموجب والقابل وسائر الشروط.

ولكن ما هي حدود الوضوح في العقد؟

هذا يرجع إلى العرف، فما كان رافعاً للغرر صح، كأن يقول المحيل للمحال أنا اطلب فلان مالاً إذهب وخذ منه ما أطلبه، فمادام المحال عليه يعرف مقدار دينه للمحيل فلا غرر، وكذا لو قال المحيل للمحال خذ من المحال عليه ما قامت به البينة أو حكمت به المحكمة، ففي مثل هذه الحالة لا يضر جهل أطراف العقد بمقدار الدين لوجود مقياس واضح للمعرفة وهو قيام البينة أو حكم المحكمة.

وكذلك الأمر فيما لو قال للمحال خذ ما في حسابي البنكي من أموال، فهذا الأمر هو الآخر يؤول إلى العلم دون أن يكون معلوماً أثناء العقد، وكل ذلك يكفينا لتصحيح المعاملة.

أما السيد اليزدي قدس سره فقال في العروة: "الخامس أن يكون المال المحال به[5] معلوما جنسا و قدرا[6] للمحيل و المحتال‌ فلا تصح الحوالة بالمجهول على المشهور (لماذا ذهب المشهور إلى البطلان؟) للغرر"[7] .

فدون أن يكون الجنس والمقدار معلوماً لأطراف العقد يكون العقد غررياً وبالتالي باطلا.

يبدو أن السيد قدس سره لا يرتضي هذا الرأي لنسبته إلى المشهور، ولذلك قال بالتفصيل التالي: "و يمكن أن يقال بصحته إذا كان آئلا إلى العلم) أي شريطة إنتهاء المعاملة إلى العلم عبر سياقٍ معين ومثاله (كما إذا كان ثابتا في دفتره على حد ما مر في الضمان من صحته مع الجهل بالدين) وقد مر في الضمان فتوى السيد قدس سره بصحة الضمان إن كان المضمون به آئلاً إلى العلم بأي حال (بل لا يبعد الجواز مع عدم أوله إلى العلم) أي حتى إن لم يؤدي إلى العلم (بعد إمكان الأخذ بالقدر المتيقن)كأن يقول أنا اطلبه إما مائة دينار أو خمسين ديناراً والقدر المتيقن هو الخمسون ديناراً، ويحيله على المحال عليه، والحق أن في مثل هذه الحالة قد تكون الحوالة غررية، ويبدو أن العلامة الطباطبائي لا يذهب إلى أن أي غرر في أية معاملة مفسدٌ لها، والأفضل أن نقول أن ماكان غررياً مجهولاً يؤدي إلى الخلاف فباطل بجعل هذه الأمور معايير واضحة، ثم قال السيد قدس سره:(بل و كذا لو قال كلما شهدت به البينة و ثبت خذه من فلان) وهذا صحيحٌ أيضاً لأنه يؤول إلى العلم في نهاية المطاف فلا يكون غررياً (نعم لو كان مبهما كما إذا قال أحد الدينين اللذين لك على خذ من فلان بطل) فهذه الحوالة باطلة لعدم الوضوح بالتردد، إلا اللهم أن يكون الدينان متقاربين بحيث يستطيع الأخذ بأيهما شاء، كما لو كان للمحال على المحيل دينان أحدهما ألف دولار والثاني مليون دينار، وهما متقاربان من حيث القيمة السوقية، فيقول له خذ أحدهما، ويكون ذلك معلوماً عندهما وعند المحال عليه لمعرفته بما اشتغلت ذمته للمحيل، ولكن نحن لانناقش في المصاديق لإختلافها واختلاف الناس فيها وإختلاف مقدار الإهتمام بالغرر الموجود فقد يكون الغرر البسيط مغتفراً بين المتعاقدين الأمر الذي لا يؤدي إلى الصراع في المستقبل. وكذلك ذهب السيد اليزدي إلى بطلان الحوالة في المسألة التالية:(و كذا لو قال خذ شيئا من دينك من فلان[8] ) فهذا لا يصح عند السيد اليزدي قدس سره فضلاً عن المشهور الذين قالوا بوجوب المعلومية في كل الجهات).

 

الحوالة على نحو الواجب التخييري

الواجب التخييري هو ما لو كان المكلف مأموراً بأحد الأمور على نحو التخيير بينها كما في كفارة الصيام يكون المكلف مخيراً بين العتق والإطعام والصيام، وفي الحوالة ما لو قال المحيل للمحال احتلك على زيد (المحال عليه) وخذ منه أحد الدينين الذين لك بذمتي، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون العقد صحيحاً لعدم الإبهام فيها، قال السيد قدس سره: "هذا و‌ لو أحال الدينين على نحو الواجب التخييري أمكن الحكم بصحته لعدم الإبهام فيه حينئذ"[9] .

ومن هنا نعرف أن المشكلة هي مشكلة الإبهام الذي يؤدي إلى الخلاف، وبحسب الآية الكريمة في سورة البقرة لاتطبق فيها معايير المعاملة والتي هي كونها أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأن لا يكون فيها ريب.

وفي ظننا أن هذه المعايير التي بينتها آية الدين هي أصل أصيل في كل المعاملات، وبالرغم من ورودها في باب الدين إلا أن السياق القرآني ولحن الخطاب يدل على أنها من الأمور الأساسية المعتمدى لدى الشارع في المعاملات.

وفي الواقع، إن بيان القرآن الكريم لهذه المعايير أمرٌ عظيم حيث أسس القرآن أسساً لمنع الخلاف بين الناس والتنازع فيما يخص معاملاتهم، لأن الخلافات تقع إما بسبب الريب أو أكل أموال الناس بالباطل وإما بسبب عدم وضوح القضايا والحدود، والقرآن أكد عليها جميعا.

 

الشرط السادس: تساوي الدينين

ويذكر الفقهاء شرطاً آخر في عقد الحوالة، ولا يعتمده السيد صاحب العروة قدس سره، وهو إشتراطهم بتساوي المالين، أي ما كان بذمة المحيل وما كان في ذمة المحال عليه، ولابد أن يكون التساوي من الجهات كلها: جنساً ونوعا ووصفا، وذلك كأن يكون ما ذمة المحيل طناً من الشكر الكوبي، فلابد أن يكون ما في ذمة المحال عليه ذات المقدار والجنس والوصف.

ولكن لم يعتبر كل الفقهاء ولا مشهورهم ذلك بل خالف في ذلك جماعة، ومن هنا قال السيد اليزدي قدس سره: "السادس تساوي المالين‌ أي المحال به و المحال عليه جنسا و نوعا و وصفا على ما ذكره جماعة خلافا لآخرين و هذا العنوان و إن كان عاما إلا أن مرادهم بقرينة التعليل بقولهم تفصيا من التسلط على المحال عليه بما لم تشتغل ذمته به إذ لا يجب عليه أن يدفع إلا مثل ما عليه فيما كانت الحوالة على مشغول الذمة بغير ما هو مشغول الذمة به"[10] .

وسنفصل الحديث عن هذا الشرط في البحث القادم، ولكن لابد من بيان أن هذا الشرط يعتمد على قولهم بأن المحال عليه ليس من الضروري رضاه في العقد، ولكنا قلنا أن رضا المحال عليه شرطٌ بل وهو ركنٌ فيه _ إلا ما استثني _ فالحوالة عندنا ذات أطرافٍ ثلاثة هم المحيل والمحال والمحال عليه، وبإشتراط رضاه فلا فرق حينذ بين أن يكون المالان متساويين في كل الجهات أم لا.

فمادامت الحوالة تمت على أساس التراضي فلا فرق بين التساوي وعدمه، أما إذا قلنا بعدم إشتراط رضا المحال عليه فلايمكن للمحيل أن يحيل المحال على المحال عليه إلا بما هو مساوٍ تماماً، لعدم جواز قهره على دفع ما ليس في ذمته، والله العالم.

 


[5] لا حاجة لذكر حرف ( به ) في الجملة لتمامية الجملة دونه.
[6] كأن يقول: احلتك على فلان بألف دينارٍ عراقي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo