< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مقدمات/كتاب الحوالة

 

بعد كتاب الضمان، يذكر الفقهاء ما يتعلق بالحوالة من مسائل، بإعتبار وحدة الباب بينها وبين الضمان والكفالة، ولترابط مسائلها وتشابهها من حيث انتقال الذمم، والذمة في حقيقتها تعهد الإنسان بشيء أو التزامه بأمر وتحويلها قد يسمى ضماناً أو شيء آخر.

وكما يمكن أن يستمر التعهد مع الإنسان، يمكن أن ينتقل إلى آخر، عبر الضمان أو الحوالة وهكذا عبر الكفالة، كما أن هناك بعض الأبواب ينتقل التعهد فيها ولكن دون أن يكون انتقال العهد جوهر الباب، بل يكون الانتقال من لوازمه.

 

كلمة الحوالة

لا يهمنا كثيراً البحث حول الكلمة، فالحوالة كغزالة في التلفظ والمعنى الحقيقي فيها التحويل والإنتقال، ولا حاجة إلى الكثير من البحث في هذا المجال.

 

أحكام الحوالة

أحكام الحوالة على نوعين: فنوعٌ منها يرتبط بهذا الباب بالذات (اي باب الحوالة)، ونوعٌ منها يرتبط بمجمل العقود والإيقاعات وما أشبه.

أما فيما يرتبط بباب الحوالة فالأحكام فيها قليلة تبعاً لقلة النصوص، والمسائل المبحوثة فيها نزرةٌ يسيرة، ولذلك ينبغي أن ندرس في البدء أحكام الحوالة من خلال الأصول العامة في العقود والإيقاعات والإلتزامات.

 

الأصول العامة في العقود

في كثير من الأحيان نجد اختلافاً بين الفقهاء في تفاصيل المسائل من كتابٍ إلى آخر (كالبيع او الإجارة او..) وينشأ ذلك من إختلاف الرؤية تجاه الأصول العامة، وبدل أن يؤسس الفقيه لمبانيه في بداية الباب ومن ثم يبني عليها الأحكام، نجد أنهم يتحدثون عن المباني في تضاعيف الحديث عن الأحكام، الأمر الذي يشوش على الدارس الرؤية، إذ الأمر لا يتعلق بهذه المسألة او تلك بقدر إرتباطه بالمبنى المعتمد لدى الفقيه.

ومن هنا علينا أن نذكر أولاً تلك المباني والأصول العامة ثم نخوض في غمار الفروع.

إن الآيات التي وردت عن احكام العقود في الفقه، كثيرة ولكن تركيز الفقهاء انصب على آية واحدة، وهي قوله سبحانه في سورة المائدة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود[1] .

ويبدو لي أن علينا تقسيم الآيات الشريفة إلى أقسام:

أولاً: ما يرتبط منها بتعهد الإنسان، حيث كان الإنسان مسؤولاً عن أقواله وتصرفاته، مسؤولاً عن أفكاره ونواياه، فلكل إنسان ما كسب وعليه ما اكتسب، ومعنى ذلك أن ما يفعله الإنسان يصبح جزءاً من وجوده وهذه ملكيته، فملكية الإنسان تعني أن الانسان يملك ما فعل، بإعتبار صدور الفعل بإرادته وهي من نعم الله سبحانه عليه، فإذاً يصبح جزءاً من وجوده.

ثانياً: الآيات التي ترتبط بالعهد والتعهد، فالإنسان مسؤول عن تعهده حتى البعيد عن العقود، لأن العهد له ثلاثة أطراف: (المتعهد – والمتعهد له – والله سبحانه الناظر الرقيب)، فعهد الله سبحانه مسؤول حين جعل الله شاهداً على ما يقول، وقد قال سبحانه: ﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلا[2] .

والعهد قد يرد في هذه العقود، وقد يرد في الإيقاعات لوجود التعهد فيها، وقد يرد في المواثيق، وفي كلمة الإنسان، فحين يقول الإنسان كلمةً يصبح عبداً لها وتقوده كلمته.

ثالثاً: الآيات الخاصة بالعقود، وفي تصوري أن الآية الأساس في العقود هي قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم[3] ، وتتميز هذه الآية بأمور:

 

الأول: النفي والإثبات، وفي كل مورد ورد النفي والإثبات معاً، يتمكن الدارس من تحديد الموضوع، إذ تكون معرفة الإنسان بالشيء، إما به أو بضده، والآية المباركة تضع حدوداً أمام حركة الإنسان بمنعه من الأكل بالباطل من جهة، ومن جهة ثانية تبين الآية الجانب الإيجابي وهو التجارة عن تراض.

 

الثاني: بيان حقيقة العقد، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود[4] ، لا يبين لنا معنى العقد.

بلى هناك بعض النصوص التي تبين أن العقد هو عهد مشدد وهذا صحيح، أو ما يقال أن نوكل الحكم على تعاملٍ ما أنه عقد أو لا إلى العرف صحيحٌ أيضاً، إلا أن الآية الشريفة لا تبين لنا معنى العقد، بينما قوله سبحانه: {عن تراض} يبين حقيقة التجارة والعقد وهو التراضي، أي وجود محور واحد يجتمع فيه أكثر من رضا، أو بتعبير آخر (يتعشق الرضائان) بتداخل احدهما في الآخر، وهذا معنى العقد أساساً في اللغة، ولكن التراضي أوضح، حيث يدل على ضرورة التفاعل بين طرفي العقد.

وهناك عشرات الأحكام الفرعية - إن لم يكن أكثر - نستفيدها بالتعمق في كلمة التراضي، ومما استفدناها من هذه الكلمة هي القاعدة العامة للخيارات، وقد بينا ذلك في محله بأن أساس تشريع الخيار هو بسبب نقصان التراضي وعبره يجبر هذا النقصان، وبذلك يصبح بحث الخيارات بحث له أصل عام وليس بحثاً يدور مدار النصوص الخاصة.

 

الثالث: بيان العقود الباطلة، وأيضاً تبين الآية الشريفة العقود الباطلة بقوله سبحانه: ﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ﴾، أي ليس كل عقد يجب الوفاء به، فبعض العقود تنتهي إلى الباطل، والعقد المنتهي إلى الباطل باطل للآية الكريمة.

 

آية الوفاء بالعقود

اعتمد الفقهاء في العقود على قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود[5] ، وفي هذه الآية بحثٌ عن دلالة العقود، فهل تدل على الوفاء بالعقود التي كانت في عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، أم العقود في عهد الائمة عليهم السلام، أم العقود العرفية التي يفهمها العرف؟

إذا قلنا أن الالف واللام للجنس، فيكون الجمع المحلى دالّاً على العموم عند الفقهاء والأصوليين جميعاً، أما لو قلنا بأنها للعهد فيكون المراد بالعقود تلك المعهودة في الأذهان العرفية أو التي كانت على عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، أو ما أشبه.

أقول: الأصل أن يكون الألف واللام للجنس، وغيره يحتاج إلى قرينة، وهو متين، إلا أن ما يمكن أن يضاف في المقام هو أن علينا تغيير نظرتنا تجاه القرآن الكريم، فالقرآن كلام الخالق لكل المخلوقين، ولذلك إذا فسرنا القرآن بعهد الرسول صلى الله عليه وآله أو بما كان في ذهن الناس في تلك العصور، فهذا تحديدٌ للقرآن الكريم، فالقرآن يصرح بأنه للناس وليس لشخصٍ أو جماعةٍ أو عصرٍ دون آخر، فالكلمة تدل على المعنى الأوسع.

ثم هل تكون الآية دالة على العقود العرفية أم هي أعم من ذلك؟ كأن يتفق طرفا العقد على تأسيس معاملةٍ جديدة لحاجتهما إليها، فهل يشمله الأمر بالوفاء؟

قال البعض بعدم الوجوب، لأنه عقدٌ غير عرفي ولا يلتزم العرف به، ولكن السؤال: من قال بأن لفظة العقود تشير إلى المعنى العرفي، بل هي تشير إلى أصل كلمة العقود وأنها صحيحة، كما في تعاملنا مع معنى لفظة "الماء" أو "التراب" الواردتين في النصوص الشرعية بجعلهما مطهرين، فهل هناك ماء او تربة عرفية أم هي حقيقة؟

والفقهاء يكاد أن يجمعوا على أن الكلمات الشرعية تشير إلى المعاني الحقيقية لا الاعتبارية أو المصطلحة، فالماء يدل على حقيقته، ولو فرض صناعة البشر لنوعٍ من الماء، يشمله إطلاق الماء، أو من أراد أن يتيمم بتراب القمر يصح منه التيمم لأنه تراب، بالرغم من أن المعنى المعهود من التراب في النصوص هو تربة الأرض لا سواها من الكواكب.

وهنا أيضاً كلمة "العقود" كلمة عامة تشير إلى حقيقة العقود ولو فرضنا أن معاملةً ما لم تدخل تحت إطار قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُود}[6] ، فبالإمكان أن نستفيد من قوله تعالى: ﴿تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم[7] لتصحيحها ووجوب الوفاء بها، وإن لم تشملها هذه الآية فنستفيد من الأعم منها في قول الله سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلا[8] باعتبارها عهداً بينهما، وإن لم نتمكن من الإستفادة منها نؤطرها بالإطار الأعم من كل ذلك وهو إطار كسب الإنسان الوارد في قوله سبحانه: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ[9] .

وبذلك نرتقي من أصلٍ إلى ما هو أعم منه فالأعم، لأن القرآن الكريم يبين إطاراً عاماً ثم يخصصه ومن ثم يخصصه مجدداً ويبين كل المفردات، فإن لم نستطع الإستدلال بآيةٍ ما يمكننا الرجوع إلى الآية الأعم منها.

وكلمة التجارة في الآية المباركة تشمل أي نوع من العقد الذي تم التراضي بين الطرفين فيه. نعم؛ علينا أن نضع للتجارة حدودها الشرعية والعقلية، فتتضح بذلك حدود الصحة هذه المعاملات، وبعد ذلك نطلق الكلام بتصحيح كل معاملة دخلت في إطارها.

حدود التجارة

الحد الأول: هو أن يحقق الموضوع بوجود التراضي ولا مجال للحديث عنه.

الحد الثاني: أن لا يكون التعاقد على الباطل، فأي باطل يلغي العقد وهو على أنواع:

منها: الحرام، فالحرام باطل، وكل عقد كان على المحرم ـ كالمخدرات او تجارة الأسلحة أو غسيل الأموال أو شراء الذمم أو.. ـ باطل.

ومنها: العقود العبثية التي ليس وراءها منفعة، كأن يعطي مالاً في مقابل لا شيء كالقمار مثلاً.

الحد الثالث: من الحدود العقلية في العقود هي خلوها من السفه، والعقد السفهي هو الذي لا يصدقه العرف لعدم كونه عقلائياً.

 

عقد الحوالة

الحوالة من العقود التي تنوعت عبر العصور والأمم واختلف الفقهاء فيها اختلافاً واسعاً بإعتبار تنوعها، وسنبين ذلك لاحقاً، ولكن نريد هنا أن نقول بإمكان قبول كل التنوع الموجود فيه، حتى عقود الحوالة الجديدة والتي قد لا يشملها تسمية الحوالة، ولا الضمان ولكن قد تدخل في إطار العقود في الآية المباركة أو التجارة بالتراضي في الآية الأخرى فنقول بصحتها كما في الحوالة المتسلسلة مثلاً، فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تسميتها حوالةً إلا أن ما يهمنا صحتها وإن لم نسميها بذلك.

وبكلمة: إن اختلاف الفقهاء والمذاهب والعصور والأزمنة حول الحوالة لا يخرجنا عن موضوعها، فالحوالة موجودة وثابتة، فلتكن على أنواع متعددة ونقول بصحتها جميعاً مادامت مؤطرة بإطار الحدود الشرعية والعقلية للعقود.

فلو فرض قيام أكثر من ثلاثة أشخاص على عقد الحوالة وكانوا يعرفون ما يفعلون وهم متراضون فيما بينهم، وإذا لم تكن هناك حدود شرعية تخالفها كالأكل بالباطل فنحن نصححها، فهنا نحاول بهذا الأمر حل الأختلافات، التي حدثت بين الفقهاء في اخراج بعض المعاملات عن حد الحوالة كجعل بعضها لازماً أو جائزاً أو.. ونحن نقول بصحتها جميعاً ولكن حسب النية والتراضي الموجود بينهم، دون أن نبطلها، سواء اسميناها حوالة أو لم نفعل.

وبذلك نريد أن نضع – بحول الله وقوته – مبنىً لحل الخلافات الكثيرة المتنوعة في باب الحوالة ونحلها لا بقبول قولٍ دون آخر، وإنما بقبول الأقوال جميعاً ولكن كلٌ بحسبه وبحسب نوع التراضي الحادث فيه.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo