< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ضمان درك الثمن، ضمان الأرش/ كتاب الضمان

 

"إذا ضمن عهدة الثمن فظهر بعض المبيع مستحقا‌ فالأقوى اختصاص ضمان الضامن بذلك البعض و في البعض الآخر يتخير المشتري بين الإمضاء و الفسخ لتبعض الصفقة فيرجع على البائع بما قابله و عن الشيخ جواز الرجوع على الضامن بالجميع و لا وجه له‌"[1] .

 

ذكرنا فيما سبق أنه لو قال أحدهم للآخر وهو يشتري بضاعته، لو كان الثمن مغشوشاً أو مزيفاً فأنا ضامنٌ دركه، جاز ذلك، والسبب فيه أنه ضمان درك الثمن الذي قال الفقهاء بجوازه، حيث استثنوه من عموم عدم جواز ضمان الأعيان، فحتى لو كان الثمن عيناً (لا أوراق نقدية) كما لو باع بيتاً ببيتٍ آخر، جاز ضمانه، علماً أن أغلب الفقهاء قالوا بعدم جواز ضمان الأعيان، بل حصروا جواز الضمان في الديون، إلا أنهم ــ كما قلنا ــ استثنوا ضمان درك الثمن من ذلك.

أما نحن وتبعاً للعلامة الطباطبائي قدس سره في العروة فنقول: لا فرق بين العين والدين، فكما يجوز ضمان الدين يجوز أيضاً ضمان الأعيان، والسبب في ذلك دخوله في الضمان عند العرف، فمادام العرف يسمي ضمان الأعيان ضماناً جاز، وبالتالي فلا فرق بين الثمن وغير الثمن.

 

درك بعض الثمن

لو بان كون بعض الثمن مستحقا (لا كله) فهل يدخل في ضمان درك الثمن أم لا؟[2]

فلو اشترى زيدٌ بيتاً وكان الثمن عشرة آلاف دولار، وتبين لاحقاً زيف نصفه، فهل يضمن الضامن الآلاف الخمسة المزورة؟

قال بعضٌ بأنه يضمن، لأن ضمان الجزء داخل في ضمان الكل، فمن ضمن الكل شمل ضمان الجزء، وفي المقابل قال بعضٌ بعدم الضمان لأنه لم يضمن إلا الكل دون الجزء.

وفي رأيي ليس هذا الإختلاف بذات أهمية، والسبب في ذلك أننا قلنا مراراً أن العقود تابعة للقصود، فحينما قال الضامن: أنا أضمن درك الثمن، نرجع إلى قصده هل كان يقصد درك الثمن بصفة الكلية، أي العشرة آلاف كلها معاً، أم كان يعني الضمان حتى لو تبعّض، فالمرجع هو قصد الضامن.

فإذا عرفنا قصده كان المراد، وإلا فنرجع إلى العرف ليبين لنا القصد المعهود عنده من هذا القول.

وبصفة عامة يبنغي أن يرفع الإبهام والإيهام من العقود بالرجوع إلى العرف، ومع عدمه يرفع بالعودة إلى المتعاقدين، ومع فقدانهما جميعاً نرجع إلى الأصول العامة، وهذا ليس من باب الفتيا وإنما من باب إيجاد المصاديق، فترجع هذه المسائل إلى باب القضاء لا الإفتاء.

 

الضمان حال فسخ العقد

لو ضمن الضامن الثمن فيما لو ظهر كونه مستحقاً، ولكن لم يظهر مستحقاً بل تم فسخ العقد، أو أقال أحدهم الثاني، فهل يضمن أيضاً أم أن الضمان يقتصر على حالة الإستحقاق أو فساد الثمن؟ وبعبارة أخرى هل يضمن الضامن إذا إنفسخ العقد بسبب غير فساد الثمن، كما لو فقد شرط من شروط الصحة أو كان بالتقايل أو شبهه؟

نقول: الحال هنا كما الحال في المسألة السابقة، فإن كان مراد الضامن الضمان الكلي وفي كل الجوانب ضمن، وأما إذا كان مخصوصاً بحال تبين العيب في الثمن فلا يشمله انفساخ العقد، فلا ضمان، فالمرجع إلى قصدهما أو إلى العرف كما مرّ.

 

الضمان حال تلف المبيع قبل التقابض

كذلك فيما إذا تلف المبيع قبل التقابض، كما لو سرق المبيع قبل إقباضه، فهل يضمنه الضامن؟

بعض الفقهاء قال بعدم الضمان، لعدم التقابض وبعدم التقابض لم تشغل الذمة، ولا يصح الضمان إلا بذمة، لكن العلامة الطباطبائي قدس سره في العروة يقول بصحة الضمان، لجواز ضمان العين، كما يجوز ضمان الدين، وإن قيل أن هذا ضمان ما لم يجب، نقول بلى؛ ولكن نحن نكتفي بأقل سبب من أسباب العلقة لإمضاء الضمان، وقد سبق وأن قلنا بجواز ضمان ما لم يجب مثل الجعالة التي استدل عليها بقوله تعالى: ﴿وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعيم[3] .

فمن حيث العموم علينا أن نرجع في هذه المسائل الفرعية إلى المباني التي إعتمدناها في الباب، ومباني صاحب العروة واضحة والتي أراها مباني جيدة، وهي:

     مبنى جواز ضمان العين كضمان الدين.

     ومبنى جواز ضمان ما لم يجب بأقل علقة وسبب، كضمان ما وجب.

أما فيما يرتبط بضمان البعض وترك البعض فهو يرجع إلى قصد الطرفين، أما الفقهاء الذين قالوا بعدم جواز ضمان العين، فلم يجيزوا الضمان قبل التقابض[4] .

 

ضمان الأرش

كذلك فيما يرتبط بضمان الأرش، فلو تبين الثمن معيباً بعد العقد، كما لو تبين وجود عيب في البيت الواقع ثمناً، ففي هذه الحالة يكون البائع بالخيار بين رد الثمن أو أخذ الفرق بين السليم والمعيب، فهل يدخل الأرش في الضمان فيما لو ضمن الضامن درك الثمن؟

قال بعضهم بعدم الضمان، لكون الأرش شيئاً جديداً وكذا العيب ــ إلا إذا كان العيب سابقاً ــ ولأنه شيءٌ جديد فهو من قبيل ضمان ما لم يجب، وقال صاحب العروة بالجواز، لأنه يقول بجواز ضمان ما لم يجب، فيستطيع البائع في هذه الحالة أن يفسخ المعاملة فيكون الضامن ضامناً لكل الثمن، ويمكنه أن يأخذ بالأرش فيضمن مقدار الأرش، وفيما لو قبل بالثمن كما هو دون الفسخ أو المطالبة بالأرش فالضامن في راحة.

فالأمور كلها ترجع إلى المبنى الذي تبناه صاحب العروة وهو جواز ضمان ما لم يجب.

 

ظهور استحقاق بعض المبيع

وهناك مسألة أخرى يوردها صاحب العروة قدس سره فيما إذا تبين استحقاق بعض المبيع مع ضمان الثمن، قال قدس سره في المسألة الأربعين: "إذا ضمن عهدة الثمن فظهر بعض المبيع مستحقا‌ فالأقوى اختصاص ضمان الضامن بذلك البعض و في البعض الآخر يتخير المشتري بين الإمضاء و الفسخ لتبعض الصفقة فيرجع على البائع بما قابله و عن الشيخ جواز الرجوع على الضامن بالجميع و لا وجه له‌"[5] .

كما قلنا أنه لو ضمن الضامن المبيع ثم تبين فساد نصفه كان عليه الضمان، ولكن للمشتري الخيار بين فسخ البيع رأساً وبين الإمضاء لتبعض الصفقة وفي حال فسخ المشتري فلا ضمان، أما إذا قرر الإمضاء فيرجع على البائع بمقدار المستحق.

ويعترض صاحب العروة على رأي الشيخ[6] الذي يذهب إلى جواز الرجوع على الضامن بالجميع (لا مجرد ما تبين استحقاقه)، ويقول أنه لا وجه له.

نقول: لا وجه له كلام دقيق من الناحية العقلية، لأنه ضمن المستحق ولم يضمن كل شيء، ولكن قد يقال أن لكلام الشيخ وجه فيما إذا كانت المعاملة وقعت على هذا الاساس من اليوم الأول، فقال صاحب المعاملة: (انا اضمن كل الثمن إذا تبين انه مستحق)، فعليه ان يدفع.

ولكن عادة ليس الأمر كذلك فلما يقول ما هو مستحق يعني نصف المعاملة، فليس في كل المبيع إشكال، وإنما المشكلة في بعضه فيكون ضامناً بقدرها، فلا معنى إلى ضمان الجميع من أجل كون البعض مستحقاً.

ضمان ما يحدثه المشتري في الأرض المشتراة

هل يجوز ضمان ما يحدثه المشتري في الأرض إذا ظهرت الأرض مستحقة أو بإنفساخ العقد بالتقايل وشبهه؟ بمعنى أنه لو اشترى المشتري أرضاً وضمنه الضامن، ثم قام المشتري بحرث الأرض وزراعتها وبناءها و.. ثم تبينت الأرض مستحقة، فمن يضمن هذه الأعمال التي عملها في الأرض أي قيمة ما أحدثه، فيما لو أراد صاحب الأرض خالية من أي تغيير فهل يضمن الضامن هذه الأعمال التي عملها في الأرض؟

قالوا: يمكن أن يضمن الضامن الأرض، وفيما إذا تبينت المعاملة غير صحيحة وأحدث فيها المشتري، فهو ضامن لكل ما أحدثه، لأن ذلك نوع من المعاملة، فيمكن أن يريد الرجل أرضه من دون أي إضافات، مثل ما نعايشه هذه الأيام حين يؤجر أحدهم أرضه أو يجيز التصرف فيها، للمواكب الحسينية ويشترط إرجاعها إليه كما كانت، فيضمن أحدهم له ذلك، فإذا حدث في الأرض حدث على الضامن أن يضمن.

قال المحقق اليزدي قدس سره: "الأقوى وفاقا للشهيدين صحة ضمان ما يحدثه المشتري‌ من بناء أو غرس في الأرض المشتراة إذا ظهر كونها مستحقة للغير و قلع البناء و الغرس فيضمن الأرش و هو تفاوت ما بين المقلوع و الثابت عن البائع خلافا للمشهور لأنه من ضمان ما لم يجب"[7] .

قال الشهيدان في اللمعة والروضة بإمكان هكذا ضمان، بينما لم يقبله المشهور، لأن الأرض لم يحدث فيها حدث بعدُ، فهو ضمان ما لم يجب، وبناءاً على قول المشهور بأن الضمان إنما يتحقق في حال لزوم الدين، وفيما نحن فيه لا لزوم.

أما صاحب العروة فيقول: قد عرفت أن مجرد وجود نوع من العلقة بين البائع والمشتري يكفي لصحة الضمان.

ولا يحدث مثل هذا الضمان في البيع عادةً، إنما يحدث في عقد الإجارة، كما لو استأجر أحدهم سيارة وتقوم شركة التأمين بضمان السيارة إذا حدث فيها حادث في مقابل مبلغٍ ما.

وهذا صحيح من ضمان ما لا يجب، إلا أن الحق جواز ضمان ما لم يجب.

وبكلمة: كل المسائل التي يطرحها السيد اليزدي قدس سره هنا، تدور حول نقطتي ضمان العين وضمان ما لم يجب، ونحن إذا قلنا:

أولاً: الضمان نرجع فيه إلى اتفاق الطرفين، وحتى لو اتفقا ولم يمسى هذا العقد ضماناً، نجيزه لأنه ليس عقد الضمان وحده صحيحاً، بل كل عقد صح عند العرف ولم يكن منهياً عنه من قبل الشرع كان صحيحاً.

ثانياً: سواء كانت الخسارة الآن أو في المستقبل يجوز الضمان، لأن مجرد العلقة تكفي للضمان.

ثالثاً: لا فرق في جواز الضمان، بين البائع والمشتري، بين الثمن والمثمن، بين الأرش وحالة تبعض الصفقة، فمن الممكن أن يقول الضامن: انا أضمن كل شيء لكي لا تخسر هذه المعاملة، وذلك لأن الأصل في الضمان جاء للاستيثاق وبالتالي لإمضاء أمور الناس، فيكون بمثابة دلال في المعاملة، سواء كان ذلك مقابل ثمنٍ أو لا.

والأغلب في العقود أنها تمضي صحيحة ودون إشكال، ولكن دور الضامن هو لنشر الثقة ومن ثم الضمان فيما لو حدث خلل في العقد.

صاحب العروة رائد التعميم في بحث الضمان

ولأن صاحب العروة – وحسبما نرى في الكتب السابقة –صاحب نظرية (تعميم الضمان بصورة واضحة) نراه يفصل القول في المسائل مع بيانه للأدلة في بعض الأحيان، أو مناقشة لآراء الفقهاء الآخرين عبر إشارات دقيقة ولمحات لطيفة.

حيث يفهم من كلامه مثلاً: أنه يعترض على القائلين بجواز ضمان درك ثمن المشتري، وهذا ضمان العين وفي بعض الأحيان يكون ضمان ما لم يجب، فكيف لم يجيزوا مثله في غيره مع إمضائهم له هنا؟

نعم ؛ لا يصرح بهذا الإعتراض ولكنه يشير إليه من خلال استدلاله بكلامهم حتى يدع القارئ يقتنع برأيه دون أن يورد كلاماً جارحاً ضد الرأي المقابل وأصحابه، وهذا من ديدن فقهائنا حيث يحترمون الفقهاء الآخرين حتى ولو كانوا في مقام الرد على نظرياتهم، بل لا يذكرون غالباً اسماء الفقهاء الذين يرومون الرد على آرائهم، فيكتفون بذكر عبارات مثل (قيل) او (ما عن البعض) او شبهه، كل ذلك لكيلا يكون هناك نوع من الجرح لهم، وهذا هو الأسلوب الذي علمنا الإسلام به ودعانا إلى الالتزام به، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[2] إذ المعهود هو ضمان الضامن لدرك الثمن كله لا بعضه، فلو تبين فساد أو استحقاق بعضه هل عليه الضمان أم لا؟ [ المقرر].
[4] وهو المشهور عندهم، واختاره النائيني والكلبايكاني وغيرهما. [ المقرر].
[6] الشيخ الطوسي قدس سره في المبسوط. [ المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo