< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ذكرنا أنّ صاحب الكفاية «قده»: أفاد بأن شمول الخطاب لما هو خارج عن محل الابتلاء لغو. ومستهجن.
وقلنا بأن هناك عدة إيرادات: الإيراد الاول: ما ذكره السيد الإمام «قده» في «تهذيب الأصول»: ومحصّل كلامه مطلبان:
المطلب الأول: إن هناك فرقاً بين الخطاب الشخصي والخطاب العمومي؛ فتوجه الخطاب الشخصي لما هو خارج عن محل الابتلاء مستهجن عرفا، بأن يقال للفقير مثلا: لا تحضر حفلة في برلين، فإن هذا مستهجن في حقه بل يعد لدى العرف سخرية واستهزاءً.
وأما الخطاب القانوني: وهو صدور خطاب عام يشمل ما دخل في محل الابتلاء وما خرج منه فليس بمستهجن. والسر في ذلك يبتني على امرين:
الامر الاول: ان الاستهجان انما يترتب على دعوى الانحلال بأن يقال: ان الخطاب القانوني ينحل إلى خطابات عديدة بعدد المكلفين، فاذا قال المولى يجب على المسلم دفع الضريبة أو قال: يجب على المسلم حج بيت الله الحرام، فانه ينحل إلى خطابات عديدة بعدد المسلمين، وحينئذٍ فتفرع خطاب من هذا الخطاب القانوني إلى من هو لا يبتلي بالذهاب إلى الحج، أو عاجز عن الحج أو كان الحج مشقة عليه، قد يقال حينئذ انه مستهجن، فإذا قلنا ان الخطاب القانوي ينحل إلى خطابات عديدة ومنها: خطاب في حق العاجز، وخطاب في حق الغافل، وخطاب في حق من لا يبتلي بذلك. فحينئذ يقال: بأن هذا مستهجن.
اما إذا قلنا ان الخطاب القانوني لا ينحل إلى خطابات عديدة وانما موضوعه الطبيعي ومتعلقه الطبيعي، أي إذا قال المولى: يجب على المسلم رد السلام، أو يحرم على المسلم شرب الخمر فإن هذا خطاب واحد موضوعه طبيعي المسلم ومتعلقه طبيعي رد السلام، فليس هناك خطابات عديدة بل خطاب واحد، والوجه في عدم الانحلال: شاهدان:
الشاهد الاول: أننا إذا رجعنا إلى المرتكز العقلائي نجد أن المرتكز في الخطابات القانونية قائم على وحدة المجعول، فليس لدى المرتكز العقلائي في الخطابات القانونية مسألة الانحلال، فالدولة مثلا إذا أرادت أن تصدر خطابا بدفع الضريبة تقول: يجب على المواطن دفع الضريبة إذا دخل البلد أو خرج منها، من دون وجود انحلال إلى هذا الخطاب إلى خطابات عديدة بعدد المواطنين كي يقال: بأن شمول هذا الخطاب للعاجز مقبول أو مستهجن، أو شمول هذا الخطاب للغافل مقبول أو مستهجن، إذ ليس لدى المرتكز العقلائي الا خطاب واحد، موضوعه طبيعي المواطن بلحاظ طبيعي المتعلق.
الشاهد الثاني: أنّ القضية الإنشائية كالقضية الاخبارية، فهما من سنخ واحد، وكما أن القضية الإخبارية لا تنحل لإخبارات عديدة فكذا القضية الانشائية لا تنحل لإنشاءات عديدة، فاذا قال المتكلم النار باردة، فأنه لا يقال: كذب الف كذبة بعدد النيران الموجودة في الخارج، لأن هذا الإخبار ينحل إلى اخبارات عديدة بعدد افراد النار الموجودة في الخارج، بل يقال: ان قوله: النار باردة، كذب واحد، لأن الاخبار واحد بنظر العرف. فكذا القضية الانشائية، إذا قال مثلا: يجب على كل مواطن دفع الضريبة، فانه لا يرى بنظر العرف انه صدر منه خطابات عديدة بعدد المواطنين بل خطاب واحد. فكما ان الخطاب لا ينحل الانشاء انه لا ينحل.
والنتيجة: ان ما ذكره صاحب الكفاية وغيره من ان شمول الخطاب لمن هو غافل أو عاجز أو خارج عن محل الابتلاء مستهجن يتني على دعوى الانحلال، فاذا لم نقل بوجود انحلال فحينئذ لا مانع لدى العرف وهو هذا الخطاب، وهو قول الدولة «يجب على كل مواطن دفع الضريبة» من ان يشمل الاطلاق العاجز والغافل والجاهل ومن هو خارج عن محل الابتلاء؛ لأن هذا الخطاب لم تحلظ فيه التفاصيل وانما لوحظ جعل الطبيعي على الطبيعي، جعل طبيعي جعل الضريبة على طبيعي المواطن، ولم يحلظ سائر التفاصيل والأحوال في هذا الخطاب أبداً، لا انه لوحظت والخطاب ينحل اليها حتى يدعى الاستهجان.
الأمر الثاني: إن قلت: ما هو المصحح لجعل خطاب يشمل العاجز والغافل والجاهل والى غيره. فما هو المصحح لصدور خطاب عام يشمل هؤلاء مع العلم انهم لم يمتثلوا هذا الخطاب. قال:
المصحح العقلائي لإصدار خطاب عام هو داعوية هذا الخطاب لعدد معتد به، فاذا قالت الدولة: يجب على المواطن دفع الضريبة والمفروض ان هذا الخطاب محرك لمجموعة معتد به من المواطنين كفى ذلك مصححا لاصدار الخطاب على نحو مطلق، من دون ان يقول: المواطن القادر العالم الملتفت الذي هو في محل الابتلاء. فالمصحح العقلائي الداعوية والمحركية نحو عدد معتد به.
نعم، لو فرضنا ان الاغلب عاجز أو غافل أو خارج عن محل الابتلاء كان صدور الخطاب مستهجن. كالخطابات الشخصية.
وبالتالي: ما ذكره صاحب الكفاية من شمول الخطابات القانونية للعاجز والغافل والخارج عن محل الابتلاء مستهجن ليس تاماً. كما ان ما ذكره النائيني والعراقي من استهجان خطاب من لا داعي له خلط بين الخطابات الشخصية والقانونية.
نعم، نلتزم بأن العجز معذّر، فكما ان الخطاب يشمل العالم والجاهل بإطلاق العلماء إلا ان الجاهل معذور، يعني لا يترتب عليه عقوبة، كذلك الجاهل معذور لا ان الخطاب لا يشمله من أول الأمر.
المطلب الثاني: بأن الأعلام الذين ادعوا انحلال العلم الاجمالي فقالوا: إذا علم المكلف اجمالاً وكان احد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء كما إذا علم بنجاسة اناء اما تحت يده أو تحت يد السلطان، قالوا: ان العلم الاجمالي هنا غير منجز وينحل هنا، فإن السر على عدم المنجزية بناءهم على ان التكليف لا يشمل ما خرج عن محل الابتلاء، لأن تكليف الانسان باجتناب اناء السلطان مستهجن، فلا تكليف، فاذا لا تكليف فالعلم الاجمالي غير منجز. وحيث بيّنا بما مزيد عليه: أن هذا خلط بين الخطاب الشخصي والخطاب القانوني، وان شمول الخطاب القانوني لما خرج عن محل الابتلاء ليس بمستهجن، فالخطاب فعلي، فهو يعلم اجمالاً بخطاب فعلي هو «اجتنب النجس» وهذا الخطاب على فعليته وإن كان أحد الطرفين خارجاً عن محل الابتلاء فالنتيجة: ان العلم الإجمالي منجز.
ولو كان الحكم التكليفي لا يشمل ما خرج عن محل الابتلاء لكان الحكم الوضعي ايضا لا يشمل ما خرج عن محل الابتلاء فإن النكتة واحدة. مثلا: حكم الشارع بنجاسة الخمر، هل يشمل الخمر في مغارة في الصين أم لا يشمل؟ فاذا قلتم بأن هذا الخطاب «يحرم شرب الخمر» هذا خطاب تكليفي، لا يشمل ما خرج عن محل الابتلاء، لأنه لغو، إذاً قوله: الخمر نجس ايضاً شموله للخمر الذي في مغارة في الصين لغوٌ، لأنه خارج عن محل الابتلاء، فاذا كان الخروج عن محل الابتلاء موجبا للغوية الخطاب التكليفي فهو موجب للغوية الخطاب الوضعي، ولا نظن ان أحداً يقول بذلك. وأن الخمر الذي ليس في الصين ليس بنجس. فهذا منبه على الفرق الواضح الشاسع بين الخطابات الشخصية والقانونية.
هذا ما ذكره «قده» في مناقشة صاحب الكفاية.
وهنا عدة تعليقات:
التعليقة الاولى: ان ما ذكره من الفرق بين الخطاب الشخصي والخطاب القانوني: بأن توجه الخطاب الشخصي للعاجز أو الغافل أو ما خرج عن محل الابتلاء مستهجن. بينما شمول الخطاب القانوني لما خرج عن محل الابتلاء ليس بمستهجن فيقال: يحرم على المكلف شرب الخمر، وشمول هذا الخطاب للخمر الذي في الصين، هذا الكلام متين. والسر في ذلك: ان المصحح للخطاب الشخصي دعوى لمن لا داعي له، فإذا كان له داعٍ كانت داعويته مستهجنة، فلا يقال للمرجع عالي القدر لا تشرب الخمر، فإن داعوية أو زاجرية من هو منزجر عن الامر لغو مستهجن، بينما المصحح للخطاب القانوني ليس داعوية من لا داع له، وانما المصحح للخطاب القانوني التحفظ على الملاك، وهو إبعاد المكلف عن مفسدة الخمر، لذلك يصح توجه الخطاب القانون بأن يقال: يحرم شرب الخمر وهذا شامل حتى للمرجع العالي القدر، فإن شموله وان كان لا يوجد عنده داعٍ بل هو منزجر عن شرب الخمر فإن شموله ليس بمستهجن.
التعليقة الثانية: انه «قده»: قاس القضية الانشائية على القضية الاخبارية فقال: كما لا انحلال للقضية الاخبارية، فقال: كما لا انحلال في القضية الاخبارية بأن يقول: النار باردة. كذلك لا انحلال في القضية الانشائية بأن يقول يجب على المواطن دفع الضريبة. وهذا القياس غير تام. والسر في ذلك:
أن الماط في الكذب على تعدد الأخبار، لأن الكذب وصف للإخبار. فبما ان الكذب وصف لنفس الإخبار فيقال إخبار كاذب وصادق لذلك وحدة الكذب وتعدده بوحدة الاخبار وتعدده فاذا كان الاخبار واحدا فالكذب واحد وإلا فمتعدد. فلو قال: النار باردة والمفروض ان النار باردة اخبار واحد، فلا محالة الكذب واحد.
بينما في القضية الانشائية وحدة الحكم «أي التكليف» وتعدده في المجعول وعدمه، المدار على المجعول لا على الانشاء، إنما يقال هنا تكاليف أو تكليف بلحاظ هل ان المجعول واحد أو ان المجعول متعدد. لذلك لو قال: زيد وبكر فتاتان. هذا كذب واحد لانهما رجلان وليس فتاتين. وأما إذا قال: الدم والخمر نجسان فيعد مجعولين لا مجعولا واحدا وان كان الانشاء واحداً، فوحدة التكليف أي الحكم وتعدده لا بتعدد الانشاء ووحدته كما في الإخبار بل في تعدد المجعول ووحدته.
التعليقة الثالثة: انه «قده» أفاد: بأن لا فرق بين الاحكام التكليفية والوضعية، فاذا قلتم بأن الاحكام التكليفية لا تشمل من خرج عن محل الابتلاء فكذلك الاحكام الوضعية، ومقتضى هذا الكلام: أن الخمر الذي في مغارة في الصين ليس بنجس، وهذا مما لا يمكن القول به. هذا الكلام محل تأمل، والسر في ذلك: ما هو موضوع التكليفي؟ وما هو موضوع الحكم الوضعي؟.
إنّ موضوع الحكم التكليفي المكلف. لذلك يقال: هل يتعدد الحكم التكليفي بتعدد المكلفين أم لا؟ لأن موضوعه المكلف، فاذا كان هذا المورد خارجا عن ابتلاء المكلف جاءت فهي دعوى انه مستهجن فقال صاحب الكفاية: يحرم شرب الخمر للمكلف الذي ليس في محل ابتلاءه الخمر الذي عند السلطان يكون الشمول مستهجن لأن موضوع الخطاب التكليفي المكلف، لذلك صح التقسيم بين ما دخل في حل ابتلاءه وما خرج عن محل ابتلاءه.
أما موضوع الحكم الوضعي هو ذات العين، ألدم نجس، وجد مكلف أم لم يوجد، الخمر نجس وجد مكلف أم لم يوجد. فاتصاف الموضوعات بالأحكام الوضعية لا ربط فيه بوجود المكلف وعدمه؛ في الربح خمس، في الغنم السائمة زكاة وما اشبه ذلك. بما ان الحكم الموضوعي موضوعه العين لا المكلف، فلا معنى لتقسيمه لما دخل في محل الابتلاء وما خرج، بل نقول: يكفي مصححا لجعل الحكم الوضعي وهو جعل النجاسة للدم أو للخمر، يكفي في ذلك انه معرض الابتلاء ولو شخص واحد. بينما في الحكم التكليفي بناء على الاستهجان: لا يكفي في ذلك فلا بد ان يدخل في حيّز ابتلاء المكلف كي يكون شمول التكليف بالنسبة اليه صحيحا مقبولاً.
التعليقة الرابعة: «- شرحية لا للمناقشة - المناقشة سبق أن تعرضنا لها في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية»:
وهي مسألة الانحلال: هل هناك انحلال للخطاب في مرحلة الجعل أو لا انحلال الا في مرحلة الفعلية، فنقول: هناك من ذهب إلى الانحلال في مرحلة الجعل، كالمحقق النائيني ومدرسته.
وهناك من ذهب إلى عدم الانحلال الا في مرحلة الفعلية كالسيد الشهيد.
فمن يرى الانحلال في مرحلة الجعل ما يدعى الانحلال الدلالي والانحلال الاثباتي بمعنى: ان المولى إذا قال: يجب على المسلم الصيام فهذا الخطاب ينحل اثباتاً وخطابا إلى خطابات عديدة بعدد المسلمين، الخطاب الدلالي لا احد يدعيه. بل الخطاب الصادر واحد، وإنما من يدعي الانحلال في مرحلة الجعل يدعي الانحلال الاعتباري، أي من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص، مثلاً: إذا قال المولى: سميت من ولد في يوم الغدير عليّاً، هذا لا يعني انه صدرت منه تسميات عديدة فيمن ولد بيوم الغدير، وانما الاعتبار العقلائي إذا سمع هذا ماذا يقول؟ يقول: لكل مولود اسم، هذا معنى الانحلال، انحلال اعتباري، يعني ان هذا الخطاب وهو «سميت من ولد في يوم الغدير علياً» ينحل لدى العقلاء لتسميات عديدة بعدد افراد من ولد في يوم الغدير مجرد انحلال اعتباري، لأن انه انحلال في مقام الدلالة والإثبات.
لذلك إذا قال المولى: يجب على المسلم الصيام ينحل إلى مجعولات لا لخطابات أي ينحل لأحكام عديدة بعدد
المسلم البالغ العاقل.
واما من ينكر ذلك كالسيد الشهيد: يقول: لا انحلال دلالي ولا انحلال اعتباري وانما انحلال في مرحلة الفعلية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo