< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ذكرنا فيما سبق: أنه في موارد العلم الإجمالي: تارة: يكون المكلّف، مضطراً إلى الترك. وتارة: يكون المكلّف مما يشق عليه الترك. وتارة: يكون المكلف مما لا داعي له إلى الفعل. فهنا صور ثلاث لكل صورة حكمها:
الصورة الأولى: إذا كان المكلف مضطراً إلى الترك، أي عاجزا عن الفعل، كما لو افترضنا: انه علم إجمالاً إما بكون اللحم الذي بين يديه ميتة أو اللحم الذي بين يدي السلطان، وهو ممن لا يمكنه أصلاً الوصول إلى اللحم الذي بين يدي السلطان، فهو لا محالة مضطر إلى الترك. أي مضطر لترك أحد طرفي العلم الإجمالي وهو أكل اللحم الذي بين يدي السلطان.
فهنا ذهب المشهور: إلى ان العلم الاجمالي غير منجز، والسر في ذلك:
أن حرمة أكل اللحم الذي بين يدي السلطان ليست فعلية قطعا لكون المكلف مضطرا إلى الترك، والاضطرار رافعٌ للفعلية. وأما اللحم الذي بين يديه فهو مشكوك الحرمة شكا بدوياً إذ لعله ليس ميتة، فالأمر دائر بين عدم الفعلية والشك البدوي، فلأجل ذلك ليس هناك علم اجمالي بتكليف فعلي على كل حال بل التكليف في ما اضطر لتركه ليس فعليا قطعا، والتكليف فيما بيده مشكوك الفعلية فالعلم الاجمالي غير منجز.
لكن السيد الشهيد «قده»: ذهب إلى العلم الإجمالي وإن كان منحلاً حقيقةً بلحاظ التكليف كما أفاد المشهور، لكنه ليس منحلاً حقيقةً بلحاظ روح التكليف، وإنما هو بلحاظ روح التكليف منحلٌّ حكماً لا حقيقةً. إذا فكلامه «قده» متضمن لمطلبين:
المطلب الأول: أن العلم الإجمالي في المقام بلحاظ روح التكليف ليس منحلاً حقيقةً. بيان ذلك: قال: إن التكليف بمعنى الزجر كما قال المشهور، فإن الزجر عن اللحم الذي بيد السلطان ليس فعلياً قطعاً، لأنه ليس مضطرا لتركه، والزجر عن اللحم الذي بيده مشكوك، إذ لعله مذكّى، إذا لا يوجد علم إجمالي بزجر فعلي. هذا بلحاظ التكليف.
وأما بلحاظ روح التكليف: أي المبغوضية الناشئة عن المفسدة، فهناك علم بروح فعلية على كل حال، والسر في ذلك:
أنّ هناك فرقاً بين الاضطرار إلى الفعل والاضطرار إلى الترك: فالاضطرار إلى الفعل يقسم الفعل إلى قسمين: بلحاظ المبغوضية بأن يقال: يحرم عليك أكل الميتة، فإن اضطررت للأكل «لا للترك» فهناك فعلان: أكل الميتة عن اختيار واكل الميتة عن اضطرار، والذي يتصف بالمفسدة والمبغوضية هو الأكل عن اختيار، واما الأكل عن اضطرار فليس ذات مبغوضية من الاول، ففي الاضطرار إلى الفعل نتصور قسمين:
قسما يكون ذا مبغوضية، وقسما خاليا عنها.
وأما في الاضطرار إلى الترك: فهو ليس مضطرا لأكل الميتة بل هو مضطر لتركها، أي انه عاجز عن اكلها، فهنا لا يصح ان يقال: ان الترك تارة يكون تركا اختيارياً وتارة يكون تركا اضطراريا كما نقول في الفعل.
أي لا معنى لأن يقال ان ترك أكل الميتة عن اختيار كان هذا الترك متصفاً بالمفسدة والمبغوضية، وإن ترك الأكل عن اضطرار فليس كذلك. هذا مما لا معنى له. لأن أكل الميتة مبغوض على كل حال تركته عن اختيار أو تركته عن اضطرار، فإن غاية ذلك انك عاجز عن المبغوض لا أن بغضه يدور مدار تركك الاضطراري أو الاختياري. فأكل الميتة يبقى مبغوضاً على كل حال، غاية ما في الباب في بعض الفروض قادر على تناول هذا المبغوض وهو ما لو كان تركك عن اختيار، وفي بعض الفروض انت عاجز عن هذا المبغوض وذلك إذا كان تركك عن اضطرار، لا ان الفعل تزول عنه المبغوضية لأجل انك عاجز عنه فالعجز عن الفعل لا يخرجه عن المبغوضية، بخلاف الاضطرار عن الفعل، فإن الاضطرار عن الفعل يخرجه عن المبغوضية.
فبما ان الاضطرار إلى الترك «العجز عن الفعل» لا يخرج الفعل عن المبغوضية. صح لنا أن نقول: أن هناك علماً اجمالياً بمبغوضية فعلية على كلا حال. فأنا اعلم أن أكل لحم الميتة مبغوض على كل حال سواء كان هو اللحم الذي بين يدي السلطان والذي لا اقدر على فعله أو اللحم الذي بين يدي، على اية حال هناك مبغوضية فعلية، فهذه المبغوضية الفعلية متنجزة بالعلم الاجمالي، فليس هناك انحلال حقيقي على مستوى روح الحكم، وان كان هناك انحلال حقيقي على مستوى الزجر والمنع.
فإن قلت: ذكرتم في باب الوجوب أن القدرة تارة تكون دخيلة في أصل الملاك؟ وتارة تكون دخيلة في استيفاء الملاك. مثلاً: يجب دفن الميت، والقدرة على دفن الميت ليس دخيلة في الملاك، فإن دفن الميت ذو ملاك وذو مصلحة قدرت عليه أم لم تقدر، فالقدرة لا دخل لها في ملاكه، فاذا قال دفن الميت ذا محبوبية وذا مصلحة قدرت عليه أم لم تقدر.
بينما إذا قال الشارع: يجب الصوم وانت لا تقدر على الصوم، فالصوم غير المقدور أصلاً ليس ذا ملاك كي يكون محبوباً أو مشروعاً صارت القدرة دخيلة في اصل الملاك فلا ملاك للصوم غير المقدور من الاساس.
فهذا التقسيم في باب الوجوب لم لا تقولوه في باب الحرمة؟.
يعني إذا قال الشارع: يحرم أكل الميتة لأجل المفسدة: ان القدرة على أكل الميتة دخيلة في اصل الملاك، يعني ان كان قادرا على أكل الميتة بحيث يمكنه الفعل ويمكنه الترك، فأكل الميتة ذو مفسدة وذو مبغوضية.
وأما إن لم يكن قادرا من الاساس على أكل الميتة فأكل الميتة بالنسبة اليه ليس ذا مفسدة ولا ذا مبغوضة. فنفس التقسيم الذي ذكرتموه في الوجوب يأتي في الحرمة. وبناء على ذلك: لا يحصل لديه علم اجمالي بمغضوية فعلية، لأن المبغوضية تابعة للملاك فيقول: إن كان الميتة فيما أنا قادر عليه وهو اللحم الذي بيدي، فهناك توجد مفسدة ومبغضوية. أما الميتة لو كانت في اللحم غير المقدور وهو ما بين يدي السلطان فلا مفسدة ولا مبغوضية، فليس عندي علم اجمالي بمبغوضية فعلية على كل حال.
قلت: هناك فرق بين الغرض من الوجوب والغرض من الحرمة.
فإن الغرض من الوجوب: الوصول إلى الفعل، الوصول إلى المصلحة، فبما ان الغرض من الوجوب ان تصل إلى الفعل كي تصل إلى المصلحة، لذلك يتصور الفوت في باب الوجوب فيقال: هل ان تركك للواجب مفوت للملاك أم لا؟ فيقال: يجب عليك دفن الميت مثلاً فإن تركت دفن الميت كان تركك مفوتاً للملاك لأن الغرض ان تصل إلى ذاك الملاك فلما كان الترك في باب الوجوب يتصف بالفوت، قسمنا الترك إلى ترك مفوت وهو ما إذا كانت القدرة غير دخيلة في الملاك، وترك غير مفوت وهو ما إذا كانت القدرة دخيلة في الملاك، فنقول: إن تركت عن اختيار كان تركك مفوتا للملاك، وإن تركت عن اضطرار كان تركك غير مفوت للملاك، لأن اساساً الملاك منوط بالقدرة. هذا في باب الوجوب متصور.
اما في باب الحرمة: فحيث ان الغرض من الحرمة البعد عن الفعل لأجل البعد عن المفسدة. فالغرض هو البعد، وهذا الغرض يحصل فيه أيضاً، فإن من عجز عن أكل الميتة كان بعيدا عن الفعل وبعيداً عن المفسدة، فالغرض من الحرمة يتحقق بالترك وان كان تركا عن عجز، بخلاف الغرض من الوجوب لا يتحقق بترك عن عجز.
إذاً لأجل ذلك قلنا «في باب الحرمة» قدرت أو لم تقدر تركك على أية حال محقق للغرض، لأن في تركك بعداً عن المفسدة والمبغوضية، كان تركك عن اختيار أو عن اضطرار. فلأجل ذلك: لا يصح ان نقول في باب الحرمة الترك مفوت وغير مفوت، فنقسم ونقول: قد تكون القدرة دخيلة في الملاك فالترك غير مفوت، وقد لا تكون دخيلة فالترك مفوت؛ فإن هذا لا معنى له، إذ على اية حالة الترك غير مفوت، لأن البعد عن المفسدة حاصل، فبناء على ذلك: لا يصح تقسيم الفعل في باب الحرمة إلى فعل ذي مبغوضية وفعل خال عن المبغوضية، بل هو على كل حال ذو مبغوضية فالعلم الاجمالي فعل ذو مبغوضية على كل حال.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo