< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/02/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

وصل الكلام إلى الصورة الثالثة: وهي: ما إذا حصل الاضطرار إلى الطرف المعين، بعد حصول العلم الإجمالي كما إذا علم إجمالاً بخمرية أحد المانعين ثم حصل الاضطرار إلى الأبيض منهما، فهل يكون العلم الإجمالي منجزاً في الطرف غير المضطر اليه أم لا؟.
وهنا مسألتان: تعرض إليهما الأعلام «قده»؛ وهما مسألتان كبرويتان:
المسألة الأولى: في الفرق بين شمول الحكم الموضوع، فإن شؤون الحكم قيود للحكم موجبة لقصوره عن الامتداد من أول الأمر، بينما شؤون الموضوع لا تأثير لها على نفس الحكم وقابليته للبقاء.
ومن أجل بيان ذلك: لابد من إيضاح الفرق بين فرض التلف وفرض الاضطرار.
إذ تارة: يتلف الموضوع، أو يخرج عن محل الابتلاء. وتارة: يضطر المكلف إلى ارتكاب الموضوع. فما هو الفرق الدقيق بين فرض التلف وفرض الاضطرار مثلاً. إن الفرق بينهما هو الفرق بين شؤون الحكم وشؤون الموضوع. فقد أفاد صاحب الكفاية «قده» في «متن الكفاية»:
إن هناك فرقاً بين الاضطرار والحرج، وبين التلف والخروج عن محل الابتلاء. فالاضطرار والحرج من شؤون الحكم، بمعنى انهما قيود في نفس الحكم، أي أن المستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ أو قوله: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾: أنّ الحرج والاضطرار قيد في الحكم نفسه. فإذا اضطر لشرب المتنجس مثلاً. أو كان اجتناب المتنجس حرجاً عليه، كشف ذلك عن قصور في الحكم من أول الأمر. أي أن حرمة شرب النجس من أول الأمر هي قاصرة عن الامتداد لما بعد الاضطرار أو الحرج.
وأما إذا علم المكلف بأن هذ ا الإناء نجس فيحرم شربه، ولكن تلف بعد مر عليه يوم مثلا أو خرج عن محل الابتلاء، فحينئذٍ تلفه أو خروجه عن محل الابتلاء لا يكشف عن ضيق الحكم من أول الأمر بل الحكم وهو حرمة شرب النجس حكم قابل للاستمرار والدوام وليس التلف من قيوده، إذ الشارع لم يقل: ما جعل عليكم في الدين من تلف، بل «من حرج» فالحرج كاشف عن ضيق الحكم من أول الامر، واما التلف فهو من موت الموضوع لا انه شأن من شؤون الحكم، لذلك ما كان من شؤون الحكم موجب لقصر المجعول من أول الأمر. وما كان من شؤون الموضوع لا أثر له على مساحة الحكم وسعته. وإنما الموضوع هو الذي انعدم لا ان الحكم غير قابل للاستمرار والبقاء، فبناءً على هذا التصور الذي طرحه صاحب الكفاية «قده» في الفرق بين شؤون الحكم وشؤون الموضوع. تظهر الثمرة: في منجزية العلم الإجمالي. بيان ذلك: إذا علم اجمالاً بنجاسة أحد الإناءين أو غصبية أحد المائعين وبعد أن مرّ يوم على المنجزية تلف أحدهما، أو بعد أن مر يوم على المنجزية اضطر لشرب أحدهما. فهنا: في صورة التلف يبقى الحكم على المنجزية اي ان العلم الاجمالي بنجاسة احد المائعين يبقى منجزاً حتى بعد تلف احدهما أو خروجه عن محل الابتلاء، أو تطهيره ونحو ذلك؛ لأن المتخلف هو الموضوع والحكم لم يطرأ عليه شيء بل الحكم قابل للبقاء، غايةا لامر الموضوع تلف أو انعدم، وإلا فالحكم قابل للبقاء والاستمرار، فمنجزية حرمة شرب النجس باقية، ولا تنقلب عما هي عليه بعد تلف احد الطرفين.
أما اذا تنجز العلم الاجمالي بنجاسة أحد المائعين ثم اضطر لشرب الماء منهما، أو كان ترك شرب الماء منهما حرجاً عليه، فهنا: ينكشف له أن الحرمة لو كانت في الماء لكانت قصيرة من الأول ولا امتداد لها لما بعد الاضطرار، وعليه: لا يكون المورد من موارد الشك في السقوط بل من موارد الشك في الثبوت. ففي فرض التلف يكون المورد شكا في السقوط، لان الحكم المتنجز وهو حرمة شرب النجس قابل للبقاء والاستمرار. غاية ما في الباب تلف احد الطرفين. فان كان التالف هو النجس فقط سقطت الحرمة لانتفاء موضوعها وإلا فهي باقية، فالشك شك في السقوط، فيبقى العلم الإجمالي منجزاً.
وأما في فرض الاضطرار لشرب أحد الطرفين كما لو كان احدهما ماء والاخر حليب، فهنا لاضطراره لشرب الماء لهذين المائعين ينكشف له انه لو كان النجس هو الماء اصلا الحرمة لا ثبوت لها بعد الاضطرار، إذاً فيستطيع ان يقول: إن كان النجس في طرف الماء فلا ثبوت له واقعاً الآن، وإن كان في الطرف الآخر فهو مشكوك الثبوت من أول الاول، فالعلم الاجمالي غير منجز.
إذاً صاحب الكفاية «قده» فرّق بين قيود الحكم وقيود الموضوع، فإن قيود الحكم إذا طرأت بعد منجزية العلم الإجمالي كشفت عن قصور منجزيته لما بعد هذا القيد، بينما قيود الموضوع لا ترفع المنجزية بعد وقوعها.
هذه الكبرى التي افادها في متن الكفاية عدل عنها في هامش الكفاية. ولعلّ وجه العدول هو:
اولاً: إن قيود الموضوع قيود للحكم ثبوتاً وإن لم تكن قيودا له انشاءً بمعنى ان المولى لم يقل: تبقى الاحكام ما لم يتلف كذا أو ما لم يخرج عن الابتلاء، أو ما لم يتطهر لم يقل في مقام الإنشاء ذلك. أما بما أن علقة الحكم بالموضوع علقة المعلول لعلته التامة، بمعنى أن فعلية الموضوع خارجاً تمام السبب لفعلية الحكم، فلأجل ذلك: مقتضى هذه العلقة رجوع قيود الموضوع رجوع قيود الموضوع ثبوتا ولبّاً، وإن لم تكن قيوداً لها انشاءً، فلا حكم من الأول إلا بمقدار موضوعه، بحيث إذا انعدم أو تلف موضوعه كشف عن مساحة الحكم من الاول وانها بهذا المقدار لا اكثر من ذلك.
وهذا ما ذكرناه في بحث رجوع القيود إلى الهيئة أو إلى المادة.
ثانيا: على فرض التفريق بين شؤون الحكم وشؤون الموضوع كما افاد في الكفاية: فان ظاهر ادلة الاضطرار رجوع الاضطرار إلى الموضوع لا رجوع الاضطرار إلى الحكم، بمعنى: ان الظاهر من قوله تعالى ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ أنّ الاضطرار قيد في الحرام وليس قيداً في الحرمة. كما هو ظاهر قوله: «رفع عن أمتي ما اضطروا اليه». أو قوله : «وما من شيء حرّمه الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر اليه».
فهو يقول: المضطر اليه تسقط عنه الحرمة فالاضطرار أخذ قيدا في الموضوع وليس قيدا في نفس الحكم، فليس الاضطرار امراً آخر مختلف حقيقة عن التلف والخروج عن محل الابتلاء والتطهير وما شاكل ذلك.
فبناء على ذلك: لا فرق بين الصورتين، اي ان يعلم اجمالا بنجاسة الماء أو الحليب ثم يتلف الماء، أو يعلم اجمالاً بنجاسة الماء أو الحليب ثم يضطر إلى شرب الماء فلا فرق بينهما من حيث النتيجة. إما المنجزية تبقى في كليهما معا أو ترتفع في كليهما معا والتفصيل بلا فاصل.
هذا تمام الكلام في المسألة الكبروية الأولى.
المسالة الثانية: ما ذهب اليه سيد المنتقى «قده» وجعله من متبكراته ومقترحاته: وهو:
إنما يكون العلم الاجمالي منجزاً بعد طرو الاضطرار لأحد طرفيه بناء على مسلك العلية لا بناء على مسلك الاقتضاء، بيان ذلك: إذا علم اجمالاً بنجاسة الماء أو الحليب ثم اضطر لشرب الماء، فإن قلنا ان العلم الاجمالي علة تامة للمنجزية بمعنى أنه لا يتوقف على أمر آخر سواه، فالمفروض ان هذا العلم الاجمالي قبل الاضطرار كان منجزاً، فاذا كان قبل الاضطرار منجزا وهو علة تامة للمنجزية فلا ينقلب عما وقع عليه فيبقى منجزاً حتى بعد حصول الاضطرار لاحد طرفيه أو تلفه أو خروجه عن محل الابتلاء وامثال ذلك.
أما إذا قلنا بمسلك الاقتضاء. وهو: مسلك النائيني والخوئي وتلامذته «قده»:
فإن مقتضى الاقتضاء هو: عدم المنجزية في الطرف الباقي، والسر في ذلك: أن المقصود بكون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجيز، ان العلم وحده ليس كافيا في المنجزية بل يحتاج إلى ضميمة وهي: تعارض الاصول في اطرافه، فاذا تعارضت الاصول في اطرافه تمت المنجزية والا فلا.
فنسأل في المقام: هل ان الأصول متعارضة أم لا؟
فنقول: هذا يبتني على مفاد الاصل: كأصالة الطهارة اصالة البراءة اصالة الحل، هل مفاد الاصل طهارات عديدة بعدد آنات الشك؟ أم طهارة واحدة مستمرة ما لم يحصل المنجس؟.
فمثلاً إذا جئنا للملكية فنقول: من حاز شيئاً ملكه، فبالحيازة يحكم الشارع بملكية واحدة مستمرة إلى الناقل قهرياً أو اختيارياً، لا أنّ هناك ملكيات عديدة بعدد الآنات بل ملكية واحدة.
بينما إذا جئنا إلى هذا المائع المشكوك الذي لا ندري انه متنجس أو طاهر. فهل مفاد أصالة الطهارة أن هذا الإناء محكوم بطهارة واحدة مستمرة إلى ان يحصل منجس إلى هذا الاناء، أم طهارات عديدة بعدد آنات الشك، فكأن في كل آن آن فيه جريان لأصالة الطهارة.
والصحيح هو الثاني: لأنّ موضوع الاصل هو الشك الفعلي لا الشك التقديري، والشك الفعلي متجدد في كل آن، فبما أن موضوع أصالة الطهارة أو البراءة أو الحلّية أو غير ذلك هو الشك الفعلي والشك الفعلي متعدد بتعدد الآنات فلا محالة مفاد آصالة الطهارة طهارت عديد بعدد آنات الشك.
فبناء على ذلك: إذا حصل علم اجمالي بنجاسة احد المائعين وتنجز وبعد ان تنجز اضطر المكلف لشرب الماء منهما، فنقول: قبل اضطراره كانت الأصول متعارضة، اي كان اصل الطهارة في طرف الماء معارضة لأصل الطهارة في طرف الحليب. أما بعد ان طرأ الاضطرار وصار شرب لماء مباحا واقعا لأجل الاضطرار اليه لم تجر فيه اصالة الطهارة لانه لا حاجة له بعد ان صار شربه حلالا للاضطرار، فاصالة الطهارة لا تجري فيه في طرف الماء فتجري في طرف الحليب بلا معارض، لان جريانها في طرف الحليب لا بلحاظ ما قبل الاضطرار بل بلحاظ ما بعد الاضطرار، حيث إن مفادها طهارات عديدة بعدد آنات الشك، فتجري الآن اصالة الطهارة في طرف الحليب بلا معارض، فاذا لم يتحقق تعارض في الاصول انحل العلم الاجمالي، فيجوز شرب الماء ثم شرب الحليب. أما شرب الماء فلأجل الاضطرار، وأما شرب الحليب فلاصالة الطهارة أو البراءة أوا لحلي، باعتبار ان مفادها فيما بعد الاضطرار مما لا معارض له. ولا معنى لأن يقال: بان اصالة الطهارة في الماء قبل حصول الاضطرار معارضة لأصالة الطهارة في الحليب بعد حصول الاضطرار، لأن هذا خلف كون مفاد كل منهما طهارات عديدة بعدد آنات الشك الفعلي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo