< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/11/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ذكرنا: أن الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي متقوم بثلاثة شروط:
الشرط الثالث: محل كلام. وهو: ان ينصب العلم التفصيلي على مصب العلم الإجمالي من حيث السنخ. مثلاً: إذا علم المكلف اجمالاً بنجاسة احد إناءين، وعلم تفصيلاً بحرمة الإناء الأبيض من حيث كونه مغصوباً، وهنا: هل يتحقق الانحلال الحكمي أم لا؟.
حيث ذهب سيدنا «قده» في «مصباح الاصول» الى الانحلال الحكمي. والسر في ذلك:
أن المعلوم بالتفصيل وإن اختلف عن المعلوم بالاجمال من حيث الجنس، حيث إنّ المعلوم بالإجمال هو اجنتب النجس، بينما المعلوم بالتفصيل هو اجتنب المغصوب. إلا أنّ ما دخل في العهدة هو حكم واحد وهو حرمة الشرب سواء كان منشأ حرمة الشرب النجاسة أو الغصب. فبما أنّ ما هو الفعلي في حق المكلف حكم واحد وهو حرمة الشرب إذا بعد تنجز حرمة الشرب تفصيلاً تجري أصالة الطهارة في الإناء الآخر بلا معارض.
ولكن قد يقال: بأن هذا الشرط معتبر. وذلك: لأنه في المثال لو كان النجس هو المغصوب واقعاً لكان هناك شدةٌ في الحرمة، فإن حرمة الشرب بسبب الغصب غير حرمة الشرب بسبب الغصب والنجاسة. إذ أنّ النجاسة والغصب سببان فعليان لفعلية الحرمة، فلا محالة لو كان النجس هو المغصوب لكانت حرمة الشرب أشد، ولذلك تكون مستلزمة لشدة العقوبة. فعلى ذلك: يكفي في جريان الاصل نفي الشدة وإن لم ينفي أصل الحرمة، بأن نقول: لدينا إناءان، نعلم إجمالاً بنجاسة احدهما، ونعلم تفصيلاً بغصبية الأبيض منهما، فأصالة الطهارة في الإناء الأزرق تعارض أصالة الطهارة في الأبيض. مع أنه معلوم الحرمة لكونه غصباً.
فإن قلت: ما هي الثمرة من جريان اصالة الطهارة في الإناء المغصوب؟.
قلت: نفي شدة الحرمة، إذ لو كان النجس هو لكانت الحرمة اشد، فنفي شدة الحرمة مبرر لجريان اصالة الطهارة في الإناء المغصوب فتتعارض مع أصالة الطهارة في الإناء الازرق. فيكون العلم الاجمالي منجزاً.
إذاً يعتبر في انحلاله ان ينصب العلم التفصيلي على مصب العلم الاجمالي والا فلا.
هذا هو الكلام في انحلال العلم الاجمالي حكماً بالعلم التفصيلي.
وأمّا الانحلال الحكمي بالإمارة: فكما إذا علمنا إجمالاً بعدم تذكية أحد اللحمين، ثم قامت إمارة كخبر الثقة على أن اللحم الأيسر غير مذّكى. فهل يحصل الانحلال للعلم الإجمالي أم لا؟.
وهنا صورتان:
الصورة الأولى: تارة يكون مفاد الإمارة معيِّناً للمعلوم بالاجمالي، بأن يكون مفاد خبر الثقة: ان ما علمت به من عدم التذكية هو في اللحم الايسر، فمفاد الامارة تعيين المعلوم بالإجمال ولازم ذلك نفيه عن غيره. فكأن للإمارة مدلولين: مطابقي، وهو: عدم تذكية الايسر. والتزامي، وهو: خلو الأيمن من المحذور.
فهنا: يجوز تناول الايمن بلا حاجة لأصل عملي لأن حليته مدلول التزامي لنفس الإمارة، وهذا مبنيٌ على حجية الإمارات في لوازمها ومثبتتها، ولذلك: لو كان الجاري في اللحم الأيسر الأستصحاب بأن كان اللحم الأيسر سابقاً غير مذكى فجرى الاستصحاب فيه، فإنه لا ثبت ان الأيمن خال من المحذور لعدم حجية الأصل في مثبتاته ولوازمه، إذا الانحلال الحكمي فيما إذا قامت إمارة معينة للمعلوم بالاجمال في أحد الطرفين واضح.
وإنما وقع النزاع في الانحلال إذا لم تكن الأمارة معينة: كما لو علم اجمالاً بنجاسة أحد الإناءين من دون خصوصية وقام خبر ثقة على أن الإناء الأبيض نجسٌ بالدم، فهنا: ما هو الانحلال المتصور في المقام؟.
ورد في كلمات الأعلام ثلاثة انواع من الانحلال: الانحلال التعبدي؛ والانحلال العقلائي؛ والانحلال الحكمي.
النوع الاول: وهو ما ركّز عليه سيدنا «قده» في «مصباح الاصول»: من أنّ الانحلال الحاصل انحلال تعبدي. بمعنى: ان الشارع يتعبدنا بنفس الانحلال. فهو انحلال متعبد به.
وبيان ذلك بصياغتين:
الصياغة الاولى: أن يقال: إذا علمنا اجمالاً بنجاسة احد الاناءين وعلمنا تفصيلا بنجاسة الأبيض الا تقولون بالانحلال الحقيقي لأجل العلم التفصيلي بنجاسة الابيض؟ فالجواب: نعم. فإذا لم يحصل علم تفصيلي ولكن حصلت أمارة، كما لو قام خبر ثقة على نجاسة الابيض، فمقتضى أن معنى حجية الأمارة جعل العلمية كما هو مسلك سيدنا «قده»: إذاً فالشارع اعتبر خبر الثقة هنا علماً، فكما أنه يترتب على العلم الانحلال كذلك هذا الاثر يترتب على ما اعتبره الشارع علماً. فهذا تعبد بالانحلال.
الصياغة الثانية: هذه الصياغة ناظرة لنفس العلم الاجمالي -: ان العلم الاجمالي وهو العلم بنجاسة احد الاناءين مركب من عنصرين: علم بالجامع وشك في الخصوصية. فهو يعلم بنجاسة الأحد ويشك بنجاسة الأبيض. فإذا جاءت الامارة فقالت: الإناء الأبيض نجس، أي أن الشارع تعبدنا بأن هذه الإمارة علمٌ. فالتعبد بالعلم تعبد بعدم الشك، فإن معنى قول الشارع: أنت عالم بنجاسة الأبيض لقيام خبر الثقة، أي أنت لست شاكّاً في نجاسة الابيض. فبما أنّه تعبّد بعدم الشك إذاً هو تعبد بزوال العلم الاجمالي، لأنّ العلم الاجمالي متقوم بعنصرين: علم بالجامع، وشك في الخصوصية. فاذا تعبدنا الشارع بعدم الشك في الخصوصية فقد زال العلم الاجمالي بزوال العنصر الثاني ولكن زوالا تعبديا. وهذا معنى الانحلال التعبدي.
ولكن السيد الشهيد «قده»: أورد عليه:
أما بالنسبة للصياغة الأولى: فإن انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي اثر تكويني وليس أثراً شرعياً، وإنما يتصور التعبد، أي تنزل الأمارة منزلة العلم في الآثار الشرعية الجعلية لا في الأثر التكويني. فلا معنى لأن يقول الشارع: انت عالم والغرض من ذلك زوال العلم الإجمالي وجداناً فإنّ هذا اثر تكويني لا شرعي.
وأمّا بالنسبة للصياغة الثانية: فقد اشكل اشكالا مبنائياً، محصّله:
أن الشك في الخصوصية لازم للعلم الإجمالي لا مقومٌ. فمن علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين فلازم علمه ذلك الشك في نجاسة الأبيض لا انه ركن مقوم للعلم الاجمالي. فاذا جاءت الامارة وقالت: الإناء الأبيض نجس، وسلمنا مع السيد أن التعبد بعلمية الامارة تعبد بعدم الشك، فغايته: أن المشرّع تعبدنا بزوال لازم العلم لا بزوال نفس العلم. والتعبد باللازم لا يعني التعبد بالملزوم. فغايته ان المشرع قال: أنا اتعبدكم بعدم الشك في نجاسة الأبيض لقيام خبر الثقة على نجاسته. لازم تعبدي هذا ان اتعبد بزوال العلم الإجمالي لأجل التعبد بزوال لازمه، لكن لا ملازمة بين الأمرين.
وثانياً: ما هو الأثر لهذه الحكايات؟ اي ما الأثر الذي يترتب على الانحلال التعبدي أكثر من الانحلال الحكمي حتى يفر في مصباح الاصول من الانحلال الحكمي الى الانحلال التعبدي؟.
فليس الاثر الا جريان اصالة الطهارة في الاناء الازرق بلا معارض ونفس هذا الاثر يترتب على الانحلال التعبدي. فسواء قلنا: بأن الانحلال تعبدي أو حكمي لا أثر إلّا أنّ أصالة الطهارة لا تجري في الأبيض لقيام خبر الثقة على نجاسة فتجري في الازرق بلا معارض.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo