< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الفقه

37/02/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الخلل الواقع في الصلاة

ما زال الكلام: في أنّ إطلاق معتبرة جعفر ابن محمد أبن يونس: يسأل أبا الحسن : «عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا اعلم أنه ذكيٌّ؟ فكتب : لا بأس به». هل يُقيَّد هذا الاطلاق بمفهوم الشرط في معتبرة اسحاق ابن عمار، حيث قال: «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس»؟. ببيان: أنه إنّما تصح الصلاة في مشكوك التذكية إذا كان مأخوذاً من أرضٍ غلب عليها المسلمون.
ولكنَّ السيّد الأُستاذ «دام ظله» أفاد: بأنّ «معتبرة جعفر ابن محمد» خطاب ترخيصي وارد في مقام الافتاء، والخطاب الترخيصي الوارد في مقام الافتاء لا يقبل التقييد بالمقيّد المنفصل. لأنّ الاتكاء على المقيّد المنفصل مع كون المقيّد إلزامياً إلقاء للمكلف في مخالفة الواقع، وإلقاء المكلّف في مخالفة الواقع قبيحٌ مستهجنٌ، فلا محالة يكون المقيّد المنفصل معارضاً لا مقيّداً، ومقتضى ذلك حمله على الحكم الكراهتي أو الندبي.
ويلاحظ على هذا المطلب عدة ملاحظات:
الملاحظة الاولى: كبروية، إنّ سيرة المتشرعة من اصحاب الائمة ومن الشيعة المعاصرين لهم جرت على العمل بالروايات الصادرة في مقام التعليم من دون انتظار لورود المقيدات المنفصلة، فقوله : «أيما رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» أو قوله: «ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر». أو قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون». وامثال ذلك من الروايات المتعرضة لكبريات في مقام التعليم. فإن ورودها في مقام تعليم أو بيان الكبريات الشرعية وليست في مقام الافتاء لا ينفي ان من حق المكلف العلم بها إذا تحقق موضوعها وهذا ما جرت عليه سيرة الاصحاب والشيعة في أن أي رواية تصدر من الأئمة يعملون بها ولا يتنظرون خمسين سنة أن يجيء المقيد من إمام آخر أو لا يجيء.
فمقتضى جريان سيرة المتشرعة على العمل بالعمومات الترخيصية والإلزامية وإن كانت واردة في مقام التعليم أن لا فرق بين روايات الافتاء وروايات التعليم. فإنه مادامت روايات التعليم في معرض العمل بها بمقتضى سيرة المتشرعة،
فكيف يصح للإمام ان يتكأ فيها على المقيد المنفصل مع كونها خطابا ترخيصياً في معرض العمل به، فلا فرق في هذه الجهة بين روايات الافتاء وروايات التعليم. بالنتيجة: هذا خطاباً ترخيصياً في معرض العمل به وإن ورد على سبيل التعليم، ومقتضى كونه في معرض العلم به ان لا يصح الاتكاء على القرينة المنفصلة إذا كانت الزامية، لأن الاتكاء على المخصص المنفصل القاء للمكلف في مفسدة مخالفة الواقع. فلابد من جواب.
ثانياً: إنّ قبح إيقاع المكلف في مخالفة الواقع قبح اقتضائي، وليس على نحو العلة التامة، حتى يقال: بأن نتيجة ذلك استهجان الاتكاء على المقيد المنفصل. فإن استهجان العرف الاتكاء على المقيد المنفصل انما يتم لو كان القاء المكلف في مفسدة مخالفة الواقع قبحاً تاماً لا يتخلف، مقتضى ذلك: ان يستنهجن العرف الاتكاء على القرائن المنفصلة، لأن في اتكاءك على القرينة المنفصلة تلقي المكلف في مخالفة الوقاع، ولكن المفروض أنه قبح اقتضائي يعني يزول بأدنى مبرر ومصلحة في الترخيص.
فمثلا: أجمع كل الأصوليون بلا استثناء على أن الترخيص الظاهري في الحرام الواقعي ليس به بأس، فإذا شك المكلف في حرمة شيء كما لو شك في حرمة اكل الأرنب مثلا أو شك في حرمة التدخين مثلا فإن شكه مجرى لأصالة البراءة أو اصالة الحل، وهذا ترخيص ظاهري؛ فلو كان التدخين محرّماً واقعاً ألم يكن الترخيص الظاهري القاء للمكلف في مفسدة مخالفة الواقع، فإن الترخيص الظاهري في أمر محرّم واقعاً القاء للمكلف في مخالفة الواقع فما هو العلاج؟.
فيقال: العلاج إنّ مصلحة التسهيل يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، فبما أن مصلحة التسهيل مصلحة تداركية، أي يتدارك بها ما فات بها من مصلحة الواقع، لم يكن القاء المكلف في مخالفة الواقع قبيحا في الفعل.
فكما ذكر هذا تبريرا للترخيص الظاهر في موارد مخالفة الواقع صح ذلك تبريرا لإلقاء خطاب ترخيصي في مقام الافتاء مع اتكاء هذا المقنن على قرينة منفصلة، فإن غاية ما يترتب على هذا الاتكاء القاء المكلف في مخالفة الواقع. والقاء المكلف في مخالفة الواقع لأجل مصلحة التسهيل عليه ليس به قبح كي يرى العرف بأن الاتكاء على القرائن المنفصلة أمر مستهجنٌ.
إذاً بما أنه لو كان المولى متكئا في الخطابات الترخيصية الواردة في مقام الافتاء على مقيد الزامي واقعي سيصدر من الامام الذي بعده أو منه هو في زمن اخر، فغايته انه رخص فيما هو حرام واقعا الا ان هذا الترخيص ترخيص ظاهري ما دام المكلف لم يصل اليه المقيد الالزامي، والترخيص الظاهر في مخالفة الواقع لأجل التسهيل على المكلف أو لأجل التدرج في بيان الاحكام الشرعية ليس أمراً قبيحاً. فبما أنّ العرف ملتفت إلى ان المولى قد يتكأ في خطاباته الترخيصية الواردة في مقام الافتاء على مقيدات الزامية ترخيصا ظاهريا من أجل مصلحة التسهيل فمع التفات العرف إلى ذلك لا يرى العرف أنّ الاتكاء على المقيِّد الالزامي أمر مستهجن.
ثالثاً: نأتي للمناقشات البنائية: لو سلّمنا بتمامية مبناه «دام ظله» مع ذلك نقول: إنّ المشكلة والتي هي مناط القبح هي القاء المكلف في مفسدة مخالفة الواقع، لكنّ هذا المحذور لا ينطبق على محل كلامنا، لأن الشرط في محل كلامنا شرط ذكري وليس شرطاً واقعياً. وبناء على ذلك: انه يشترط في صحة الصلاة في الثوب أن يكون مذكى، إلا أنّ هذا الشرط شرط واقعي أم شرط ذكري؟، شرط ذكري، لأن المكلّف لو أخلّ بهذا الشرط عن نسيانا أو عن جهل قصوري لكانت صلاته صحيحة بمقتضى حديث «لا تعاد»، فمقتضى حديث «لا تعاد الصلاة الا من خمسة»: ان من أخلّ بغير الخمسة نسيانا أو جهلا قصوريا فصلاته صحيحه واقعا، وبالتالي من صلى في ثوب ميتة نسيانا أو جهلا قصورياً فصلاته صحيحة واقعاً. فلو ان المولى قال: «لا بأس بالصلاة في مشكوك التذكية» ولم يصدر مقيّداً إلّا بعد خمسين سنة، وكان في الواقع يشترط في صحة الصلاة أن يكون الثوب مذكّى أو قامت عليه امارة على امارات التذكية كسوق المسلمين أو يد المسلم، والمكلف عمل بالرواية الواردة في مقام الافتاء. ثم بعد خمسين سنة ورد عن الإمام الذي بعده: انه يعتبر في الصلاة أن يكون الثوم مذكى. فقال: أنا علمت بكلام الإمام السابق. فغايته انه اخل بالشرط عن جهل قصوري، وبالتالي فصلاته صحيحة واقعاً ومقتضى انه صلاته صحيحة واقعا ان المولى حينما القى عليه الخطاب الترخيصي على نحو الاطلاق ولم يقيّده بالمقيّد الالزامي فغايته أنه أخلّ بالشرط عن جهل قصوري، لكنه لم يلقه في مفسدة خلاف الواقع. لأن صلاته صحيحة واقعاً. فأي قبح في ذلك؟!.
فنحن نقول: ما دام الشرط شرطا ذكريا لا شرطاً واقعياً فما دام المكلف لم يعلم به، إذاً الشرط غير ثابت في حقه، ومقتضى ذلك ان صلاته صحيحة واقعا، فذكر الخطاب الترخيصي على اطلاقه مقام الافتاء لا يترتب عليه المحذور وهو القاء المكلف في مخالفة الواقع.
لكن هذا لا يعني ما ذكره شيخنا الاستاذ «قده» ان الاحتياط لا معنى له، حيث أفاد شيخنا الاستاذ «قده» في «ارشاد الطالب، ج1، ص26»: إذا كانت صلاته صحيحة واقعا، إذاً الاحتياط لا معنى له، الاحتياط بالتحفظ، بأن نقول: تحفظك على الثوب بأن تسال عن تذكيته أو عدم تذكتيه. مثلا: تحفظك في ثوب الصلاة ليس راجحاً بداعي الاحتياط لأنك حتى لو صليت فصلاتك صحيحة واقعا فأي وجه لرجحان التحفظ على سبيل الاحتياط، فلذلك قال شيخنا «قده»: انه بناء على ذلك: لا يصح حمل هذه رواية ابي بصير: «سألت ابا عبد الله عن الصلاة في الفراء؟ قال: كان علي ابن الحسين رجلاً صرداً فلا تدفئه فراء الحجاز لأن دباغتها بالقرض فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلهم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة القاه والقى القميص الذي تحته، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إن اهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغته ذكاةٌ». فعدّة من الاعلام حملوا هذه الرواية على الاحتياط. أي أن التحفظ في ثوب الصلاة أمر راجح احتياطاً فما كان يصنع الامام زين العابدين كان من باب الاحتياط.
لكن شيخنا الاستاذ يقول: لا معنى للاحتياط، لأن الصلاة في مشكوك التذكية صحيحة واقعاً بمقتضى حديث «لا تعاد» حتى لو كان في الواقع يشترط في صحة الصلاة كون الثوب غير مذكى. فإذا كانت الصلاة صحيحة واقعا حال النسيان أو الجهل القصوري فلا وجه للتحفظ على سبيل الاحتياط كي نحمل هذه الرواية على أنها في مقام بيان رجحان التحفظ احتياطاً.
نقول: إن ما افاده «قده»: صحة الصلاة واقعا شيء والتحفظ على الملاك الواقعي شيء اخر، فانه لا اشكال في ان جزئية القراءة في الصلاة جزئية ذكرية لا جزئية واقعية، فلو أخلّ بالقراءة نسياناً أو جهلاً قصورياً حتى ركع لكانت صلاته صحيحة بمقتضى حديث «لا تعاد»، فهل هذا يعني ان التحفظ في مسالة القراءة ليس راجحا لأنه لو لم يقرا نسيانا أو جهلا قصوريا لكانت صلاته صحيحة؟ لا إشكال ان التحفظ على القراءة أو التحفظ على الصلاة بأن يكون ملتفتا إلى اجزائها وشرائطها امرا راجح. كما انه النجاسة أي نجاسة ساتر العورة مانع من صحة الصلاة الا ان هذا المانع ذكري، بمعنى من صلى بالنجس جهلا قصوريا فإن صلاته صحيحة، لكن هذا لا يعني ان رجحان التحفظ على الثوب وفحصه من حيث الطهارة والنجاسة ليس امرا راجحاً. والسر في الرجحان هو التحفظ على الملاك الواقعي، حيث ان في الصلاة مع ساتر طاهر أو في الصلاة التامة الاجزاء والشرائط ملاكا لا يدرك بالصلاة الناقصة ولو كانت صحيحة واقعاً.
ويساعد على ذلك عدّة روايات:
منها: رواية الاشعري، «حديث 3 باب61 من ابواب لباس المصلي»: كتب بعض اصحابا إلى ابي جعفر الثاني : «ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ _المفروض ان الفرو يشترى من السوق والسوق سوق المسلمين، يعني إمارة على التذكية_ فقال: إذا كان مضمونا فلا بأس» _اي إذا ضمن لك بائع الفرو انه مذكى فلا باس_، مع قيام امارة على التذكية فلا محالة مقتضى الجمع بين ما دلّ على إمارية سوق المسلمين على التذكية وبين هذه الرواية ان يحمل «اللا بأس» على الكراهة والمرجوحية لا على الحرمة بعد قيام أمارة. إذاً فمعنى قوله الإمام ان التحفظ على المذكى أمر راجح، ولذلك إنما يتحقق هذا الرجحان بما إذا كان الثوب مضموناً.
ومنها: عن ابي بصير، سالت ابا عبد الله : «عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي ابن الحسين : رجلاً صرداً فلا تدفئه فراء الحجاز لأن دباغتها بالقرض فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلهم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة القاه والقى القميص الذي تحته، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إن اهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغته ذكاةٌ». فإن شرائه ولبسه في غير الصلاة شاهد على أن المسألة مسالة رجحان وليست مسالة الزام، وإلا لا فرق في ذلك، أنه إذا كان علي ابن الحسين يرى _كما فهمه شيخنا الأستاذ «قده» _ أن ما اشتري من سوق العراق ميتة لأن امارة التذكية غير شاملة له فشراء الميتة محل اشكال، ومع ذلك هو يشتريه ويلبسه غاية ما في الأمر إذا حضرت الصلاة القاه، فهذا شاهد على أن الألقاء من باب التحفظ احتياطاً فهو أمر راجح لا أنه يرتب آثار الميتة على ما يشتريه من سوق العراق. فتلخص بذلك: أنّ القاء الخطاب الوارد في مقام الافتاء على نحو الترخيص اتكاء على القرينة المنفصلة غير قبيح وفي المقام لو سلمنا القبح لا ينطبق لأن الشرط شرط ذكري. إلا ان هذا لا يستلزم عدم رجحان التحفظ اختياراً.
رابعا: انما يتم كلام السيد الاستاذ «دام ظله» إذا احرزنا أن الثاني متأخر زمانا. ونحن لو جئنا وقارنا بين الروايتين، فإن معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس وردت عن أبي الحسن. ومعتبرة اسحاق ابن عمّار أيضاً وردت عن أبي الحسن نفسه، فلم يحرز أن الثانية متأخرة عن الأولى كي يقال بأن اتكاء الإمام في ترخيصه في الأولى على الثانية مستهجن والقاء في مخالفة الواقع. فإذا لم يحرز أن الثاني متأخر أم لا؟ فلعله متقدم عليه؟ فيرجع إلى ما يرجع عليه العرف العقلائي، والعرف العقلائي يقول: متى اجتمع خطابان من مقنن واحد وكان احدهما أخص مطلقا من الثاني خُصّص به.
إذاً إنما خرجنا عن هذا القانون العرفي وهو حمل العام على الخاص إذا كان الخاص متاخراً زماناً بعد وقت العمل بالعام، فإذا لم يحرز انه متأخر رجعنا إلى ما يقتضيه العرف العام من حمل العام على الخاص.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo