< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الفقه

37/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الخلل الواقع في الصلاة

ذكرنا فيما سبق: أنه قد يُستدل على جواز الصلاة في الثوب المشكوك بإطلاق معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس، حيث قال فيها: «عن الفرو والخفِّ ألبسه وأصلي فيه؟ ولا أعلم أنه ذكيٌّ؟ فكتب : لا بأس».
ومقتضى اطلاق هذه الرواية: جواز الصلاة في مشكوك التذكية سواء اشتري من سوق المسلمين أم سوق غيرهم، أي سواء قامت امارة على التذكية أم لم تقم. وقلنا: بأن هناك عدة وجوه لمناقشة هذا الاستدلال.
ووصل الكلام إلى الوجه الثاني: وهو ان هذا الاطلاق على فرض اطلاقه فهو مقيّد بعدّة روايات:
منها: معتبرة اسحاق ابن عمار: عن العبد الصالح : أنه قال: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في ارض الاسلام. قلت له: فإن كان فيها غير اهل الاسلام _الارض تشتمل على الجميع_ قال ع: إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس».
فيقال: بأن مفاد هذه المعتبرة مقيد لإطلاق معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس. بيان ذلك: ان في هذه المعتبرة فقرتين:
الفقرة الاولى: هي الفقرة المنطوقية، حيث قال: «لا بأس بما صنع في أرض الاسلام».
فيقال: إن هذا مقيد لإطلاق قوله: «لا بأس»، في معتبر جعفر ابن محمد ابن يونس. فيقيد اطلاق معتبرة جعفر بما كان من أرض الإسلام فلا يشمل ما صنع في غير أرض الإسلام.
ولكن كما تعلمون أنه لا تنافي بين المثبتين، الا إذا كان احد المثبتين ذا مفهوم، ونحن لدينا دليلان مثبتان: احدهما يقول: «لا بأس بالصلاة مشكوك التذكية»، وهو معتبرة جعفر. والآخر يقول: «لا بأس بالصلاة فيما صنع في أرض الإسلام» فكلاهما مثبت ولا تنافي بينهما.
الا ان نقول: بأن هذا القيد وهو «ما صنع في ارض الاسلام» له مفهوم، ومفهومه: ان ما لم يصنع في أرض الاسلام فلا تصح الصلاة فيه وبلحاظ المفهوم يقيد اطلاق معتبرة جعفر، فهل له مفهوم؟ أم لا؟.
لا يخفى أن المفهوم من باب مفهوم الوصف، ومفهوم الوصف كما ذكر في الاصول جزئي ومعنى انه جزئي ان غاية ما يستفاد من الوصف: ان الحكم ليس مترتبا على الطبيعي فقد، لا ن الحكم مترتب على الوصف المذكور في القضية. مثلا: إذا قال المولى في دليل: اكرم العالم، وقال في دليل اخر: اكرم العالم الهاشمي، فحينئذٍ: لوكان للوصف مفهوم كلي كالشرط، كان مقتضاه ان الاثر وهو وجوب الاكرام مترتب على الهاشمية، وأنه ينتفي عن غير الهاشمي وان كان عالماً.
واما إذا قلنا بأن الوصف ليس له مفهوم كلي أي غاية ما يستفاد من قوله: اكرم العالم الهاشمي ان طبيعي العالم ليس موضوعا لوجوب الاكرام، أما ما هو موضوع وجوب الاكرام هل هو العالم الهاشمي أو خصوص العالم العادل الهاشمي أو غير ذلك فهذا لا يتكفل له مفهوم الوصف. فغاية ما يستفاد من مفهوم الوصف ان الاثر وهو وجوب الاكرام لا يترتب على طبيعي العالم والا لكان ذكر الهاشمي لغواً، اذاً الاثر لا يترتب على طبيعي العالم؛ اما ما هو موضوع وجوب الاكرام، فهذا لا يحدده مفهوم الوصف.
فبناء على ما هو محقق في الاصول: يقال: لدينا عالم «لا بأس بالصلاة في مشكوك التذكية». ولدينا خاص: «لا بأس بالصلاة فيما صنع في أرض الإسلام»، وغاية الخاص: انه ليس طبيعي مشكوك التذكية موضوعا للأثر وهو صحة الصلاة، فإن صحة الصلاة لا تترتب على طبيعي مشكوك التذكية، أما هل تترتب على خصوص المصنوع في أرض الإسلام أم غير ذلك؟ فإن مفهوم الوصف لا يكفل ذلك.
بالنتيجة: لعلّ قوله «لا بأس بالصلاة في مشكوك التذكية» في معتبرة جعفر، خرج عنه معلوم الميتة، فيبقى غيره تحت الجواز أي ليس طبيعي مشكوك التذكية مشكوك التذكية موضوعا للاثر بل خرج عنه ما هو ميتة ويبقى غيره تحته.
إذاً بالنتيجة: لا يستفاد من معتبرة اسحاق بلحاظ هذه الفقرة تقييد لإطلاق معتبرة جعفر، لان مفهوم الوصف ليس كلياً.
الفقرة الثانية: «قلت: فإن كان فيها غير اهل الاسلام، قال: إذا كان غالب عليها المسلمون فلا بأس». فيقال: هذه جملة شرطية ذات مفهوم، ومحصله: انه إذا لم يكن الغالب المسلمين ففي الصلاة في مشكوك التذكية بأس، فببركة مفهوم الشرط في هذه المعتبرة يقيد اطلاق معتبرة جعفر.
ما أجيب عن هذا المدعى:
والكلام على المبنى المشهور بين الاعلام: وهو أنّ للشرط مفهوماً كلّياً. _لا على طبق ما هو المختار من أن الشرط كالوصف في أنه ليس له مفهوم كلي_.:
أجيب بوجهين:
الوجه الاول: ان يقال: بين مفهوم معتبرة اسحاق ومنطوق صحيحة الجعفري التي مرّت علينا في الدرس السابق عموماً من وجه، ومع تعارضهما وتساقطهما فلا يبقى مقيّد لمعتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس. بيان ذلك: عندنا معتبرة اسحاق ابن عمار، ومفهومها: أنّ الثوب المأخوذ من بلد لا يغلب عليه المسلمون، لا تصح الصلاة فيه وإن اشتري من سوق المسلمين. هذا هو مقتضى مفهومها.
في المقابل صحيحة سليمان ابن جعفر الجعفري، عن ابي الحسن : «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية أم غير ذكية ايصلي فيها؟، قال: نعم، ليس عليكم المسألة» ظاهرها: ان الثوب المشترى من سوق المسلمين تصح الصلاة فيه وإن صنع في بلد لا يغلب عليه المسلمون. فيقع التعارض بين اطلاق مفهوم معتبرة اسحاق واطلاق منطوق صحيحة الجعفري، فيتعارضان في الثوب المشترى من سوق المسلمين الذي صنع في بلد لا يغلب عليها المسلمون فإن مقتضى مفهوم معتبرة إسحاق: عدم صحة الصلاة فيه. ومقتضى منطوق صحيحة الجعفري: صحة الصلاة فيه.
فإذا تعارضا تساقطا فلا يبقى مقيد لإطلاق معتبرة جعفر لأنّ المقيد لها مفهوم معتبرة اسحاق وقد سقط بالمعارضة. فبهذا الوجه يسقط التقييد بمفهوم معتبرة اسحاق لإطلاق معتبرة جعفر.
ولكن يلاحظ على ما أُفيد:
أولاً: لابُّد من التدقيق في هذه الفقرة: «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس» ما معناها: هل أن معناها: الكناية؟، أي لوحظت على نحو الطريقية، أو أن المقصود هو المدلول المطابقي لها، يعني لوحظت على نحو الموضوعية.
فإن قيل بأن هذا كناية: «إذا كان الغالب عليه المسلمون فلا بأس» يعني: إذا كان هناك منشأ عقلائي لاحتمال التذكية. باعتبار ان غلبة المسلمون منشأ عقلائي لاحتمال التذكية. إذا دخلت بلداً ووجدت أن الأغلب منها هذا منشأ عقلائي لاحتمال التذكية بحيث يصير احتمال التذكية احتمالاً عقلائياً لأن له منشأ وهو غلبة المسلمون فتكون أرض الإسلام حينئذٍ امارة. فلا موضوعية لكلمة «إذا كان الغالب عليه المسلمون فلا باس» بل هو مجرد كناية عن وجود المنشأ العقلائي لاحتمال التذكية، فبما أنه كناية إذاً لا تعارض بينه وبين منطوق صحيحة الجعفري التي قال: «اشتر من السوق ولا تسأل»، لأن السوق ايضاً منشأ عقلائي لاحتمال التذكية. فما ذكر في منطوق صحيحة الجعفري هو من مصاديق ما ذكر في منطوق صحيحة اسحاق وليس معارضاً له.
وأما إذا قيل: بأن هذه الفقرة ملحوظة على نحو الموضوعية، سواء فسّرنا الغلبة بالغلبة العددية كما السيد الخوئي فهم، أو الغلبة بالغلبة المادية كما فهم السيد الصدر، يعني مقاليد الأمور بيد من تكون؟ إذا كان الغالب عليها «يعني إذا كان المسيطر عليها» المسلمون فلا بأس. سواء فسرنا الغلبة بالغلبة العددية أو الغلبة المادية، هل ان هذه الجملة الشرطية وردت في مساق التعليل يعني يبين العلة، أو وردت في مساق التقييد لا اكثر؟.
إن قلنا بأن هذه الجملة وردت في مساق التعليل، يريد أن يبين العلة ليست في ارض الاسلام العلة في غلبة المسلمون، المناط على العلة وهي غلبة المسلمين، فالعلة تعمم وتخصص.
إذا لدينا معتبرة اسحاق تقول: العلة في إمارية ارض الإسلام هو غلبة المسلمين، بأي معنى فسّرنا الغلبة.
وعندنا صحيحة الجعفري تقول: الإمارية لسوق المسلمين ولم تعلل. إذا نحن بين هذين المفادين: مفاد يقول: «ارض الاسلام امارة» لأنّ علّة الامارية وهي الغلبة موجودة فيها. صحيحة الجعفري تقول: سوق المسلمين أمارة. فمقتضى ذلك: أن يقدم مفاد معتبرة اسحاق على مفاد صحيحة الجعفري لأنّ اشتمال احدهما على التعليل يجعلها أظهر من الأخرى في مورد الاجتماع، فمقتضى الجمع بينهما _يعني من باب تقديم الأظهر على الظاهر_ أنّه حتى سوق المسلمين إنما تكون امارة إذا كان الغالب عليها المسلمين، إنما أرض الإسلام اصبح أمارة على التذكية لأن الغالب عليها المسلمين، كذلك إنما تكون سوق المسلمين امارة إذا كان الغالب عليها المسلمين.
فمقتضى اقوائية التعليل في الظهور: تقديم ما اشتمل على غيره وبالتالي يتخصص إمارية سوق المسلمين بفرض الغلبة أيضاً، فلا تعارض بين الدليلين لوجود الجمع العرفي.
وأمّا إذا قلت: ليس المستفاد من قوله: «إذا كان الغالب عليها المسلمون» سوى التقييد فقط، أي تقييد موردها فإن موردها بيان امارية ارض الاسلام وقيد الامام هذه الإمارية بما غلب عليها المسلمون. بل غاية مفاد معتبرة اسحاق ان امارية ارض الاسلام مقيدة بفرض غلبة المسلمين، فهي ليس كناية وليست في مقام التعليل حتى يحمل غيرها عليها، بل هي تقييد لموردها وهي إمارية أرض الإسلام.
وأما إذا قلنا انها مجرد تقييد لموردها: فقد يقال: إن ما يصار للمعارضة بين مفهوم معتبرة إسحاق وهو أنه الثوب المشترى من بلد لا يغلب عليه المسلمون لا تصح الصلاة فيه وان اشتري من السوق، مع منطوق صحيح الجعفري: ما اشتري من السوق تصح الصلاة فيه وإن اخذ من بلد لم يغلب عليها المسلمون، نقول: إنما يتعارضان لو لم يكن بينهما جمع عرفي والجمع العرفي «الأوي» وارد في المقام، نظير: إذا خفيت الجدران فقصر، وإذا خفي الأذان فقصّر. فإن العرف لا يرى تعارضا بينهما، بل يقول: هذا سبب وهذا سبب آخر، فيجمع بينهما بمفاد «أو»، أي أن سبب التقصير احدهما، هنا ايضا إذا عرضت الروايتان على العرف وإن كان بينهما عموم من وجه يقول العرف: هذا امارة وهذا امارة فيجمع بينهما بالجمع الأوي، وبالتالي حيث يوجد جمع عرفي «أوي» بينهما، لا تعارض بينهما، فإذا لم يكن بينهما تعارض فكلاهما يكون مقيِّداً لإطلاق معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس في عرض واحد.
هذا هو الوجه الأول في الإشكال. ادعي تقييد اطلاق معتبرة جعفر بمفهوم معتبرة إسحاق وأشكل على التقييد بالمعارضة ودفع الإشكال.
الإشكال الثاني: على التقييد: وهو ما ذكره السيد الأستاذ «دام ظله»: قال: أنّا يصح تقييد إطلاق معتبرة جعفر بمفهوم معتبرة اسحاق، والحال ان اطلاق معتبرة جعفر وارد في مقام الافتاء وما ورد في مقام الافتاء لا يصح الاتكّاء فيه على القرينة المنفصلة.
وبيان ذلك: إذا كان الخطاب وارداً في مقام التعليم كما في قوله: «ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر» أو قوله: «لا شك لكثير الشك». أو قوله: «لا تنقض السنة الفريضة» وأمثال ذلك من الكبريات الواردة في مقام التعليم، فحيث إنه في مقام الكبرى الشرعية وليس في مقام تحديد الوظيفة العملية للمستفتي يصح منه الاتكاء على القرائن المنفصلة. كالمدرس في الدرس قد يذكر عامّاً اليوم وبعد شهر يذكر المقدمات له لأنه في مقام التعليم، والتعليم مبني على التدرج في الخطاب فلا بأس فيه على الاتكاء على القرائن المنفصلة.
وأما إذا كان الخطاب واردا في مقام الافتاء أي تحديد الوظيفة العلمية للمستفتي:
فتارة يكون مفاد الخطاب الزام، وتارة يكون مفاد الخطاب ترخيص لا الزام.
لو كان مفاد الخطاب الزام، والمخصص الذي سيأتي ترخيص، كما لو افترضنا أنّه قال: يجب عليك أن تصوم يوم عرفة «إلزام» وبعد ستون سنة جاء خاص وقال: «لا يجب صوم يوم عرفة على المحرم» هنا لا بأس بأن يقال: الأول مخصص على الثاني. مع ان الأول وارد في مقام الإفتاء، لأنّ الالزام بما هو مباح ليس مستهجنا ولا قبيح غاية ما في الباب ان المولى الزم المحرم بالصوم مع ان الصوم مباحا في حقه، الالزام في المباح ليس فيه تفويت مصلحة ولا إلقاء في مفسدة فليس أمراً مستهجناً، إذاً إذا كان الخطاب المطلق إلزامياً وكان المخصص له ترخيصياً فإنه يخصص به وإن كان الخطاب الإلزامي وارداً في مقام الافتاء حيث لا يترتب عليه اكثر من الالزام بأمر مباح، والإلزام بأمر مباح ليس فيه تفويت مصلحة ولا إلقاء مفسدة.
أمّا إذا كان الخطاب المطلق الوارد في مقام الافتاء ترخيصياً والمخصص الزامي، وهنا مورد المحذور كما في محل كلامنا: أن يقول المولى للمستفتي: «لا بأس بالصلاة في مشكوك التذكية» مطلقاً ترخيص، خطاب مطلق ترخيصي وارد في مقام الإفتاء، بعد عشرة سنوات قال له: «إذا كان مشكوك التذكية من بلد لا يغلب عليه المسلمون فلا تصلي فيه»، هنا يقال: بأن تقييد الأول بالثاني مستهجن لان الخطاب الأول كان وارداً في مقام بيان الوظيفة العلمية، والترخيص فيما هو ملزم به واقعا مستهجن، لأنه القاء في المفسدة أو تفويت للمصلحة.
إذاً لا محالة لو بينينا على ان المخصص يقدم على العام لازم ذلك أنّ المولى عندما تكلّم في العام رخص فيما هو الزامي. إذاً لابّد أن يقول أنّ الدليلان متعارضان. فيحمل الثاني على الكراهة لا على الحرمة.
فهل هذا الكلام صحيح يأتي غدا ان شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo