< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/05/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: البراءة العقلية
 ملاحظتان:
 الأولى: إذا حصل للمكلف بعد فحصه عن البيان المحتمل القطع بعدم حصول البيان ـ فقد خرجت المسألة من البراءة العقلية، أيضاً.
 الثانية: ان الأصل العملي العقلي (سواء كان براءة عقلية أو احتياطاً) مشروط عقلاً بعدم وصول أصل عملي شرعي مخالف له، فإذا ورد أصل عملي شرعي يقول بالاحتياط إتجاه الحكم الواقعي المشكوك ارتفع موضوع البراءة العقلية عند القائل بها، وكذا إذا وصل أصل عملي يقول بالبراءة إتجاه الحكم الواقعي المشكوك ارتفع موضوع الاحتياط العقلي عند القائل به.
 ثم ان المهم في هذا البحث هو: تقييم وظيفة العبد اتجاه مولاه، فهل يجب عليه الطاعة عقلاً في التكاليف المقطوعة والمظنونة والمحتملة أم تجب عليه الطاعة في التكاليف المقطوعة فقط والأفضل له أن يطيع في التكاليف المظنونة والمحتملة؟؟
 وحق الطاعة يكون ملاكه المنعميّة التي تستبع وجوب الشكر عقلاً( [1] ) والخالقية التي تستبع الملكيّة الحقيقية عقلاً( [2] ).
 ونحن نريد هنا ان نفهم ماذا يقول العقل العملي، فهل يقول بضرورة حفظ غاية ما يمكن من حرمة الله والقيام بجميع مستلزمات احترامه، ومن جملتها القيام بما يحتمل إرادته له، أو ان العقل العملي يقول بوجوب حفظ حرمة الله تعالى فيما علم من تكاليفه فقط، وأما التكاليف المظنونة والمحتملة فلا يجب حفظ احترام المولى تعالى فيهما؟ وبعبارة أُخرى: هل حق الله في الطاعة في ما علم أنه صادر منه أو أوسع من ذلك فيشمل ما أحتمل أنه صادر منه؟
 فنقول: «كلما شكّ المكلف في تكليف شرعيّ ولم يتيسّر له إثباته أو نفيه، فلابدّ للمكلف من تحديد موقفه العملي تجاه هذا الحكم المشكوك.
 ذهب المشهور إلى أنّ تحديد الموقف العملي يكون عبارة عن «مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان» القائل بأن التكليف ما دام لم يتمّ عليه البيان فيقبحُ من المولى أن يعاقب على مخالفته.
 وهذا المسلك يعني بحسب التحليل... أن حقّ الطاعة للمولى مختصّ بالتكاليف المعلومة ولا يشمل المشكوكة»( [3] ).
 هل قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي قاعدة عقلية بديهية ومن أحكام العقل النظري؟
 ذهب المحقّق العراقي إلى أنّها قاعدة عقلية ومن أحكام العقل العملي وهي بمستوى لا يتوهّم إنكارها ممّن له أدنى مسكه [4] .
 ولكنّ السيد الشهيد الصدر شكّك في ذلك حيث رأى أنّها طرحت من قبل الاستاذ الوحيد البهبهاني (قده) وتقبّلها طلابه كالشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم وشريف العلماء وبعدهما الشيخ الأنصاري (قده)، ولكن كانوا يتّجهون إلى فهمها لغويا لا إلى فهمها عقلياً من حيث تشكيكهم في اطلاقها ولهذا شكّكوا في شمولهما للشبهة المفهومية كما إذا قال المولى: الغناء حرام، وشكّ في حداء البل من ناحية الشكّ في دائرة مفهوم الغناء، فالبيان موجود من قبل الشارع إلّا أنّه مجمل [5] .
 كما أنّ البعض قالوا بأنّ المراد من البيان ليس ما هو ظاهر اللفظ عرفاً من الكلام الدال على المعنى في نفسه، بل المراد به الكلام الدال عند السامع «وصول المعنى» والمفروض أنّ الكلام وهو الغناء لم يدلّ عند السامع على شموله للحداء، ومن هذا يتبيّن أنّ العلماء انساقوا إلى طيع ظهور اللفظ «قبح العقاب بلا بيان» فعاملوا هذه القاعدة معاملة الدليل اللفظي لا العقلي.
 وبهذا يتبيّن أنّ هذه القاعدة ليست من بديهيات العقل السليم، وممّا يؤد ذلك أنّها لم تذكر قبل زمن الوحيد البهبهاني؟!!
 أقول: إنّ القاعدة العقلية التي تدرك بالعقل العملي كحسن العدل وقبح الظلم التي لا خلاف فيها قد يحصل الخلاف في بعض المصاديق وهذا الاختلاف في المصاديق لا يكون دليلاً على عدم عقلية قاعدة حسن العدل وقبح الظلم، فقد يقال: إنّ اطلاق قاعدة قبح الظلم هل تشمل صَرْف أموال الطفل الذي ماتت أمّه على الطفل وأبيه أو لا تشمل هذا المورد، وهذا التساؤل والتشكيك لا يدلّ على عدم عقليه هذه القاعدة.
 وقد يقع التشكيك في إطلاق الأمر البديهي أو يقع الانكار لاطلاق القاعدة العقلية نتيجة شبهة حصلت لهمن إذ قد يقال: إنّ الشارع المقدّس تنحصر وظيفته في ببيان الحكم الشرعي كقوله الحمر حرام وليس من وظيفته أن يقول هذا خمر أو ذاك خمر، وقد قال الشارع الحكم الكلّي فجريان البراءة في الشبهة الموضوعية ليس صحيحاً لأنّه البيان قد صدر فلا معنى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لوجود البيان.
 وجواب هذا التشكيك هو: أنّ المراد من البيان ـ كما تقدّم ـ ليس هو الكلام الصادر من الشارع، بل المراد به هو العلم والوصول، فالقاعدة تقول بقبح العقاب بلا علم وبلا وصول، وحينئذ لا فرق بين الشبهة الموضوعية والشبهة والحكمية.
 وعلى كلّ حال فإنّ التشكيك في المصاديق أو في الاطلاق لا يسلب القاعدة العقلية عقليتها، وعدم ذكرها بهذه الصياغة لا يدل على العمل بها بدون هذه الصياغة، إذ قد تكون ببيان: «لا تكليف من دون علم»، «ولا عقاب بدونه»، «ولا تحرك واجب إلّا بعلم».
 وعقلية قاعدة قبح العقاب بلا بيان تبيّن بهذه الطريقة الواضحة والبسيطة وهي:
 لو احتملنا تكليفاً لم يطلع عليه العبد، لو يمتثله تبعاً لعدم اطلاعه عليه، فحسابه المولى بقوله: لِمَ لم تمتثل ذلك التكليف؟
 فيقول العبد: ما علمت بصدوره من قبلك رغم بحثي عنه وإفراغ وسعي فلم أصل إليه.
 فلو قال له المولى: لماذا لم تحتط؟
 فيقول له العبد: ما علمت أنّك أوجبت الاحتياط رغم بحثي عنه وإفراغ وسعي.
 فهنا تنقطع حجّة المولى على عبده وليس له أن يعاقب هذا العبد، وهذا هو المسمّى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأنّ المحرّك للإنسان هو العلم بالتكليف لا تكليف بوجوده الواقعي من دون علم به.
 وبعبارة أخرى: إنّ الشارع المقدّس له أغراض أودعها في أحكامه، فالأحكام على أقسام ثلاثة:
 1ـ ما كان الغرض فيه مهمّاً جدّاً بحيث تحرك المولى لحفظه كالنصّ القرآني الذي حفظه من الضياع قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [6] .
 2ـ ما كان الغرض فيه مهمّاً إلّا أنّه لم يصل إلى حدّ بحيث يتحرّك المولى لحفظه، فهو قد تحرّك لبيانه إلّا أنّه ترك الأمر لوصوله إلى العباد وبالطرق الطبيعية، وقد يضيع نتيجة عدم وصول الأخبار لنا صدفة، وحصل ضياع البعض.
 3ـ قد يكون غرض المولى ضعيفاً فلا يتحرّك لبيانه تسهيلاً على العباد.
 فهنا نقول: إنّ العقل لا يحكم بوجوب امتثال الحكم في الصورة الثانية والثالثة لعدم العلم، فالصورة الثانية هي مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والصورة الثالثة هي مورد قاعدة أصالة الإباحة.


[1] ـ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ سورة النحل: 18.
[2] ـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء سورة النساء: 1.
[3] ـ دروس في علم الأصول 2 / 370.
[4] نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث:199.
[5] مباحث الأصول السيد كاظم الحائري، الجزء الثالث من القسم الثاني:68.
[6] الحجر: 9.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo