< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

41/10/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الثامن ( الانحلال الحقيقي والانحلال الحكمي ) - الشبهة غير المحصورة - مبحث أصالة الاشتغال (الشّك في المكلف به)- مبحث الأصول العملية.

التنبيه الثامن: - الانحلال الحقيقي والحكمي: -

انحلال العلم الاجمالي تارة يكون بنحو حقيقي، وأخرى لا يكون كذلك، والأول يصطلح عليه بالانحلال الحقيقي وهو ما إذا زال العلم الاجمالي حقيقةً من النفس، والثاني هو أنَّ العلم الإجمالي باقٍ ولكن حكمه - وهو المنجّزية - ليس بموجود، فهو ليس له تنجيز فهذا يعبر عنه بالانحلال الحكمي، يعني بحكم الانحلال في عدم التنجيز، ومثال الانحلال الحكمي ما لو كنت أعلم بنجاسة أحد الانائين ولكن بعد ذلك رأيت النجاسة قد وقعت في الاناء الأول مثلاً، فهنا سوف يزول العلم الإجمالي حقيقةً ويتبدل إلى علم تفصيلي، لأني علمت بالنجس تفصيلاً، فهذا زول للعلم الإجمالي بحو الحقيقة ويعبر عنه بالانحلال الحقيقي.

وأما الانحلال الحكمي فالعلم الإجمالي يكون موجوداً ولكن لا يكون منجّزاً، لأنَّ حكم العلم الإجمالي هو التنجيز، فالتنجيز الذي هو حكم العلم الإجمالي يكون منتفياً فيعبر عنه بالانحلال الحكمي، أي أنَّ هذا في حكم الانحلال، ومن الواضح أنَّ أمثلته سوف تأتي، كما لو فرض أنَّ الأصل كان لا يجري في أحد الطرفين ولو لخروجه عن محل الابتلاء مثلاً، فهذا العلم الاجمالي منحلٌّ وهذا انحلال حكمي، لأنَّ العلم الإجمالي موجود، فإنه إما إناءي نجس أو إناء بيت السلطان، فيوجد علم اجمالي بنجاسة أحدهما جزماً ولكن لا تنجيز له لأن أحد الطرفين خارج عن محل الابتلاء، وإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء فأصل الطهارة فيه لا يجري لأنه من دون ثمرة فلا يجري فيه الأصل لخروجه عن محل الابتلاء فيجري في الطرف محل الابتلاء من دون معارضة فيكون هذا انحلال للعلم الإجمالي ولكن بنحو الانحلال الحكمي.

إذاً الانحلال الحقيقي والانحلال الحكمي مصطلحان أصوليان يقصد من الأول زوال العلم الإجمالي من النفس حقيقةً، أما الثاني فيقصد منه أن العلم الإجمالي بقياً في النفس حقيقةً ولكن ليس له تنجيز لعدم جريان الأصل في أحد الطرفين ولو لكونه خارجاً عن محل الابتلاء، وسيأتي تفصيل هذا فيما بعد.

موارد الانحلال الحكمي: - للانحلال الحكمي عدّة موارد: -

المورد الأول: - أن تقوم امارة في أحد الطرفين، بان عملت بأن أحد الاناءين نجس ثم تأتي أمارة تشهد بأن أحدهما المعيّن نجس، ومن الواضح أن الأمارة لا تفيد العلم وإلا لم نسمها أمارة وإنما نسميها علماً، فلو أخبرني الثقة فإن حصل لي اليقين من لامه أو الاطمئنان فسوف يصير انحلالاً حقيقياً، وإنما كان المخبر ثقة ولكن لم يحصل اليقين من كلامه وإنما من باب حجية خبر الثقة آخذ به، ففي مثل هذه الحالة يكون الانحلال حكمياً، فإذاً قامت الأمارة في أحد الطرفين على أنه نجس بخصوصه فنحكم بكونه نجساً، هذا بنحو الاجمال.

وأما بنحو التفصيل أكثر فنقول:- إنَّ الأمارة - خبر الثقة - على نحوين فتارة الأمارة التي تأتي تشد تقول إنَّ هذا الاناء نجس من دون أن تقول هو ذلك النجس المعلوم بالاجمال وإنما تقول إن هذا نجس لا أكثر، وتارةً تقول هذا هو ذلك النجس.

والفارق واضح بينهما، فإنه في الثاني الإخبار يكون مشخصاً وأن النجس الذي كان معلوماً سابقاً بالعلم الإجمالي هو هذا الطرف، أما في النحو الأول - يعني إذا شهد الثقة بأن هذا نجس ولا أقل هذا هو النجس -، وافترض أنَّ هذا الثقة رجل عاقل ويعلم ما يقوله وهو لا يعلم أنه ويوجد علم اجمالي فيأتي ويقول إنَّ هذا الطرف نجس، فهو يشهد بنجاسة هذا من دون أن يعلم بأنه يوجد عندك علم إجمالي، ومرةً يعلم بأنه يوجد علم اجمالي فيشهد بأن هذا الطرف هو النجس المعلوم بالاجمال، فإذا الفارق هو هذا فإنه في الحالة ألأولى لا يعلم بوجود العلم الإجمالي ويشهد بأصل نجاسة هذا الاناء، وفي الحالة الثانية هو يعلم بأنه يوجد علم الإجمالي فيقول إنَّ النجس المعلوم بالاجمال هو الطرف الأول مثلاً، فإذا توجد حالتان للشهادة بعد العلم الإجمالي للشهادة بنجاسة أحد الانائين فمرة الشهادة لا تشخص المعلوم بالاجمال والذي يشهد فقط يقول هذا الطرف نجس ومرة الشهادة والإخبار يشخص المعلوم بالاجمال ويقول هذا هو النجس المعلوم بالاجمال، وفي كليهما الانحلال يكون حكمياً وليس حقيقياً، والنكتة واضحة، لأننا قد فرضنا أنه خبر ثقة وخبر الثقة لا يفيد الجزم، أما أنه يحصل عندك جزم من كلامه فهنا سوف يصير الانحلال حقيقياً، ولكن نحن نفترض الآن أنه لا يحصل لك جزم كما هو المألوف في خبر الثقة، ففي مثل هذه الحالة يكون الانحلال حكمياً.

ولماذا ينحلّ العلم الإجمالي حكماً أي تزول المنجزية، فإنَّ زوال المنجزية يحتاج إلى مثبت فلماذا تزول المنجزية عن غير مورد الإخبار والشهادة، أما مورد الإخبار فقد أخبر الثقة بأنه نجس ولكن يجوز لي تناول الطرف الثاني رغم أن العلم الإجمالي موجود حقيقية في الانحلال الحكمي فلماذا تزول المنجزية؟

والجواب: - إذا فرض أن الثقة يشهد ويقول هذا هو النجس فشهادته هذه تستبطن شهادة ثانية وهي أنه يريد أن يقول ( وذاك الطرف ليس هو النجس )، فتكون له شهادة اثباتية واحدة وشهادة نفي ثانية وبما ان خبر الثقة حجة فكلتا الشهادتين تكونان حجة، فهذا الطرف يجب تركه لإخبار الثقة بكونه نجساً وإخبار الثقة من أحد الوسائل الاثباتية للنجاسة، وذاك يجوز ارتكابه من باب شهادة الثقة أنه ليس بنجس، وخبر الثقة حجة في اثبات الطهارة، فيجوز الارتكاب لشهادة خبر الثقة بالطهارة، فذاك يجتنب لإخبار الثقة بالنجاسة، وهذا يرتكب لإخبار الثقة بأنه طاهر.

وأما الحالة الثانية وهي أنَّ يشهد الثقة ويقول هذا نجس وأما الثاني فهو ساكت عنه، فهو فقط يشهد بأنَّ هذا الطرف نجس أما الطرف الثاني فلا يشهد بكونه ليس بنجس، فإذاً كيف يجوز لنا ارتكاب الطرف الثاني بعد فرض عدم زوال العلم الإجمالي حقيقةً وكيف يزول التنجّز؟

والجواب: - إنَّ التنجّز يزول باعتبار أن مورد الشهادة حينما قال ( هذا نجس )،فالأصل هنا لا يجري لوجود حجة شرعية على النجاسة وهي خبر الثقة، ومعه يجري أصل الطهارة في الطرف الثاني من دون معارض فيجوز ارتكابه لأصل جريان الطهارة من دون معارض، فالأوّل لا يجوز ارتكابه لأجل شهادة الثقة بأنه نجس، وذاك الطرف يجوز ارتكابه لوجود أصل الطهارة فيه من دون معارض.

ولكن نستدرك ونقول: - إن ما ذكرناه يتم بشرطين: -

الشرط الأول: - أن يفترض أنَّ الشهادة بالنجاسة كانت ثابتة قبل العلم الاجمالي لا أنها ثبتت بعد العلم الإجمالي، فإن كانت الشهادة ثابتة قبل العلم الإجمالي كما لو جاءني ثقة وأنا بَعدُ لا يوجد عندي علم اجمالي وقال لي إنَّ هذا الطرف نجس ثم بعد ذلك حصل لي علم اجمالي بوقوع قطرة بول إما في الطرف الأول أو في الطرف الثاني ولكن هذا العلم الإجمالي حصل بعد قيام شهادة الثقة، كما لو حصلت شهادة من أهل الدار بأنه وقعت نجاسة على هذا الفراش ولكن بعد ساعة رأيت قطرة بول وقعت إما على هذا الفراش أو ذاك الفراش، فإن فرض أنَّ الشهادة بالنجاسة كانت قبل العلم الاجمالي فالانحلال الحكمي سوف يتم، لأنه حينما يتكون العلم الإجمالي فهو يتكون والأصول في أطرافه ليست متعارضة لأنه من الأول توجد شهادة من صاح الدار أنَّ هذا الفراش نجس فالعلم الإجمالي حينما يحصل بأن القطرة إما وقعت على هذا الفراش أو ذاك فأصل الطهارة من البداية لا يجري في هذا الفراش للشهادة المسبقة، فيجري أصل الطهارة في الطرف الآخر من دون معارض، وبذلك تحقق الانحلال الحكمي، يعني أنَّ العلم الإجمالي موجود حقيقة ولكنه ليس بمنجّز لعدم تعارض الأصول في أطرافه، وإن فرض أنَّ الشهادة كانت بعد العلم الاجمالين يعني أولاً علمت بأن قطرة النجاسة وقعت على احد الفراشين وجاء صاحب الدار بعد ذلك وشهد بأنَّ هذا الفراش هو متنجّس مسبقاً، ففي مثل هذه الحالة يبقى العلم الإجمالي على المنجّزية، وذلك لتعارض الأصول في أطرافه، فإنَّ هذا الفراش الذي شهد أهل الدار بأنه نجس شهادتهم كانت بعد العلم الإجمالي بساعة مثلاً، ففي فترة الساعة يكون أصل الطهارة قابل للجريان، فيتعارض مع أصل الطهارة في الفراش الثاني، فالمعارضة بين الأصلين باقية رغم شهادة الثقة بأنه توجد نجاسة في هذا الفراش، ولكن شهادته كانت بعد ساعة من حدوث العلم الإجمالي، فالمعارضة ثبتت بين الأصول، وحينئذٍ بمقتضى هذه المعارضة يجب ترك الفراش الأول في فترة الساعة أو ترك الفراش الثاني على طول الخط، فيحصل علم اجمالي بهذا الشكل ويكون منجّزاً حينئذٍ، وبالتالي الفراش الثاني يجب تركه لمعارضة الأصل فيه مع الأصل في الفراش الأول في هذه الساعة وبالتالي يجب ترك كلا الفراشين، فيجب ترك الفراش الأول لشهادة الثقة، ويجب ترك الفراش الثاني لأجل أنَّ أصل الطهارة فيه معارض بأصل الطهارة في الفراش الأول في تلك الساعة.

فإذاً اتضح أنَّ شهادة الثقة إنما تحل العلم الإجمالي حلاً حكمياً فيما إذا فرض أنها كانت حاصلة قبل تحقق العلم الإجمالي، أما إذا كان اخبار الثقة بعد العلم الإجمالي فلا ينحل العلم الاجمالي انحلالاً حكمياً لتعارض الأصول في أطرافه بالشكل الذي بينّاه، ولا يخفى لطفه.

إذاً الانحلال الحكمي مشروط بشرطين: -

الشرط الأول: - أن يكون الموجب لسقوط أصل الطهارة - وهو مثل خبر الثقة - متحققاً قبل العلم الإجمالي، ففي أحد الطرفين تكون الشهادة ثابتة قبل العلم الإجمالي فهنا ينحل العلم الإجمالي انحلالاً حكياً ويجوز ارتكاب كلا الطرفين لجريان أصل الطهارة في الطرفين، يعني بعبارة أخرى أنَّ الطرف الأول يجوز ارتكابه لأصل الطهاة والطرف الثاني يجوز ارتكابه لأجل خبر الثقة ولا يوجد تعارض بين الأصول، وهذا بخلاف ما إذا كانت الشهادة بعد تحقق العلم الإجمالي بسعة مثلاً فإنَّ المعارضة بين الأصلين هي باقية على حالها فعلى هذا الأساس يكون التنجيز باقياً.

الشرط الثاني: - أن يفترض أنَّ الشهادة تكون من ناحية النجاسة المعلومة بالاجمال، فالمعلوم بالاجمال عندنا هو أنَّ النجاسة أصابت أحد الطرفين ويأتي خبر الثقة ويخبر بكون هذا الطرف نجس أما لو أخبر الثقة بكون أحد الطرفين غصباً فهو لم يشهد بالنجاسة وإنما شهد بالغصب، ففي مثل هذه الحالة العلم الإجمالي يبقى على المنجزية لتعارض الأصلين فيه لأن أصل الطهارة في الطرف الذي شهد الثقة بكونه غصبا يتعارض مع أصل الطهارة الطرف الثاني فيكون العلم الإجمالي منجّزاً لتعارض الأصول في أطرافه.

إن قلت: - كيف يجري أصل الطهارة والحال أننا نعلم بشهادة الثقة أنه غصب فأصل الطهارة حينئذٍ لا يجري لعدم الثرة لأنَّ هذا الطرف غصب ولا يجوز ارتكابه فإذا لم يجز ارتكابه فإجراء أصل الطهارة يكون لغواً ويجري أصل الطهارة في الطرف الثاني من دون معارض؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo